التسامح كخيار أخلاقي للعقلانية ومحنة المثقف في الحضارة العربسلامية
علاء اللامي
العقلانية والتسامح : سنحاول في هذه المقاربة، أن نعطي لقضية بالغة الأهمية والحساسية، عالجها المفكر الراحل محمد عابد الجابري بشكل مسهب ضمن نطاق انشغال آخر، ألا وهي قضية محنة المثقف في التراث العربسلامي واضطهاده بسبب آرائه ومعتقداته، نحاول أن نعطيها بعدا آخر يتعلق بالعلاقة بين العقلانيةِ فلسفةً وسياسةً و تاريخا، وبين الجانب الأخلاقي المعياري المفترض لها. بكلمات أخرى، نحن هنا، نتساءل ونحلل الكيفيات الممكنة للعلاقة الناجزة بين العقلانية والأخلاق من خلال الامتحان التاريخي لها، في مناسبة محددة هي محنة الفقيه أحمد بن حنبل البغدادي الشيباني (164 هـ- 241هـ/ 780م- 855م ) مؤسس المذهب السني المعروف باسمه، ومعه عدد من معاصريه من الفقهاء والعلماء والمتكلمين في ما عرف بقضية "خلق القرآن " في عهد هيمنة المعتزلة على السلطة في عهد الخليفة المأمون وأخيه المعتصم وابن هذا الأخير الواثق. هي إذاً مناسبة اضطهاد فقيه ظاهري على أيدي ممثلي أو زاعمي تمثيل العقلانية. محاولين الخلوص إلى أن هذه المحن وشبيهاتها في تراثنا العربسلامي وخارجه، إنما تحمل وتؤكد مغزى واحدا، هو أن التسامح يشكل جوهرا معياريا عضويا ومهما في بُنية العقلانية، أو ينبغي أن ينظر إليه كجوهر معياري عضوي ومهم في تلك البُنية، في أي تقييم أو تحليل لأي نزعة أو مدرسة أو شخصية مفكرة توصف عادة بالعقلانية، وعلى اعتبار مفاده أن هذه العقلانية حين تتخلى عن هذا الجوهر المعياري الأخلاقي تغدو نافلة وسلبية من الناحية الأخلاقية، وأن لا فرق في الواقع بين اضطهاد " تنويري " قد يكون معتزليا – أو لبراليا في عصرنا - واضطهاد آخر " ظلامي " قد يكون سلفيا محافظا أو دكتاتوريا في عصرنا. وإن من باب أَولى أن تتساوق قيم التسامح والحرية وتنسجم مع أفكار التنوير والعقلانية لا العكس، فإن حدث العكس فالإدانة ينبغي أن تتوجه للمرتكبين بغض النظر عن الفكر التنويري الذي يزعمون اعتناقه.
تحفظات على مفردة "تسامح" :
وقبل نبدأ باستعراض قراءة المفكر الراحل الجابري لمحنة الشيخ أحمد بن حنبل، نود أن نسجل التحفظ الذي يمكن سوقه على مفردة " التسامح " ذاتها، كمرادف عربي لمفردة " توليرونس " الفرنسية والانكليزية، والتي تحيل – في هاتين اللغتين - إلى دلالات ومعاني الاحتمال والتَحَمُّل والتَقَبُّل والتساهل وأخيرا التسامح كمعنى أخير/ انظر " المنهل " لسهيل إدريس و" المورد " لبعلبكي . في حين أن معناها في العربية – وخصوصا المنطوقة لا المكتوبة، أي اللهجات المعاصرة لا الفصحى - اختلط بمعانٍ مستحدثة تحيل إلى الغفران والعفو، مع أنها في القواميس العربية القديمة ترادف " التساهل " / انظر لسان العرب /جذر سهل. ومن اللافت والمعبر أن مرادف " تسامح " في الفارسية الحديثة، والتي تحتشد بآلاف الكلمات والصِّيغ العربية، تأخذ كلمة عربية قريبة من المعنى الذي يحيل إليه المرادف الفرنسي والانكليزي فالتسامح في الفارسية هو " تحمُّل" وليس " تسامح"/ فلتراجع في مترجم كوكل على العنكبوتية. وعموما، فنحن نتحفظ على المدلول التي تحيل إليه مفردة " تسامح" العربية والتي تَستبطِن وتحيل إلى معنى مهين للطرف الذي يقع عليه فعل التسامح، فحين يتفاخر البعض بأنه يؤمن بالتسامح مع المسيحيين أو الصابئة أو اليزيديين فكأن هؤلاء ارتكبوا خطأ أو جريمة حين اعتنقوا أحد هذه الأديان، و " صاحبنا " يتسامح معهم ويسامحهم على " فعلتهم " هذه! في حين يوجب المنطق الحضاري السليم، ومبادئ المواطَنة في عصرنا، فهما آخر للتسامح يحيل إلى وجوب الإيمان بأنهم أصحاب حق غير قابل للمساومة أو التجزئة في اعتناق أديانهم ومعتقداتهم ولا فضل لنا عليهم في ذلك مثلما ليس لغيرنا فضل علينا حين نؤمن بديننا الإسلام في غير بلادنا ومجتمعاتنا.
