أنا والآخر صدام الحضارات ... الاستبداد والشعوب العربية

نضال العبود

إن مشكلة "الأنا" هي التي تنتج فكرة "الآخر"، إذ أن الحديث عن الأنا يستدعي بالضرورة الحديث عن الآخر المختلف.

ترتبط فكرة التسامح بشكل عضوي بكيفية فهمنا للأنا و الآخر، أي كيف نرى أنفسنا؟ و كيف نرى علاقتنا بذاك الآخر؟ و كيف نرى دورنا ؟ هل نحن مختارون لنسمو فوق الآخر؟ أم نحن و هو سواء بسواء و على قدم المساواة ؟

ربما نعتبر أن "الأنا" موجودة و حاضرة و معروفة (هكذا يظن من يطرح هذه الأسئلة باعتباره "الأنا" ) ، فإن "الآخر" بالضرورة غائب و مجهول و غير معروف (هكذا يكون الافتراض الأولي) ، من هذا المنظار هل يمكن تعريف "الأنا" و بالتالي "الآخر". إن الإجابات عن هذه التساؤلات المركبة هي الأخرى مركبة أيضاً.

إن المكونات و العناصر التي تشكل "الأنا" و "الآخر" كثيرة و متعددة من جهة، كما أنها متشابكة و متداخلة من جهة أخرى. فهناك عناصر ثقافية (الدين و التاريخ المشترك و العادات و التقاليد) ، و هناك عناصر اجتماعية (الطبقة، علاقات القربى و الجوار و المشاركة)، كما أن هناك عناصر اقتصادية (المستوى الاقتصادي و علاقات العمل) .

التمسك بالخصوصية الثقافية أو حتى الحضارية لا يعني رفض الآخر، و إنما يعني أن قبوله و التسليم باختلافه و غيريته، يمكن أن يؤديا إلى التعاون و الاعتماد المتبادل و صيغة القبول و الاعتراف و الحوار هي ما يعنيه البعض بمصطلح التسامح.

هذا الموقف الثقافي – الاجتماعي الذي يقبل الآخر و يقر بحقه في الوجود و في الاختلاف و التمايز، و الذي يرفض الصدام مع هذا الآخر على أرضية الخلاف نشأ عن التطورات التاريخية، و التقدم العلمي و التكنولوجي و تحسن وسائل المواصلات و الاتصال و المعلومات. هذا التقارب هو الذي خفف من حدة الفرق بين الأنا و الآخر. و هذا التواصل هو الذي جعل الآخر لا يبدو آخر بالضبط، لأن الناس يكتشفون بشكل مطرد أن عوامل التقارب و الاشتراك بينه أقوى كثيرا و أبقى من عوامل الفرقة و الشك، و هنا يكون التسامح بين الأنا و الآخر قد تخلى عن مكانه لنوع من المشاركة الإنسانية التي تهتم بمصير الإنسانية جمعاء، بالرغم من الفريق الذي احتل مساحة إعلامية كبيرة و راح يروج لفكرة صراع الحضارات و الأديان مع ما يخفيه ذلك من أهداف و مرام سياسية و اقتصادية لفئة تعتمد التعميم و الفوضى و عدم التسامح.

على أي حال يبقى السؤال مطروحاً : هل يمكن أن تستمر صيغة "الأنا" و "الآخر" لتكون هي الصيغة الحاكمة في حياتنا الثقافية – الاجتماعية؟ و هل تصلح هذه الصيغة في علاقات البشر داخل المجتمع الواحد و على مستوى البشرية كلها؟

إن الإدراك المتزايد لأخوة بني البشر في أوساط الشعوب، يمكن أن تقسم العالم إلى أنا و آخر قسمة جديدة لا تقوم على الحدود الجغرافية، أو الروابط الوطنية، أو الخصائص الثقافية و إنما قسمة تقوم على الأنا (الشعوب التي تريد أن تحيا في سلام و تنبذ العنف و الحرب)، و الآخر (أصحاب المصالح الرأسمالية الذين يشعلون الحروب لبيع منتجات الأسلحة التي تنتجها مصانعهم، أو الاستيلاء على موارد الطاقة اللازمة لصناعتهم، أو السيطرة على الأسواق لحسابهم)، هذه القسمة الجديدة أخذت تتشكل و تتصاعد و تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة و أبرزها المظاهرات ضد عولمة رأس المال و سيطرة الشركات متعدية القوميات.
و يلاحظ في التشكل الجديد تداخل الأنا و الآخر بمعنى توافق مصالح و أهداف جزء من الأنا هنا و جزء من الأنا هناك، أي تم تجاوز الجغرافية و التاريخ و الموروث الثقافي لقيم الاشتراك و التضامن في مواجهة الآخر الذي ينتمي إلى ثقافات متعددة و جغرافيات متباعدة في مثالنا عن الحركة المناهضة للعولمة.
و مثال آخر هو موقف الشعوب العربية من قضية الديمقراطية و استبداد الحكام العرب و تدخل قوى خارجية لفرض النموذج الأمريكي أو الغربي، يختلف من بلد عربي إلى آخر كما قد يختلف ضمن البلد الواحد. و ربما يرى البعض أن ينضم إلى الموقف الأمريكي ضد الحكام المستبدين على حين يرفض البعض الآخر هذا الموقف.

و ثمة سؤال آخر في موضوع الذات و الآخر : هل يمكن اعتبار الحكام المستبدين جزءاً من "هم" معادية ومضرة و طامعة و مخربة للذات الوطنية، أو القومية، أو الإنسانية عموماً؟ هل يمكن الوقوف مع أنظمة الحكم المستبدة الظالمة الناهبة ضد القوى الأجنبية التي تريد الإطاحة بها من منطلق أنهم جزء من "نحن" في مواجهة "هم"، أم أنه من الأصوب أن نعتبر هذه الأنظمة و القوى الأجنبية الطامعة "هم" في مواجهة "نحن" ضحايا الاستبداد و النهب من جانب هؤلاء الحكام، بالإضافة إلى العدوان و التخريب و التدمير من جانب هذه القوى؟
إن هذه الأسئلة الساخنة مطروحة بقوة في المنطقة العربية، هذا يعني أن هناك نوعاً من القسمة العدوانية "الأنا" في مواجهة "الآخر" و هي ليست قسمة صراع الحضارات نفسها التي بشر بها صمويل هنتنغتون، و روج لها برنارد لويس و احتفى بها اليمين الأمريكي.

بيد أن الأمريكيين العاديين ليسوا جميعاً داخلين في هذه القسمة، ذلك أن قطاعات يعتد بها لا ترى نفسها داخلة في نطاق "نحن" التي يتحدث عنها الرئيس الأمريكي. كما أن عدداً كبيراً من الحكام الذين وضعوا أنفسهم داخل "نحن" التي وضعها الريئس الأمريكي لم يكونوا يعبرون عن آراء شعوبهم.

و على صعيد المنطقة العربية، و في داخل كل بلد عربي على حدة، نجد القسمة واضحة بين "نحن" و "هم"، إذ إن إنكار التعددية السياسية في ظل حكومات مستبدة شاخت و تصلبت شرايينها، و استمرار احتكار السلطة السياسية بكل ما تعنيه من تسلط و ظلم و استبداد ، فضلاً عن فشل هذه الحكومات في الإجابة عن أسئلة التقدم و التنمية، و إخفاقها في تحقيق الأمن الداخلي و القومي هذا و غيره قد خلق نوعاً من القسمة السياسية المنافقة من ناحية، كما خلق نوعاً من القسمة العدائية بين الحكام و المحكومين من ناحية أخرى. و على المستوى الثقافي – الاجتماعي توارث التعددية الثقافية التي تقوم على الإيمان بالحوار، و بحق الآخر في الوجود و الاعتقاد و التعبير – و هي أمور لا تؤمن بها النظم المتكلسة الحاكمة في بلاد العالم العربي .

فقد اختفى الحوار أو كاد و انتقل التجريم السياسي "للآخر" المختلف و المعارض إلى الأوساط الثقافية. و زادت بشكل مخيف حوادث التلفيق و التزوير و التشهير في الأوساط الثقافية.
و نتيجة لهذا انحسر مفهوم التسامح في نطاق الحديث عن الجوانب الدينية، أما فكرة "نحن" و "هم" على أساس من الاعتراف و التعاون المتبادل ، فلا تزال بمنزلة الأمنيات على الصعيد الثقافي والاجتماعي. فهل يمكن أن نتطلع إلى إقناع "الآخر" خارج نطاق جغرافيتنا بأن يتسامح معنا على أساس فكرة الحوار و القبول بالآخر ، و نحن لا نؤمن بهذه الفكرة و لا نمارس الحوار و القبول بالآخر داخل بلادنا؟!

المصدر: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=61257

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك