الحضارة سقوطها ونهضتها

جهاد علاونة

كيف تسقط الحضارة وكيف تموت وكيف تعود بعض الحضارات للظهور؟ وهل الفسق والفجور نستطيع اليوم أن نقول عنهما بأنهما سبب سقوط الحضارات؟أم أن هنالك أسبابا أخرى؟ أم أن الفسق والفساد سببا من عدة أسباب؟يبدو أن كل حضارة لها طريقة منفردة في الظهور وفي السقوط وليس من الضروري أن يكون سبب سقوط الحضارة الرومانية سببا وخبرا وحيدا لسقوط كل الحضارات,فسقراط اعتبرته أثينا هو وفلسفته وكثرة جدله مدعاة رئيسية لإفساد الشباب وخروجهم عن الطاعة لذلك تحمل سبب سقوط الحضارة الأثينية,وترك الدين الإسلامي أو التهاون في تطبيق أحكام شرعه يعتبره غالبية المسلمين سببا لسقوط حضارتهم العربية الإسلامية,وهنالك رأي آخر يقول بأن تمسكنا اليوم بالدين الإسلامي هو سبب سقوطنا وتخلفنا,الآراء كثيرة وأغلبها صحيحة وليس من الضروري الوقوف على سببٍ واحد من بين كل الأسباب,واليهود اعتبروا أن انغماس سليمان الملك في الشهوات مع النساء الكنعانيات هو سبب سقوط حضارتهم بينما يرى خبراء فنيين سبباً آخر لسقوط مملكة داود وسليمان وهو ظهور حضارات أخرى أقوى من مملكة داود وسليمان,وكما يموت كل إنسان بمرض مختلف عن كل الناس تموت الحضارات بنفس الطريقة حيث تحتفظ كل حضارة بأسباب موتها.

والذي اعتبره القرآن فسقا وفجورا لسقوط المدينة أو الحضارة يُعتبر عند حضارة أخرى سببا في النهوض,فكثيرٌ من الحضارات أو الدول قامت على الفسق والفجور والتجارة بلحوم النساء البيضاء والسمراء,وإذاً ماذا عن أحزاب الرفاهية وتحقيق الرفاه والدفاع عن حقوق الإنسان!ماذا نستطيع أن نسمي الرفاهية وحقوق الإنسان؟إننا اليوم نسميها حرية شخصية وتعددية فكرية وحقا من حقوق الإنسان وهذا كله متعلق بدراسة علم الأخلاق حيث تختلف الأخلاق من مجتمع إلى مجتمع باختلاف المعايير ووزنها.

و بعض مؤسسي نظريات علم الاجتماع لم يعطوا للحضارة فرصة أخرى لتعيش بعد سقوطها أو لإعادة إحيائها مثلما فعل(أوزفولد شبنجلر) ومثلما فعل القرآن حيث يحكم القرآن وشبنجلر على الحضارة التي يغضب الله عليها بالموت الأبدي,وهنا نجد شبنجلر اصدر حكما مطابقاً لحكم القرآن بالموت الدائم على الحضارات التي كانت انبراطوريات ثم ماتت نهائيا وذهبت في طريق اللاعودة ولكنه لم يقف على نفس السبب والطريقة التي تموتُ فيها الحضارة,وارتكاب الفسق بأمرٍ من الله هو الطريقة المثلى عند الله في إسقاط الحضارة باعتبارها طريقة الله في تحويل الحضارة إلى نار مستعرة ومن ثم إلى رماد لا يشتعل أبداً ,وقال(شبنلجر)بأن الحضارة التي تضمحل وتموت تذوبُ شعوبها بعد ذلك في حضارة أخرى أقدر منها على العيش والاستمرار,وعلى النقيض من ذلك أكد (آرنولد توينبي) على أن الحضارة التي تسقط قد تعود من جديد وذلك في كتابه(دراسة التاريخ) سنة 1936م حيث تجد الحضارة البائدة الوسيلة والظروف المناسبة لإعادة إحيائها من جديد أو لإعادة نموها كما تعود الحياة للأزهار البرية والأشجار بعد أن تموت في فصل الصيف وينشف عودها الأخضر,إذ من الملاحظ أن عودة فصل الشتاء وسقوط الأمطار يعيد للنباتات الميتة عودها الأخضر اليانع.

