الحوار الفلسفي شروط وآليات
الحوار الفلسفي
شروط وآليات
مقال
محمد نجي
طرح الاشكالية
إن تناول الحوار الفلسفي يفرض مجالا و حيزا هاما من التأني، حتى يتسنى للباحث
أن يرسم لمسار بحثه خطى تمكنه من استحضار مختلف المداخل و الاتجاهات الممكنة
لمستوى بناء أطروحة ما في علاقة مع هذا المقوم المنهجي داخل الحقل الفلسفي. من
هذا المنطلق، فإن إثارة مقولة الحوار الفلسفي بخصوصياته المتشعبة افتراضا بل
يقينا، يطرح تحديات و بذلك يستدعي استراتيجيات قصد الاحتكام إليه من جهة و
الاشتغال عليه من جهة ثانية . و بذلك فإن الحديث عن هذا المكون داخل الحقل
الفلسفي الواسع و الرحب، يولد تساؤلات و يطرح إشكاليات : فمسألة الحوار الفلسفي
إذا أضحى من الإشكاليات الشائكة و الساحرة في ذات الوقت، نظرا لعدة اعتبارات
(منهجية- مفاهيمية- أخلاقية). و حتى يتسنى لنا الانفلات من مسار تساؤلي متداخل
التموجات في شكل فوضوي قد يضيع معه الجهد التأملي الهادف بما ينبغي أن ينطوي
عليه من كفايات تحليلية، تفسيرية، تركيبية وتقويمية، فإن اللياقة الفكرية
المتبصرة تقتضي نوعا من التوجيه المنهجي و اليقظة المعرفية المتسلحة بترسانة
الأدوات المنهجية اللازمة في مثل هذا السياق. و نعني بهذه الأدوات على سبيل
المثال لا الحصر ما يمكن أن نسميه بالمنهج الاستراتيجي في التفكير و التداول.
وهذه واحدة من الضر وارت و المسلمات اللازمة عندما يراد رسم مسار واضح المعالم
يستهدف التفكير كمقولة لا نقول عنها أنها شكل من أشكال التفلسف المنخور في
صورته التقليدية الذي يسعى نحو الامتلاء للحسم في القضايا التي يطرحها، بل
المراد من هذه الضرورات هو، أولا وقبل كل شيء، الالتزام، في إطار وضعيات منفتحة
بشكل مستمر على قضايا مستجدة على اعتبار أن الحقيقة كانت فلسفية أو علمية هي
انفتاح على حد قول هايدغر . وبذلك نكون بصدد صياغة مشروع فكري ينبني على آلية
فكرية و ذهنية مرنة و متيقظة تميزها مرقاة "الاشتغال الفلسفي" و الذي يتخذ
كمتغيرات له المنهج ، الموضوع و سياقهما على السواء مجالا للاشتغال و البحث.
وهذا يدفع الباحث إلى صيرورة لولبية أبعد من أن توصف بالتناغم و الستاتيكية و
هي أقرب ما تكون بذلك من مستويات و مكونات الذهن الفاعل و المتفاعل مما يمكن من
توليد دينامية في صيرورة الاكتساب من جهة و في خلق مشاريع الإنتاج الفلسفي
الخصبة و الملتزمة بالواقع اجتماعيا كان أم سياسيا أم أخلاقيا أم اقتصاديا بل و
حتى إن تعلق الأمر بواقع أدبي أو فني أو علمي . فواقع البحث الفلسفي في مستواه
المعاصر يؤكد أن المعارف المستنبطة من دراسات سابقة في جميع المجالات قابلة
للمراجعة والتجاوز. فمجال البحث كأداة مفتوح و باب الاجتهاد مرغوب. فالمعرفة
باتت لا تستقر على حقيقة واحدة و نهائية على اعتبار أن الفهم المعاصر للحقيقة
هي انفتاح بتعبير هايدغر كما سبقت الإشارة إلى ذلك ( إن جوهر أي عصر ينعكس في
