عبد المنعم الأعسم يتحدث عن ثقافة التسامح
عدنان حسين أحمد
الضحية هو الذي يبدأ بالتسامح مع الجلاد!
فعل المسامحة يحتاج إلى العديد من الرافعات النفسية والثقافية والاجتماعية
نظّمت مؤسسة "الحوار الإنساني" بلندن أمسية ثقافية للكاتب والصحفي عبد المنعم الأعسم. وقد قام بتقديم المُحاضِر وإدارة الندوة الدكتور سعد عبد الرزاق الذي قال بأن الأعسم من مواليد المحمودية عام 1940، وقد عمِل في السياسة منذ وقت مبكِّر وأُعتُقِل بعد انقلاب شباط عام 1963، وسُجِن في كركوك، ثم أُختُطِف في عام 1978 من قِبل عناصر أمنية تابعة للنظام السابق وأُفرِج عنه بعد تدخل شخصيات سياسية وإعلامية، ثم هرب بعد ذلك إلى سوريا، ومنها سافر إلى رومانيا حيث درس الصحافة في جامعة شتيفان جورجيو في بوخارست وتخرّج في عام 1982 حيث نال درجة الماجستير. عمِل الأعسم في صحافة اليمن الديمقراطية لمدة من الزمن قبل أن ينتقل إلى لندن في عام 1990 ويقيم فيها حتى يومنا هذا. أصدر الأعسم أربعة كتب من بينها "انتباهات في التراث" و "العراق عنف وديمقراطية". وصف د. عبد الرزاق فكرة التسامح بأنها "مركّبة ومعقدة جداً" وأنها بدأت في الفكر الحديث مع الإصلاح البروتستانتي الذي كان يدعو إلى تعزيز مفهوم التسامح الديني مع الأديان الأخرى. أثار د. عبد الرزاق في تقديمه عدداً من الاسئلة المهمة من بينها: إلى أي حد يمكن أن نتسامح؟ وهل يمكن أن نتسامح مع مجرمين أو إرهابيين قتلوا العديد من الأبرياء بدمٍ بارد؟ وهل هناك تسامح تام أم جزئي؟ وما إلى ذلك من أسئلة حساسة ترك مهمة الإجابة عليها للمُحاضِر نفسه.
تطبيقات عامة
استهلّ الأستاذ عبد المنعم الأعسم محاضرته بالتعقيب على المقدِّمة المستفيضة التي تفضّل بها الدكتور سعد عبد الرزاق بوصفها مكمِّلة للمحاضرة وللأفكار التي يحاول أن يلخِّصها المُحاضر. أكد الأعسم منذ بداية حديثه بأنه لن يتوقف عند موضوع التسامح وتطبيقاته في العراق الجديد لأن هذا الموضوع يحتاج إلى محاضرة أخرى، وربما تفادى الخوض في هذا الموضوع الإشكالي لكي لا يثير سجالات متوترة قد لا تنفعنا جميعاً. ولذلك فقد ولج الموضوع من باب تقديم بعض الملاحظات الأولية غير الفلسفية التي لا تتناول فكرة تطهير الذات بالتسامح، وقال بأن هذه الموضوع قديم جداً في الفكر الإنساني وحينما يتسامح الإنسان فإنه يقوم بتطهير ذاته من شوائب الحقد والكراهية. أما الملاحظة الثانية فقد كانت تتركّز حول التسامح في بُعده السياسي وليس الفلسفي أو الاجتماعي أو الديني مما تعيشه البشرية وهي تقف على مفترق طرق بين عصر التوحش والجريمة والنبّو عن الواقع وبين عصر العلم والعقل والواقعية. ذكر الأعسم أن للتسامح علاقة بعدد من المفهومات الأخرى القريبة منه مثل المصالحة التي تعني البدء من جديد بعلاقات بين أطراف وأحزاب دخلت في خصومات وحروب وتحقق شيئاً من هذا اللقاء على وفق قاعدة لا غالب ولا مغلوب، أي أن تحقيق المصالحة قد تمّ بإتفاق الطرفين بواسطة وسيط أو بمبادرة من أحد طرفي النزاع، وتتم إما على شكل إتفاق مكتوب أو غير مكتوب على أساس أفكار والتزامات أخلاقية ومعنوية. أشار الأعسم في معرض حديثه إلى العفو العام الذي تعلنه السلطات عن أناس أو جماعات مطلوبة للحكومات أو يعيشون خارج بلدانهم أو مسجونين بأحكام معينة فتعفو عنهم وتسقط هذه الأحكام وتفتح أمامهم المجال لأن يعيشوا حياة طبيعية، غير أن هذا العفو يظل مشروطاً بالتزامات محددة. أما المفهوم الثالث القريب من ثقافة التسامح فهو الحوار الذي يُعّد خياراً سلمياً للتواصل بين مجموعات مختلفة ومتصارعة ومتحاربة تجد في نهاية النفق إمكانية للحلول الوسطى التي تتمخض عن الحوار الذي يقوم على أساس توازن القوى ويرضي الأطراف المتصارعة ويحظى بقبولها علماً بأن الظروف السياسية والاجتماعية هي التي تحدد ذلك. توقف الأعسم عند مفهوم الاعتذار واحترام الرأي الآخر، أي أن تقوم جهة أو دولة أو أتباع مجموعة دينية معينة بالاعتذار من جهة أو مجموعة أو ديانة أو قومية معينة لما فعلته بالفترة السابقة. والاعتذار، بحسب الأعسم، هو ثقافة عصرية مدنية حديثة تتسابق الشعوب المتمدنة على ممارستها، كما تتسابق الزعامات على تقديمها ليس من منطلق الضعف، وإنما من منطلق الرأي والرأي الآخر. عرّج الأعسم على تقديم الدكتور عبد الرزاق الذي وصف التسامح بأنه "قضية مركبّة ومعقدة وحديثة بالنسبة لبلداننا في الأقل" وقال بأن السؤال الذي طرحه الدكتور كان وجيهاً وهو: إلى أي مدى يمكن أن نتسامح؟ ولكن قبل هذا السؤال علينا أن نطرح السؤال الأكثر أهمية وخطورة وهو: مَنْ يسامحُ مَنْ؟ وعندها سوف نلامس الموضوع ونتحسس خطورته. نبّه الأعسم إلى أن الضحية هو الذي يبدأ بالتسامح مع الجلاد. كما تطرّق إلى معادلة الضحية والجلاد، إذ قال ليس هناك ضحية من دون جلاد والعكس صحيح. تعمّد الأعسم أن يقدّم أمثلة تسامحية مستمدة من الفكر اليوناني والأغريقي لكي يمهّد الأجواء للضحايا العراقيين بأن يتسامحوا مع جلاديهم وأن لا يبقوا أسرى الأحقاد والتوترات الدفينة الماضية. وأشار إلى تجربة سقراط "Socrates" الذي خاض صراعاً ضد الاستبداد وكان يصر على وجهة نظره إلى الدرجة التي قبل أن يتجرّع فيها السم، بينما لم تكن أثينا تسمح له بالتعبير عن وجهة نظره وفارقت روحه جسده في السجن كما هو معروف. توقف الأعسم عند أفلاطون"Plato" أيضاً الذي طوّر في جمهوريته فكرة التسامح والعدالة، وعزّزها من بعده أرسطو طاليس "Aristotle" ثم جاءت الديانات اللاحقة التي أخذت بفكرة التسامح وطوّرتها مثل اليهودية والمسيحية والإسلام. وإذا كانت اليهودية قد طرحت مفهوم التسامح بشكل أخلاقي فإن فكرة المسيح أصلاً أو المسيحية قائمة على التسامح مع المستبد أو الجلاد إلى أن ظهر الإسلام الذي وردت فيه إشارات كثيرة إلى التسامح حتى أن الرسول محمد "ص" قال:" من آذى ذميّاً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله" وهذه الصياغة المهمة بقيت في قلب الفكر الإسلامي الذي يدعو إلى التسامح والعلاقات الطيبة والمتكافئة مع أصحاب الديانات الأخرى.
توقف الأعسم عند ميثاق الأمم المتحدة الذي صدر بديباجته الأولى في الأربعينات من القرن الماضي وتحدث عن حقوق الإنسان وقيم السلام والعدالة والمساواة وإلتزام البشرية بهذه القيم التي تفضي إلى ضمان حقوق الإنسان وحسن الجوار والعيش بسلام وما إلى ذلك. ثم توقف عند البند الثاني من المادة "26" من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي وردت فيه الإشارة أيضاً إلى الإلتزام بتنمية التفاهم والتسامح بين الشعوب حيث وضعت منظمة اليونسكو فكرة التسامح في قلب عملها الثقافي ثم تمخضت خلاصة الجهود الدولية عن وثيقة مبادئ التسامح.
لا شك في أن أي مجتمع يريد أن يقيم السلام الأهلي الراسخ ينبغي أن يعتمد على قيم التسامح التي تُعّد المفتاح الأساسي للسلام الأهلي غير أن تحقيق التسامح لا يتم دائماً بواسطة احترام العدالة لأن هناك أناساً يُعفى عنهم دائماً بينما يكونون مطلوبين للقانون.
الموت والعازبة
توقف الأعسم عند مسرحية "الموت والعازبة" التي عُرضت بلندن عام 1990 وهي مسرحية تشيلية أبطالها ثلاث شخصيات وهم المحامي جيراردو، وزوجته بولينا سالاز والطبيب ميراندا. تُوكل للمحامي جيراردو مهمة المشاركة في لجنة تحقيق بالجرائم التي ارتكبتها دكتاتورية أغستو بينوشيه"ِAugusto Pinochet"، وكان المحامي من دُعاة التسامح ويريد أن يخرج من هذا التحقيق مع الجلادين بما يرسِّخ السلام الأهلي في العهد الجديد. يصادف المحامي وهو في الطريق إلى منزله أن تتعطل سيارته في مكان محرج وبعد ساعات طويلة من الإنتظار تقف إلى جانبه سيارة حيث يتطوع صاحبها بالقول: أنا الدكتور ميراندا، هل أستطيع أن أقدّم لك مساعدة ما؟ وبالفعل يساعده في إصلاح عطل السيارة فيبادر المحامي إلى دعوة الطبيب إلى منزلة لتناول كوب من الشاي بهدف التعرّف عليه. وحينما يبادر المحامي بالتعريف بزوجته تصرخ قائلة: إنه جلادي!إذ كان الطبيب يشارك في عمليات التعذيب في عهد بينوشيه. تُسلّط هذه المسرحية الضوء على الضحية والجلاد، كما أنها تتناول فكرة المحامي الذي يحاول أن يقنع زوجته الضحية بأن تتسامح مع جلادها بهدف تعزيز ثقافة التسامح وترسيخ مفهوم السلم الأهلي. تفقد بولينا سالاز السيطرة على نفسها فتمسك بالمسدس وتهجم على الطبيب الجلاد وتوثقه على كرسي وتدخل معه في حوار عميق ومؤثر. ذكر الأعسم بأن هذه المسرحية قد أثارت في حينه كثيراً من الجدل حول موضوع التسامح والعدالة ومن هذه الاسئلة: هل أن التسامح يعفي الناس الذين ارتكبوا جرائم وتسببوا في أذى الآخرين؟ وهل أن الموظفين الذين ينفِّذون أوامر المسؤولين الكبار في الدولة يتحملون جزءاً من المسؤولية القانونية عن هذه الجرائم؟
يرى الأعسم أن هذه المسرحية تسلّط الضوء على الطريقة التي يتعامل فيها الضحايا المُنكّل بهم مع جلاديهم حينما يلتقونهم وجهاً لوجه، كما أشار إلى أن العديد من النصوص الروائية والمدوّنات تسلّط الضوء على هذه القضية المعقدة التي يقْدم في الإنسان الضحية على مسامحة جلاده، وفعل المسامحة بحد ذاته يحتاج إلى العديد من الرافعات السايكولوجية والثقافية والاجتماعية وخاصة حينما يكون ذات صلة بعقائد وقناعات فكرية وسياسية.
استشهد الأعسم بحكاية الأسير الإيطالي السابق بريمو ليفي " Primo Levi" الذي روى لنا في كتابه المعنون "الهدنة" كيف أخلى الصليب الأحمر سبيله من أحد مراكز الإعتقال الهتلرية ومضى في رحلة طويلة مع مجموعة من أصحابه بهدف الوصول إلى منازلهم في إيطاليا غير أن ظروف الحرب لم تكن تسمح لهم بالعودة اليسيرة إلى منازلهم فيظل يتجول في عدد من القرى والمدن فيعثر على مجموعة من الجنود الألمان الذين تقطعت بهم ويبحثون عن لقمة خبز يسدّون بها رمقهم. كان أحد رفاق ليفي قد فقدَ في الحرب أمه وأباه وشقيقته وزوجته فكيف سيتعامل مع الجنود الألمان؟ يسلّط ليفي في هذه الأثناء الضوء على الملامح النفسية والتعبيرية لهؤلاء الجنود الذين قاموا مقام الجلادين وارتكبوا الجرائم والمجازر بحق الضحايا من مختلف الجنسيات. يصل الأعسم إلى خلاصة مهمة تقول بأن رأياً عاماً يتعزز داخل المجموعتين مفاده أنهم لا يستطعوا أن يعيشوا كبشر من دون فكرة التسامح. كما روى الأعسم حادثة أخرى لأحد العراقيين المعارضين للنظام السابق حيث رأى جلاده في ساحة "الطرف الأغر" بلندن وأوشك أن ينهار ويسقط مغمياً عليه لأنه استذكر عمليات التعذيب التي كان يتعرّض لها على يديه! وحينما استفاق من شبه غيبوبته قال: "إن صوت الجلاد لايزال يرّن في ذاكرتي، ولكنني أحاول أن أنسى تلك اللحظات أو أحمل نفسي على نسيانها".
تساءل الأعسم في معرض حديثه: كيف للضحايا أن ينسوا معذِّبيهم، وكيف للشعوب أن تنسى جلاديها؟ ومن خلال هذين السؤالين طرح سؤالاً جديداً مفاده: هل يمكن لنا أن نبني سلاماً أهلياً من دون عملية التسامح؟ ومنْ يبدأ التسامح واحترام الآخر قبل غيره؟
تجارب عالمية بالتسامح
توقف الأعسم عند عدد من التجارب العالمية في التسامح من بينها أن يهود أوروبا، وهذا الرأي على عهدة المحاضر، الذين تعرضوا لأعمال التنكيل في أثناء الحرب العالمية الثانية قد قدّموا أنموذجاً جيداً للتسامح وهم يحتلون اليوم مكانة مرموقة في المجتمعات الأوروبية، ولكنه عاد وقال إن بعض يهود أوروبا قد تحولوا إلى جلادين في فلسطين، وهذا الأمر يثير قضية أخرى غاية في التعقيد وهي أن الضحية ممكن أن يتحوّل إلى جلاد في ظروف تاريخية معينة، ويمارس نفس الأساليب التي كان يتبعها الجلادون السابقون. وذكر في السياق ذاته بأن الكثير من الضحايا العراقيين في السابق ربما تحولوا إلى جلادين في الوقت الحاضر مع الأسف الشديد. ذكر الأعسم جنوب أفريقيا كأنموذج آخر لثقافة التسامح وقال إن نيسلون مانديلا أوعز بتشكيل لجنة "الحقيقة والمصالحة" كما أعلن إبقاء الأنصاب والتماثيل التي أحبّها البيض في الشوارع العامة وعدم معاقبة الشرطة البيض والآخرين الذين قتلوا أو عذبوا دفاعاً عن سياسة التمييز العنصري عن جرائمهم التي ارتكبوها وبأن أسماءهم لن تنشر علانية. وأشار إلى أن ميتران قد تسامح مع بوسكيه، المدير العام للشرطة في باريس والمسؤول عن تسميم "13" شخص مطلوب إلى القوات الهتلرية ومعهم أربعة آلاف طفل، وقد حدثت ضجة كبيرة بسبب صدور قرار الإعفاء عن الجلاد وقال في حينه:"نحن لا نستطيع أن نعيش حياتنا كلها سجناء هذه الذكريات وهذا الحقد". وقد أيّد الرئيس بومبيدو ذلك أيضاً.
توقف الأعسم عند الأرجنتين التي شهدت حرباً شرسة عام 1979 وكان له موقف من الضابط البحري أدولفو سيلينغو الذي قتل بيديه "30" ضحية وقد دونت إفادته في المحضر وقد اعترف بنفسه بقتلهم جميعاً وذكر في أثناء المحاكمة قائلاً:"أكون منافقاً إذا قلت إنني أشعر بالندم على ما فعلت، وأن ما قمت به هو تنفيذ للأوامر ولأننا كنا آنذاك نخوض حرباً فقد كنا نقتل البشر". لقد عفا كارلوس عن سيلينغو وعن ضباط آخرين ارتكبوا جرائم كثيرة أسفرت عن قتل واختفاء "13.000" مناوئ طبقاً للسجلات الرسمية.
وفي السياق ذاته أشار الأعسم إلى أن اليابان قد تجاوزت كلها ثقافة وإرادة مأساة هيروشيما وأنها وضعت الماضي المؤلم وراء ظهرها لأن نظريتها في التسامح تشدد على ضرورة العمل عدم تكرار الماضي لا العمل على القصاص من الناس الذين صنعوا ذلك الماضي المفجع.
وقبل الإنتهاء من محاضرته توقف الأعسم عند تجربتين عراقيتين في موضوع التسامح أشار لها قرار القيادة الكردية بعد الانتفاضة بمسامحة أولئك الناس "الجحوش" الذين حملوا السلاح إلى جانب الجيش العراقي وآزروه في مقاتلة أبناء جلدتهم. كما أشار نص في وثائق المؤتمر الوطني العراقي في عام 1993 حيث أصدر المجلس التنفيذي للمؤتمر الوطني العراقي تقريراً بعنوان "الجرائم ضد الإنسانية والانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية" حيث رحّب بتجربة القيادات الكردية بالعفو عن الجماعات المحلية المسلحة التي كانت تقاتل إلى جانب الجيش العراقي في أثناء انتصار الانتفاضة في إقليم كردستان العراق، وقد وردت في التقرير أكثر من إشارة إلى فكرة التسامح.
أسئلة ومداخلات
اختار الدكتور سعد أن يكتب أسماء السائلين والمعقبين دفعة واحدة وهي طريقة غير عملية في مثل هذه الندوات خصوصاً وأن عددهم قد بلغ "14" شخصاً وهو عدد كبير جداً لا يستطيع المحاضر أن يتذكر جميع أسئلتهم ما لم يدوِّنها أو يختصر أبرز محاورها، وكان عليه أن يقسّم هذا العدد إلى ثلاثة أقسام في الأقل ويجيب عليها بشكل متتالٍ لأننا بالنتيجة سنستمع إلى الأسئلة فقط ونخسر فرصة الاستماع إلى الأجوبة وهذا ما حدث بالضبط. سنتوقف عند أبرز الأسماء التي أثارت الأسئلة والمداخلات وألتمس العذر من القرّاء الكرام لأن بعض السائلين لم يذكروا أسماءهم الكاملة.
طالبَ د. خالد التميمي بعقوبات رادعة للجلادين. فيما قال الكاتب والصحفي معد فياض إن الناس البسطاء هم الذين يتسامحون أما المثقف والسياسي فكلاهما معقد ولا يبادر إلى العفو. وطلبَ من الأستاذ الأعسم أن يتحدث عن تجربته الشخصية في السجن لأنها غنية في هذا المضمار.
اقترحَ د. فاروق بعدم زج الدين في قضية التسامح وذكر أمثلة للتفجير الذي حصل في النرويج وتفجير الكنائس في العراق ومصر. وفيما يتعلق بيهود أوروبا قال إن الأعسم لم يقرأ تاريخ الحرب العالمية الثانية أو أن قراءته تقتصر على جانب واحد. أما بصدد التسامح فقال إن الجلاد هو الذي يقرِّر وليس الضحية كما جاء في سياق المحاضرة. وأشار إلى أن العديد من القياديين البيض في جنوب أفريقيا رفضوا فكرة الاعتذار. وفي السياق ذاته ذكرَ بأن وطبان التكريتي هو الشخص الوحيد الذي اعتذر أما البقية فلم يعتذر منهم أي شخص ولا يزالون مصرين على مواقفهم السابقة.
ذكرَ أميل كوهين بأن يهود أوروبا سامحو ألمانيا، لكنهم لم يسامحوا النازيين وهناك فرق شاسع بين الاثنين ولا يزالون يطاردون النازيين في مختلف بقاع الأرض.
أكد د. صباح بأن التسامح يحتاج إلى الوعي والشعور بالمسؤولية والحُب وأعادَ إلى الأذهان مقولة لوركا عن الحب الحقيقي الذي يحدد العادل. كما شدّد على القول بأن المصالحة في جنوب أفريقيا كانت مشروطة بالاعتذار.
أما الدكتور رضا الظاهر فقد قال إن ثقافة التسامح تعتمد على الجلاد والضحية في آنٍ معاً. وهو لا يعتقد بإمكانية تطبيق التسامح في العراق لأن هذه الثقافة غير سائدة هناك. ووصف الطبقة السياسية الحاكمة في العراق بأنها عاجزة وتمثل ثقافة التخلف. وأضاف علينا أن نمضي في هذا السبيل سواء مع هذه الحكومة أو مع القوى السياسية والاجتماعية في العراق. وفضّل عدم مقارنة هذا الموضوع مع ألمانيا واليابان وجنوب أفريقيا. وتحدث طويلا عن مؤلفة كتاب عن موضوعة التسامح تلتقي بجلاد وتصافحه ثم تتصور أنها قد تصاب بالجذام جراء تلك المصافحة!
أشار الأستاذ محمد الموسوي إلى أن ثقافة التسامح تحتاج إلى مستلزمات وظروف غير مهيأة في العراق، وأن المصالحة التي تجري وراء الكواليس لا تفضي إلى نتائج ملموسة. وذكرَ بأن اليهود لم يسامحوا النازيين وأن جرائمهم لا تسقط بالتقادم الزمني.
سأل الاستاذ سمير سؤالاً دقيقاً ومركزاً مفاده: كيف يمكن التوفيق بين التسامح والعدالة؟ ورأى أن الأفكار المطروحة في هذه المحاضرة بغض النظر عن توافقها واختلافها هي حيوية ومفيدة للعراق في المرحلة الراهنة.
أشار د. عبد الهح الموسوي إلى أن المحاضر قد أعطى أمثلة كثيرة استقاها من العالم الغربي سواء من عمق التاريخ أو من الوضع الراهن، وتساءل قائلاً: هل أن مصطلح التسامح الحالي يصلح لأن يمارس في العراق أم أنه بحاجة إلى طرح آخر وتعريف جديد يقع ضمن ما أشار إليه الأستاذ معد فياض بأن الناس البسطاء يتسامحون، بينما لا يتسامح المثقفون والسياسيون؟
تساءل خالد القشطيني قائلاً: هل يجب قمع الأفكار والسماح بأفكار أخرى، وإذا كنتَ تؤمن بقمعها فما هي المسطرة التي تقيس بها وتقول هذا يجوز وذاك لا يجوز؟
عبد المنعم الأعسم
أجاب المحاضر على مجمل الأسئلة بصورة عامة ولم يخض في التفاصيل الدقيقة لكل سؤال أو تعقيب على حِدة الأمر الذي يدعو مدير المؤسسة الأستاذ غانم جواد للتدخل في المحاضرات المقبلة وإيجاد صيغة مناسبة لآلية النقاش بين المحاضر والحضور، وأنا أقترح أن تكون سؤالاً تعقبه الإجابة مباشرة أو تدوين كل أربعة أسئلة ثم الإجابة عليها بشكل وافٍ كي لا تذهب أسئلة الحاضرين أدراج الرياح. بدأ المحاضر إجابته بالقول: "أعتقد أن مهمتي صعبة وشاقة". ثم أضاف قائلاً:" أنا استهللت المحاضرة بالإشارة إلى أن الموضوع العراقي كان خارج هذه المحاضرة بالمعنى التفصيلي"، أي أنه لن يعكف على ترجمة مفهوم التسامح أو تطبيقاته على الواقع العراقي على اعتبار أن التسامح يتحقق في ظروف جديدة يتجاوز فيها البلد حالة الحرب وتداعياتها، وينتقل إلى البناء السلمي، وعند ذاك نكون مؤهلين للخوض في غمار هذا الموضوع الشائك. أكد المحاضر بأن تطبيقات التسامح على الحالة العراقية تحتاج في الأقل إلى ساعتين أخريين وهذا ما لا نستطيع تحقيقه لأننا محددون بسقف زمني علينا الإلتزام به. أشار المحاضر إلى أنه منذ البداية قد فرّق بين التسامح والمصالحة والعفو العام والاعتذار وقال بأن الضحية، الذي يمتلك غالباً قيم الفروسية، هو الذي يقدم على مسامحة الآخر، لكن المحاضر أثار سؤالاً مهماً استخلصه من أسئلة الحاضرين مفاده: عن مَنْ مِنَ الجلادين يمكن أن نعفو، وعن منْ مِنَ الجلادين لا ينبغي أن نعفو؟ ذلك لأن أغلب السائلين والمعقبّين يريدون تأكيد فكرة القصاص من الجلادين لكي يكونوا عبرة لغيرهم، ولكي يضمنوا أن لا تتكرر مثل هذه الظواهر في المستقبل القريب أو البعيد. ذكر الأعسم بأنه لا يعطي لنفسه الحق في تصويب الآراء التي تُطرح في مثل هذه الندوات على اعتبار أن كل سائل لديه تجاربه الخاصة، وأن كل شخص يطِّل على الموضوع من زاويته الشخصية. توقف الأعسم عند إلتماس الأستاذ معد فياض في أن يتحدث عن تجربته الشخصية في مواجهة جلاده فقال في هذا الصدد:" أنا في مرة من المرات التقيت بجلادي في نقابة المعلمين في المنصور وواجهته وجهاً لوجه فأحسستُ بالانهيار لأنني تذكرت لحظات التعذيب". وأضاف أن أغلب الحاضرين ربما يكونوا قد واجهوا جلاديهم في مرحلة ما ولا أعتقد أن أحداً منكم قد فكّر أو يفكِّر في قتل جلاده بطريقة من الطرق. أكد الأعسم بأنه يقبل جميع الملاحظات والمداخلات التي تتعلق بموقف اليهود من النازية ولكنه كرر القول بأنه تحدث عن اليهود وعلاقتهم بأوروبا، وقال بأن ما يعرفه جيداً أن اليهود في المجتمعات الأوروبية قد تسامحوا مع هذه المجتمعات التي اقترفت الكثير من الذنوب بحقهم. وأضاف بأنه لن يرد على الملاحظات والأسئلة التي تتعلق بالعراق لأنه متفق مع جميع الآراء التي وردت ماعدا سؤال مفاده: مِن أين نبدأ في تحقيق التسامح في المجتمع العراقي؟ أفاد الأعسم من تعقيبات الحاضرين التي ركزت على ترويج ثقافة التسامح أولاً وتعزيزها بين أوساط المجتمع العراقي لأن هذه الثقافة تحقن لنا المزيد من الدماء البريئة التي يمكن أن تسيل من دون مبرر في حال استمرار موجات الكراهية ودورات الانتقام، ولكنه رأى أن مفهوم التسامح هو عملية ثقافية تراكمية مستمرة سوف نقطف ثمارها في المراحل اللاحقة. توقف الأعسم عند موضوع الإسلام وقال إن فيه الكثير من دعاة التسامح، وهؤلاء ينتمون إلى حركات اجتماعية ويحتلون مراكز دينية مهمة يدعون من خلالها لتعزيز فكرة التسامح في المجتمع العراقي. ذكر الأعسم بعض الآيات القرآنية التي تعزز أطاريحه من بينها: "وادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" إلى آخر الآية الكريمة وقال بأن هناك آيات كثيرة تدعو إلى حسن الجوار والانفتاح على الآخر. وأكد في حديثه على أنه لا يعني الناس المتشددين الذين يعتكزون على آيات محددة ويفسرونها تفسيراً خاصاً يخدم أهدافهم السلفية المتخلفة التي لا تتلاءم مع روح العصر، وهو لا يريد أصلاً الخوض في شعاب هذا الموضوع الإشكالي الشائك. وتمنى الأعسم في نهاية حديثه على الحاضرين جميعاً أن يكونوا متسامحين لأن أكثرهم ضحايا النظام السابق والأنظمة المتخلفة التي تتوالى على حكم العراق.