وهذا كله على عكس ما يقوله القرآن في سورة الإسراء والمعراج حيث أن الله يسلط الفاسدين والفاسقين على القرية أو المدينة على اعتبار أنها حضارة ليدمرها تدميرا كاملا في الآية التي تقرؤونها أمامكم: الإسراء 16" وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً"

وهنا سؤال يطرح نفسه إذ كيف الله يخلق الفاسدين والفاسقين ويسلطهم على الحضارة ومن ثم يعاقبهم على فسقهم وفجورهم؟كيف يأمر الله بالفسق؟هنا أحكام كلها متناقضة تناقضا تاما.

والقرآن يجعل ارتكاب الفسق والفساد سببا في انهيار الحضارة كما يقول ابن خلدون إذ أن الجيل الأول يبني الحضارة ويتعب في بنائها ويعيش حياة التقشف والوقوف على الضروريات أما الجيل الثاني من نفس الحضارة فإنه يرتكب الترف ويمارسه بكل أشكاله وألوانه ليأت بعد ذلك جيل ثالث يجد فيه الحضارة قد ماتت وتلاشت فيضيع الجيل الثالث في الفسق وينغمر به إلى أذنيه وركبتيه ومن ثم يموت وتموت معه الحضارة كما حدث ذلك مع دولة المرابطين في الأندلس وهنالك أمثلة أخرى على ذلك كثيرة.

وهنالك أيضا حضارات ماتت وعادت من جديد لتظهر على سطح الماء وهنالك حضارات ماتت ولم تعد تظهر أو لم تعد تطفو على سطح الماء,وهنالك امبراطوريات قد سقطت بسبب تفشي الجوع حيث قام الفقراء والمعذبين في الأرض بثورة أطاحت بملوكهم وبإنبرطوريتهم

والمهم في الموضوع ليس سقوط الحضارة ولكن المهم هو كيف تسقط الحضارة ! فهل تسقط بالفسق وبالترف؟ أم تسقط بسبب ظهور حضارة أخرى مناسبة للبيئة الحديثة؟ أم أنها تسقط بسبب الجوع هذا سؤال محير جدا وبحاجة إلى كثيرٍ من الدراسة ولا نملك عليه إجابة أخرى غير التي قلناها على اعتبار أن كل حضارة لها طريقة منفردة في النمو والازدهار والموت والتلاشي,ودعونا هنا نتوقف على نظرة القرآن للحضارة التي تسقط جراء ارتكاب أهلها الفسق وهنا يجب علينا أن نكون شديدي الملاحظة في استعمالنا لكلمة الفسق,فما وصفه القرآن على أنه فسق قد لا يكون في لغتنا فسقا لأن مدلول الكلمة في هذا العصر يختلف عن مدلولها في العصور الغابرة,والمعنى من ذلك والقصد واضح ومفهوم وهو أن الفسق ليس فسقا وإنما هو رفاهية,وهنالك أحزاب سياسية تطالب بتحقيق الرفاهية لشعوبها وتسعى إلى تحسين الظروف المعيشية وإلى تحقيق المتعة في الحياة حيث تغدو الرفاهية مطلبا جماهيريا,وما يصفه القرآن بالفسق اليوم لا يعتبرُ فسقا بل يعتبر احتراما للحرية الشخصية إذ كل إنسان يستطيع أن يمارس حقوقه المدنية والشرعية في ظل دولة ومؤسسات مجتمع مدني تكفل له حريته وتكفل له ممارسة ما يشتهيه حتى لو كان (مثليا جنسيا) وهذا لا يعتبرُ فسقا ولا فجورا, يجب أن نكون حذرين جدا من مناقشة بعض الكلمات التي يستخدمها أغلبية الناس استخداما خاطئا.

وكما يزدهر بعض الناس من خلال فسقهم وفجورهم كما يموت بعض الناس ويسقطون بسبب ارتكابهم للفسق وللفجور,وبعض الحضارات تنغمر بالرفاهية وتموت بسببها كما يموت بعض الناس بالشبع الزائد,وكما ينهض بعض الناس بسبب فقرهم وجوعهم كما يسقط بعض الناس بسبب فقرهم وجوعهم ..وكما يموت بعض الناس في حوادث السير وبالأمراض كما تموت الحضارات بأسبابٍ أخرى متعددة,كما قال المتنبي:تعددتُ الأسبابُ والموت واحد.

المصدر: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=307573

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك