فلسفة التسامح ومنظومة الاحتمال العقلاني
ميثم الجنابي
أن إحدى القضايا الأكثر جوهرية بالنسبة للرقي الإنساني الحقيقي تقوم في كيفية ومستوى تأسيس الرؤية العقلانية عن التسامح، أي منظومة القيم القادرة على بناء التجانس الفعلي في كينونة الفرد والجماعة والأمة والثقافة والدولة تجاه النفس والآخرين. وهي مهمة يتوقف تحقيقها على مستوى تأسيس حقيقة التسامح. وبما أن التسامح هو شكل التعايش العقلاني للقيم، من هنا تصبح مهمة تأسيس منظومة القيم وتعايشها الطبيعي الصيغة العلمية الضرورية للتسامح نفسه.
غير أن هذا التأسيس ليس فعلا إراديا محضا، بقدر ما انه يتراكم في مجرى صيرورة القيم بوصفها منظومة. بعبارة أخرى، إن لكل أمة وثقافة منظومتها الخاصة عن التسامح. وهو الأمر الذي يجعل من اكثر المنظومات القييمية تسامحا جزء من معاناة الأمم نفسها. ومن ثم لا يمكن لأية منظومة مهما بدت راقية في تأسيسها العقلاني قادرة على أن تكون منظومة كونية. وهو الأمر الذي جعل ويجعل من التسامح قيمة نسبية ومطلقة. بمعنى أهميتها المطلقة للثقافة القومية ونسبيتها بمعايير التجارب العالمية (التاريخية).
فقيمة التسامح تنبع وتتراكم في مجرى تجارب الأمة والثقافة القومية. من هنا نسبيتها بمعايير الرؤية العالمية. وليس مصادفة أن نرى في التاريخ القديم والمعاصر تسامحا تجاه النفس والقيم الأخلاقية ومنهجيات العلم والعمل الخاصة، وعداء تجاه الآخرين. وهو واقع يدلل على صعوبة وعدم دقة الحديث عن تسامح مطلق. أما المطلق الوحيد هنا فهو القيمة المجردة للتسامح بوصفه النسبة الضرورية في نظام السمو الإنساني. وهي قيمة اقرب ما تكون إلى فكرة الواجب الأخلاقي أو المرجعية المتسامية.
فالثقافات الكبرى عادة ما تتراكم في صراع حاد وعنيف أحيانا لترتقي إلى إدراك قيمة الخلاف والاختلاف بوصفهما أسلوبا ومنهجا للعلم والعمل. وحالما يتحول الخلاف والاختلاف إلى حق وحرية، يصبح التسامح أسلوبا لترقيتهما في العلم والعمل. وفي هذا تكمن قيمته الفعلية بالنسبة للرقي الإنساني في مختلف نواحي الحياة المادية والروحية. وليس مصادفة أن تصل الثقافات العالمية الكبرى في مجرى تطورها إلى الانفتاح الداخلي والخارجي، لأنها تدرك بفعل منطق التطور الروحي إلى ضرورة تجاوز الحدود التي تفرضها نفسية الغريزة، أو ما كانت الفلسفة القديمة تطلق عليه اسم القوة الغضبية. وهي الحالة التي تبلغها الثقافة المزدهرة عندما ترتقي في مدارج الإدراك الروحي للحقيقة القائلة، بان التسامح في حقيقته هو منظومة التكامل الإنساني في دروب الحرية والنظام.
فعندما ننظر على سبيل المثال إلى الثقافة الإسلامية في مجرى تطورها التاريخي وازدهار، فإننا نرى الانتقال التدرجي والتراكم النوعي في مواقفها من النفس والآخرين. بمعنى انها مرت بدروب المعاناة الفعلية في قبول الخلاف والاختلاف وتحوله إلى "رحمة إلهية". وانتقال ذلك لاحقا إلى مختلف مناهج العلم والعمل بحيث جعلت منهما أسلوبا لترقي المعرفة العقلية والروحية. وارتقت بهذا الصدد للدرجة التي جعلت من قبول إنجازات الأوائل والأواخر والتفاعل معها نموذجا شاملا، كما نراه على سبيل المثال في الموقف من الثقافات والأديان والأقوام (الأمم). ففي مجال الرؤية الثقافية ارتقت إلى مصاف تصنيف الأمم على أساس موقفها من العلوم والفلسفة، وفي مجال الأديان ارتقت إلى مصاف بلورة وصياغة نظرية التسامح الروحي في الموقف من الأديان وتوجتها لاحقا بفكرة وحدة الأديان. وهي فكرة استلهمت بصورة نموذجية حقيقة الأبعاد الروحية في الوحدانية الإسلامية.
فعندما ننظر إلى المواقف من الأديان في الثقافة الإسلامية فإننا يمكن تعميمها بفكرة عامة وهي أن نقد الأديان كان يصب في اتجاه بلورة مرجعية رؤيتها الذاتية عن وحدة المعقول والمنقول. وهي مرجعية شاطرها الجميع كل بمقدار تحسسه وعقله وتذوقه لها. من هنا تشابه جميع فرق الإسلام في المستوى الحسي واختلافها في المستوى العقلي واقترابها في مستوى الذوق تجاه نقد الأديان والإقرار بوحدتها في نفس الوقت. لهذا لم ينحصر نقد الأديان في علم دون آخر. وهو الأمر الذي كان يراكم الرؤية العقلانية والروحية عن وحدة الأديان. وهي فكرة يمكن التدليل على إحدى صيغها النموذجية في فلسفة ابن عربي.
فقد انطلق ابن عربي من نفس التراث الإنساني الهائل للإسلام فيما يخص الموقف من الأديان. فمن المعلوم أن المتصوفة لم يضعوا أنفسهم أمام إشكالية العقل النظري المتعلقة بماهية الأديان وطبيعة الخلاف بينها، وما يترتب على ذلك بالضرورة من تبرير واتهام ونقد وإيهام بأفضلية بعضها ودونية الآخر. لأنهم انطلقوا من ضرورة وجد ما هو موجود بمعايير المثل المتسامية. وهي مقدمة لا تخطأ في خطاها لان بدايتها ونهايتها واحدة كالقوة في المغناطيس. شعاعه يتجاذب وقوته واحدة. أما "الاندفاع" نحوه فمتوقف على استعداد المجذوب. وهي مقارنة حسية تحوي بين جوانحها على دفئ العلاقة الصوفية تجاه التعدد والتنوع والخلاف، لان الله هو القوة الوحيدة الواحدة للجذب المطلق في الوجود. وبالتالي، فان كيفية ومستوى، بل نوعية وصفة اندفاع الوجدان نحوه متوقف على استعدادها الذاتي. وهو استعداد قائم في حقائق الأشياء نفسها، إذ الكل يعبده بطريقته الخاصة بما في ذلك الحجر، كما يقول ابن عربي.
لقد أراد ابن عربي القول، بان كل ما في الوجود يرى ويسمع وينطق ويتكلم، لأنه يحيا كما يحيا كل شئ. فالأحجار أيضا تلمع وتسمع وتثير وتستثار. إنها تحمي الإنسان وتقتله، وتثير شهية السلاطين وحسد النساء، وتستفز الأغبياء والعقلاء، وتخاطب الجميع بحالها وتسمعهم رنين أصواتها في البيوت والطرقات والسجون والمنتزهات والمعابد والخرائب والمساجد والزرائب والقصور والقبور. وتعجب من له عين بألوانها ومن لا عين له بخشونتها وهيبتها، وتؤسر الفنان وهي تحت مطارق فأسه، بحيث تتطاير روحه مع كل تشظ لجزيئاتها لأنه ينحت فيها روحه، لذا يلتمع ما فيها من جمال على قدر ما يوضع فيها من روح، ويصبح "خطابها" الظاهري كلامها الباطني، لأنها تكلمه بقدر استعدادها الداخلي. فكل حجر يخاطب بلونه وشكله و"تعبيره". إضافة لذلك إنها تشدنا بخيالها المبدع في اشد أشكالها "اعوجاجا"، وذلك لان في كل حجارة "فطرة" هي ماهيتها، تعبد الله بها، باعتباره سرّ وجودها. وهو أمر يتجلى في كل شئ. إذ لا يعني أن "لكل جنس من خلق الله أمة من الأمم فطرهم الله على عبادة تخصهم أوحى بها إليهم في نفوسهم" سوى "فطرة" الأشياء أو جوهرها المتفتح في وجودها. ولعل تجليها في الإنسان اكثر دلالة ووضوحا.