وعلى هذا وبسببه، فالقول بمفردة التسامح، المحيلة إلى "المسامحة " لا إلى " السماحة " مع المختَلِف والمخالِف لنا دينا أو عقيدة، يؤدي إلى النظر إليه وكأنه ارتكب معصية أو خطيئة حين آمن أو اعتقد بهذا الفكر أو الدين، ولهذا يتم التسامح معه، ولا تشير في معناها الأول إلى القبول بالآخر والتساهل والتحمُّل بقصد التعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد.
المحمول الأخلاقي :
لقد عالج الباحث الراحل محمد عابد الجابري محنة ابن حنبل في كتابه ( المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد) .
قبل أن نبدأ باستعراض رؤية الجابري لمحنة ابن حنبل، نود الإشارة إلى أنه لم يكن معنيا مباشرة في مقاربته بالمحمول الأخلاقي كشأن منفصل ومستقل، كما نحاول نحن أن نفعل، لأسباب تعريفية في المقام الأول، هذا ما يوحي به تنبيهه الذي قال فيه ( هدفنا – إذن - من هذا البحث هدف علمي محض لا نرمي من ورائه إلا إلى تقديم فهم لهاتين المحنتين يجعلهما تكتسيان ما يكفي من المعقولية...سيمكننا من تعميق فهمنا لما يجري في عصرنا وفي عالمنا العربي والإسلامي من صراع بين الدولة ورجالها، وبين ما يعرف في خطابنا المعاصر بـ " الأصوليين " و "الإسلاميين المتشددين" ص 68 المثقفون)
إن جَعْلَ المحنةِ معقولةٌ، يعني جعلها ذات أسباب كافية لإزالة العجب والغموض عنها. ويمكن أن يفهم هذا الكلام بأكثر من مستوى و طريقة، ولكنه يعني ضمن ما يعني، أن هدفه لم يكن، من الناحية الإجرائية البحثية، هدفا أكاديميا ماضويا.
لن نطيل في الاستعراض التاريخي المسهب الذي قدمه الراحل الجابري لتفاصيل محنة الشيخ ابن حنبل، وسنلجأ إلى الاختصار والتكثيف، في مفاصل محددة ومنتقاة:
- بدأت محنة ابن حنبل، ومعه عدد آخر من فقهاء وعلماء ومتكلمين من أهل الظاهر، حين قرر الخليفة المأمون تسْيِّيد نظرية المعتزلة القائلة بمخلوقية القرآن وكونه مُحْدَث لا قديم، واعتبارها وجهة نظر رسمية للدولة، على اعتبار أن القول بقدِم القرآن وجعله مطلَقا آخر إلى جانب المطلَق القديم أي الله، وهذا يعني – كما يقول المعتزلة -الشرك بالله تعالى، والقول بوجود أقدمَين اثنين : الله والقرآن. وقد خضع أولئك الضحايا لامتحان عقائدي حكومي، فتنكر أغلبهم للقول بالقِدَم و أجهروا القول بالمخلوقية، وثبت جمعٌ منهم على رأيه النقيض فتعرضوا للتعذيب، وقُتل عدد منهم بشكل شنيع ومن هؤلاء كان ابن حنبل والذي وإن لم يُقتل، ولكنه تحمل التعذيب والإذلال والحرمان ببسالة وإخلاص نادرين.
- يعتقد الجابري أن الأسباب التي تقف خلف محنة ابن حنبل لا تقوم على أساس الخلاف العقائدي المتعلق بالتفاصيل والجزئيات، بل أن هناك أسباب سياسية تتعلق بشعور المأمون بالخطر من تحرك للمعارضة المتعاطفة مع الأمويين الذي بدأ يأخذ شكلا جماهيريا عريضا اتخذ من القول بأقدمية القرآن وعدم مخلوقيته شعارا له. وعرضا نقول إن الحيثية الخاصة بمعارضة أموية جماهيرية مستغرَبة جدا، إذْ لم ترد من قبل في مصدر قديم ولم يقل بها باحث معاصر، أكثر من هذا، فإن الباحث يعتبر أنها ( قضية سياسية كبرى .. قضية تهدد أمن الدولة واستقرارها ومصيرها. ص 73 /المثقفون).
- يصرح الجابري في مقاربته أن محاولته لفهم وتفسير أسباب المحنتين في ضوء نظرية طبائع العمران الخلدونية، أو طبائع الاستبداد بتعبير الكواكبي، هو جعلها معقولة سببيا، وليس بمعنى أنها مبررة أخلاقيا، فهو يدين الاستبداد والمستبدين الذين تسببوا بهذه المحن، وهو يثبت، وبلغة لا تحتمل اللبس أن الاستبداد واحد سواء كان ( استبدادا "جاهليا" كاستبداد الحجاج أو استبدادا "مستنيرا" كاستبداد المأمون العباسي والمنصور الموحدي /ص 120 /المثقفون ) وهنا، في كلمات الجابري هذه بالضبط، نضع اليد والعين والعقل على النواة الصلبة التي يشخص عليها ما يمكن تسميته المنحى الأخلاقي للعقلانية النقدية، أو بكلمات أخرى منظومة قيم التسامح كخيار للخطاب العقلاني النقدي.