فالإنسان مجبول على العبادة لأنها فطرته، وفطرته عبادة، كما يقول ابن عربي. وبما أن الأمم متنوعة، لهذا تنوعت الرسل والشرائع. لكنها تجري منهم مجرى الذات من استعدادها. ومن ثم، فان الشرائع والأديان هي من وحي نفوسهم بالهام خاص بهم. لقد أراد القول، بان عبادة الأمم لله وشرائعها وأديانها هو إبداع لوحيها الذاتي، نابع من تلقائية إدراكها له. وبما انه غير متناه لهذا وجدت كل أمة فيه ما هو مناسب لاستعدادها الخاص.
بعبارة أخرى، إن مساعي الأفراد والجماعات والأمم هو تمظهر لما في باطنها. وتجسيدها الظاهري إن كان موافقا لما في باطنها يشكل خطوة إلى الأمام في طريق الحق، وان كان مخالفا فانه عصيان الظاهر. وعصيان الظاهر أيضا عبادة لكنها عبادة خاطئة في طريق الحق. لهذا ينوب الظل في الطاعة. إنها طاعة الظاهر فقط. وفي حقيقتها هي طاعة الحس. من هنا تقييدها وضيقها وعدم اتساعها. فهي لا تستطيع أن تتجاوز الظاهر. وتبقى لهذا السبب عائمة ضمن حدود الجسد. لهذا تصنع عمرانها الخاص من هياكل فخمة فارغة من حقيقة الباطن. وهي الفكرة التي وضعها ابن عربي في عبارته القائلة "بالظلالات عمرت الأماكن". ولم يسع من وراء ذلك للقول، بان الضلال من الظلال فحسب، بل وللقول بان الظلال يؤدي إلى ضلال الروح حالما تعتقد بأنها حقيقة الباطن. وذلك لان الظلال خيال. والخيال أشباح عابرة عندما تكون ظلا للجسد، وقوة مبدعة عندما تكون ظلا معنويا لصورة معنوية.
ووضع ابن عربي هذه الفكرة في موقفه مما اسماه بأشكال التوحيد، التي ادخل فيها كل الأشكال الواقعية والمحتملة لكي يصل في نهاية المطاف إلى استنتاجه القائل، بان تنوع الأديان هو تجل للحقيقة المحمدية ودرجة من درجات إدراكها في الوقت نفسه. ومنهما تتبلور أشكال الأديان، باعتبارها درجات في التوحيد. فالجميع توحد الله، إلا أن كل منها يراه بما هو مستعد له. ذلك يعني أن تنوع الأديان بالنسبة له هو تنوع درجات التوحيد. لهذا لم ينظر إليها بمعايير المؤمنين والكفار والمشركين ولا بمقاييس الإسلام والنصرانية واليهودية والمجوسية والبراهمة. لقد حاول إظهار مستويات الظلال والأنوار، باعتبارها تجليات لأشكال التوحيد. وتوج هذه الفكرة في شعره:
عقد الخلائق في الإله عقائد وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه!
وهي فكرة نموذجية قد تكون الارقى تاريخيا وعالميا فيما يتعلق بأخلاقية وذهنية التسامح الفعلي مع تنوع الأديان بوصفه محاولات الإنسان بلوغ تمثله وتمثيله للحقيقة المحمدية نفسها، كما عبر هو نفسه عنها بصورة نموذجية في قصيدته الشهيرة (تناوحت الأرواح)
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وهو إقرار بالتنوع نابع من سموّ الروح، الذي يجعل القلب كيانا قادرا على التنوع في الصور واحتواءها في الوقت نفسه. حيث تتحول الأديان وكتبها والطبيعة وما فيها إلى تجليات للمحبة، باعتبارها سر الوجود، الذي يعطي لكل شئ معناه الخاص به، بوصفه نسبة في نظام المطلق. حينذاك يصبح الرجوع إلى النفس رجوعا إلى معالمها المطلقة. وفي هذا تكمن ماهية الخروج على عادة "الأنا" و"الآخر" والتعارض بينهما. حينذاك يصبح التسامح معيارا فعليا للحق والحقيقة. وهي إحدى النتائج العظيمة التي بلغتها الرؤية الثقافية في عالم الإسلام.
لكنها رؤية كانت تستند بأصولها وتستمد ديمومتها من معترك تاريخها الذاتي، أي انها كانت تؤسس لفكرة التسامح مع النفس والآخرين بمعايير تجاربها الذاتية. وهي الصيغة الواقعية والعقلانية الوحيدة القادرة على إرساء أسس ثقافة التسامح. وذلك لان ثقافة التسامح هي حصيلة معقدة ورقيقة للغاية تتوقف كيفية فعلها وردودها على منظومة القيم الكبرى السائدة. وهي منظومة سوف تواجه على الدوام القضايا الفعلية للتسامح من خلال الإجابة على الأسئلة الواقعية المتعلقة بماهية بالتسامح، وكيفيته، ومادته؟ وعلى أي قواعد؟ وهل التسامح قاعدة أم مبدأ أم أسلوب؟ أم انه من عيار آخر؟ وهي أسئلة كانت وما تزال وسوف تظل تقلق العقل والضمير الإنسانيين في سعيهما لتأسيس حقيقة التسامح.
فالواقع المعاصر يكشف بوضوح عن وجود تناقض في اشد الصيغ غلوا في الدعوة للتسامح. إذ تصل في حالات عديدة منها إلى نوع من الابتزاز والإكراه والاستعلاء. وهي مظاهر تشير إلى حقيقة تقول، بان التسامح ليس قيمة مجردة عن تاريخ الأمم وتجاربها ومعاناتها في كيفية حل الإشكاليات الوجودية والميتافيزيقية (المادية والروحية) التي تشكل في كلها أساس ومنظومة تراكم وفاعلية القيم. وهو الأمر الذي يستحيل معه وجود صيغة عملية واحدة لقيمة التسامح. الا انها تصبح معقولة بمعايير الحاجة الإنسانية وتكاملها في حال تحولها إلى مرجعية روحية متسامية. ومن ثم مقبولة حالما يصبح معيارها هو التأسيس الدائم والمتطور للنسبة الضرورية في نظام السمو الإنساني (الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والحقوقي).
وفي ظروف العالم العربي المعاصر، كما هو الحال بالنسبة لظروف أية أمة معاصرة، يستحيل تأسيس قيمة التسامح الفعلي بوصفها نسبة ضرورية في نظام السمو الإنساني دون تأسيس مرجعياتها الذاتية. بمعنى تأسيسها الذاتي استنادا إلى تجارب الأمة الخاصة. فمن الناحية التاريخية والثقافية تمتلك الأمة العربية تراثا إنسانيا هائلا في مجال تأسيس رؤيتها الخاصة عن التسامح. ولعل الإسلام هو نموذجه الأكبر. إذ لم تعن عالميته سوى تمتعه بالقيم القادرة على جذب وإشراك وتمازج وتكامل مختلف الشعوب والأقوام في حركة أممية واحدة استطاعت في غضون قرون عديدة إبداع إحدى اعظم الحضارات التاريخية الإنسانية. وفي مجرى تطورها الذاتي استطاعت أن تبدع منظومات علمية وعملية رفيعة المستوى من حيث تأسيسها لفكرة الحق والعدالة والانفتاح على علوم الأوائل والأواخر. والاهم من ذلك انها استطاعت أن تنجز الفعل التاريخي الأكبر في تاريخ العرب، الا وهو صهر تكوينهم في بنية ثقافية، أي إبداع أمة ثقافية (وليست عرقية) من حيث مقوماتها وغاياتها. وهي نتيجة تحتوي في اعماقها على تأسيس ذاتي للتسامح من حيث كونه فكرة ومبدأ وأسلوب وقيمة. وهو تأسيس ارتقى من الناحية النظرية والفعلية إلى أحد أنقى واجمل مظاهره التاريخية والإنسانية. لكنه تحول بسبب الانقطاع الشامل والتجزئة الفعلية بين تاريخ الدولة والأمة والثقافة إلى فكرة كامنة وليست مقدمة فعلية. وهي فكرة قابلة للتفعيل في العالم المعاصر في حالة تجاوز مرحلة الانحطاط المادي والمعنوي شبه الشامل الذي تعاني منه الأمة العربية الآن. وهي حالة غير قابلة للتذليل المادي والمعنوي بدون تأسيس منظومة خاصة للإصلاح الشامل. حينذاك يمكن لفكرة التسامح المتراكمة تاريخيا في الثقافة العربية والإسلامية أن تصبح قيمة عملية فعالية تجاه النفس والآخرين. بعبارة أخرى، يستحيل تأسيس التسامح من حيث هو فكرة ومبدأ وقيمة دون تكامل وجودها المعاصر في كيان يستند بنيانه على وحدة الدولة الشرعية والأمة الثقافية والثقافة والعقلانية. وهي الصيغة الواقعية والعقلانية الوحيدة لتأسس فلسفة عربية عن التسامح قابلة للاندماج في منظومة التسامح العالمية والاشتراك الفعال في توسيعها وتعميقها وتحقيقها.