صورة العالم التي يتبناها هذا العصر أو ذاك وقد تميز الانتقال إلى الحداثة ليس
فقط باستبدال صورة العالم القديمة و لكن أيضا بتحويل العالم نفسه إلى صورة. إن
الحادثة الرئيسية في العصر الحديث هي في ذلك الفتح للعالم بوصفه صورة ولم تعد
هده الصورة تعني مجرد نسخ أو محاكاة للعالم. فكلمة صورة تعني الآن صورة منظمة
أو متشكلة والتي هي نتاج القدرة التمثيلية الخاصة بالذات. إن الذات الحديثة
تخلق الواقع من خلال التمثيل. إنها تنتج العالم من خلال إعادة إنتاجه ) إذن
الصيرورة المعرفية و الفكرية، من هذا المنطلق، انتقلت من منهج مبني على اليقين
المطلق يتبنى الحتمية في النتائج (العلوم خاصة) إلى منهج منفتح يتأسس على الخطأ
المنهجي الابستمولوجي و يتبنى الاحتمالية في النتائج (الحداثة ليست سوى ظاهرة
تاريخية عارضة والظواهر كما تأتى تفنى أما همة الإنسان فهي حقيقة باقية ببقائه)
طه ع الرحمن من محاضرته عن روح الحداثة والإبداع نقلا عن كتاب مسألة الحداثة في
الفكر المغربي المعاصر محمد الشيخ ص 147
إن الضرورة المنهجية المشار إليها آنفا تتطلب الحديث و التداول في الظروف
العامة و الخاصة التي يجب أن تميز السياقات التي ستؤطر المناخ الفكري لحوار
فلسفي معاصر. التنظير لمثل هده السياقات لتحقيق محاورات فلسفية تجعلنا نستلهم
بعض النماذج الفلسفية المعاصرة و التي امتلكت بعض الجرأة في التعامل مع التراث
الفلسفي باعتباره موروثا قابلا للنقد و المراجعة. إن هده النماذج و التي سنعرض
لبعضها ضمن هذه المحاولة هي نماذج برزت في إطار حركية الفكر الفلسفي التي ميزت
القرن العشرين. لذلك فإن الرجوع إليها ضرورة منهجية واعدة حتى نكون بصدد إرساء
منظومة فكرية متكاملة تطمح إلى تجاوز المنهجيات التقليدية . فالفلسفة، على
الأقل، في نظر جيل دولوز" تساؤل يعيد النظر فيما تراكم لديه من أجوبة. إن
الفلسفة بما هي إبداع المفاهيم، لم تعد معرفة بالمبادئ الأولى ذلك التعريف
الإغريقي الأرسطي... و حتى كانط لم يبارح هذه التسمية و إن اصطلح عليها بتسمية
أحدث " نقد العقل الخالص"
المرجع- ما هي الفلسفة جيل دولوز فليكس غتاري ترجمة ومراجعة وتقديم مطاع صفدي و
فريق مركز الإنماء القومي ص- 5 - .
إن تعريف الفلسفة من منظور إبداع المفاهيم، ينقل الفلسفة " من طوبائية( البحث
عن الحقيقة) إلى حيز أدوات البحث إذ أن المفاهيم لم تكن مفردات للحقيقة، بقدر
ما تصير أدوات أو مفاتيح تتعامل مع أجواء الحقيقة." المرجع- ما هي الفلسفة ص5 و
في نفس السياق يقول مطاع صفدي " و لقد قلنا مفاهيم، ولم نقل مفهوم . و ذلك لأنه
لم تعد ثمة طريقة واحدة بعينها تطرق باب أو أبواب الحقيقة . فإن التعددية في
المفاهيم تفترض مداخل كثيرة و متنوعة التي قد يؤدي بعضها إلى البعض الآخر....
وهذا يعني أن المفهوم ليس هو ذلك الاصطلاح المنطقي . فإن له ثمة شخصية مفهومية.
إنه ينزل إلى الحدث، وقد يغدو هو من أبرز حادثاته . لأنه لا يكتفي بإعطاء ذاته،
بل يتدخل في عملية استكناه غيره . لا أهمية للمفهوم منقطعا عما يمفهمه " المرجع
ماهي الفلسفة ص 6 . كما أن مطاع صدفي ينبه على أن" المفهوم ليس له وحدة سكونية"
المرجع السابق ص 6 . إن البحث الفلسفي من منظور إبداع المفاهيم يتطلب الانخراط
وفق شروط معينة و مقومات منهجية في صيرورة الاشتغال الفلسفي. أهمها الالتزام
كما قلنا سابقا و الذي ينبغي أن يظهر بالأساس في إطار تعاقد هادف مع الذات و
الآخر لبسط الإشكاليات الحقيقية و المطروحة بشكل مستفز. فالمسألة إذن من هذا
المنظور تحيل إلى وضعيات فلسفية على غرار وضعية – مسألة باعتبارها المقوم
المنهجي الذي يحكم بيداغوجيا التدريس وفق بارديكم الكفايات. فالوضعية – المسالة
في تقديرنا الشخصي هي المحدد الإطار لكل اشتغال فلسفي مرتقب وطموح. و هنا تدعو
الضرورة التواصلية و التفاعلية المعرفية والمنهجية إلى ربط كل تفكير و بالأحرى
كل اشتغال فلسفي بالسياقات في جميع مستويات تمظهراتها النفسية والاجتماعية و
الاقتصادية و السياسية. لقد أصبح ضروريا أن تقول الفلسفة كلمتها في ما يعترض
الفرد و المجتمع من مشاكل لا يجد العلم التطبيقي حلا لها. وبدلك نكون في حضرة
سقراط بامتياز حين دعا بإلحاح وبشكل مبكر إلى" إنزال الفلسفة من السماء إلى
الأرض". إن وظيفية الفلسفة لا تستقيم إلا بفتح مجال الاشتغال على المباحث
الأخرى وهذه مسألة ينبغي أن تنتمي إلى مقومات المنهج الاستراتيجي في المعنى
الذي حددناه في علاقته بالوضعية المسألة فهي تتمحور في صلب إشكالية الحوار
الفلسفي برمته و نعني بها عدم الاكتفاء بحقل معرفي واحد ووحيد عند كل اشتغال
فلسفي، بل ينبغي وجوبا و ليس افتراضا الانفتاح على كل الحقول المعرفية بدون
استثناء. فالاشتغال الفلسفي من منظور فرضيات و فروض الوضعية – المسألة،
الالتزام، إبداع المفاهيم و الحوار الهادف لا يقبل موضوعا دون آخر. فهو بقدر ما
ليس له موضوعا محددا و معينا فهو منتدى المواضيع تتقاطع فيه ورشات الاشتغال من
جميع صنوف الحقول المعرفية. فالحوار الفلسفي في هذا السياق وسيلة و غاية ( مفيد
أن أشير إلى أن الحوار هو معرفة كما قلت سلفا يعني أنه يؤدي إلى المعرفة عن
طريق إعداد الأسئلة الجوهرية الهادفة إلى الحصول على المعرفة الموضوعية الدقيقة
و بذلك يحصل التصور الصحيح للحقائق ومعلوم أن السؤال ابن المعرفة أيضا، السؤال
يستهدف المعرفة و يصدر عنها في نفس الآن.) مصطفى القباج ص32
لقد تنبه عظيم الفلاسفة اليونان- سقراط- إلى حقيقة الحوار و ارتباطه بالوجود
الإنساني. وتكفي الإشارة إلى قولته المشهورة والمأثورة داخل مثنه:[ أيها
الإنسان اعرف نفسك بنفسك.] إن هذه القولة تؤسس لمنهجية ما داخل الحقل الفلسفي
فيما يرجع إلى منهجية الحوار وآلياته. لكن هذه الدعوة يبدو قصورها و تبرز
محدودية فعاليتها كلما خيل لنا أن سقراط ربط فقط وعي الإنسان من خلال الحوار مع
ذاته. إن الوعي هو وعي بشيء ما في نظر هوسرل كفكرة مستوحاة من أستاذه برانتانو
Brantano. إن هذا الوعي الذي يؤسس له هوسرل يناقض الطريقة التي ربط بها ديكارت
بين التفكير والوجود " أنا أفكر اذن أنا موجود " و بذلك فان الوعي هو وعي الذات
بموضوع ما خارجي قد تكون ذاتا أخرى. و على كل حال، فان هذه الدعوة السقراطية
المبكرة ، في تقديرنا، هو حث و دعوة صريحة إلى ممارسة الحوار لما قد ينتج عنه،
من خلال الوعي بوجود الذات، من علاقات حوارية مع الآخر. ما من شك أن الحوار،
كيفما كان مستواه و طبيعته، له ما يبرره من جهة و يهدف إلى بناء علاقات و مواقف
تجاه الذات و الآخر على السواء. إن الحوار الفلسفي يفترض فيه أن يتميز بضرورة
الوجود ليكون ضمانة لجدوى الانخراط الفعلي في ممارسة فلسفية جادة. كما أنه
يفترض أن يكون متبوئا لموقع معين و خاص لا يمكن فصله عن مقولة المسؤولية، بمعنى
أنه يجب أن يهتم بالواقع الإنساني، ( هيدغر و صورة العالم ) و هنا تظهر مسؤولية
الممارس. إن هذه الصيحة السقراطية أريد لها من دون شك؛ أن تكون نقطة انعطاف في
المسيرة الفكرية التي كانت قد حققت أشواطا هامة على مستوى القطيعة مع الأسطورة
من جهة و مع الفكر الوثقي السفسطائي في معناه غير الممنهج من جهة ثانية. وبذلك
يمكن القول إن المشتغل في الحقل الفلسفي و المعتمد على الحوار كإوالية، ينبغي
أن يتسلح بمنهج ابستمولوجي بعيد عن كل نزعة دوغمائية ضيقة الأفق وكم أكد
الجابري على هذه الضرورة المنهجية في جميع مشاريعه الفلسفية الكبرى خاصة مشروع
نقد العقل العربي.
فالحديث عن مقولة الحوار الفلسفي إذن يستدعي الاعتماد على مداخل و مقاربات
عديدة. إذ من المسلم به كما قيل سابقا أنه يستحيل الحديث عن مقاربة فلسفية
معينة لإشكالية ما، دون توظيف استراتيجية حوارية راقية ، هادفة، ملتزمة و فعالة
تستمد فعاليتها و مشروعية اشتغالها من وعاء السيرورات العليا للذكاء البشري.]
إن اعتماد منهج الحوار من منطلق هده الاستراتيجية، يجعل ممارسة فعل التفلسف أو
بالأحرى "الاشتغال الفلسفي"أكثر نجاعة و أكثر التزاما لما سيحققه من تناول عميق
للإشكاليات المطروحة. و نحن بصدد إثارة موضوع الحوار الفلسفي، على مستوى شروطه
وميكانيزماته ، في هذه المقالة المتواضعة، يمكن تحديد عناصر هذه الإشكالية في
المحاور آلاتية.
- الدلالة اللغوية للحوار
الحوار كما تتناوله بعض المعاجم اللغوية يفيد مراجعة الكلام - لسان العرب -
لذا فهو في أبسط تعاريفه و أكثرها عمومية [ تبادل لكلام بين طرفين مهمته عرض
أفكار ورؤى الأطراف المتبادلة للحديث أو المتراجعة للكلام قصد الإقناع أو
التأثير عن طريق مقابلتها بعضها ببعض ، مع ما تستلزمه المقابلة من موازنة أو
مقارنة وما يترتب عنهما.]
ويرى محمد صحراوي أن الحوار[له خاصية أولى وهي أنه يتطلب تعدد الأطراف المشاركة
فيه لأن التعدد يعني ضمنيا قبول الآخر للتعايش معه و التنازل عن بعض الذاتيات،
ادا استلزم الأمر ذلك.] المرجع محمد صحراوي مجلة علامات في النقد مجلد 14جزء 54
دجنبر 2004
الحوار لغة – كما نقرأ في بعض المعاجم اللغوية – هو مراجعة الكلام . و يتحاورون
بمعنى يتراجعون. إذن هو نوع من المواجهة بين الأفكار و المواقف ويستلزم
التفاعل. ويضيف محمد صحراوي أن [الحوار يكون مرغوب فيه إلى حد كبير كلما كان
الطرف الآخر مختلفا و بعيدا] المرجع محمد صحراوي مجلة النقد مجلد 14 جزء 54. إن
الحوار بهذا المعنى يأتي نتيجة الاختلاف لا الاتفاق . و إذا كان الحوار ينبني
على أساس التعايش كما قيل سابقا ، فانه يأتي [ضدا للعنف بامتياز]
من جهة أخرى، يرى محمد مصطفى القباج أن [الحوار مناسبة و وضعية تواصلية ينتج
عنه ميلاد مواقف جديدة و آراء مختلفة في إطار و سياق يتميز بوجود عقل تواصلي
الدي هو الآلية أو الرئيسية لكل حوار حقيقي و صادق لا يضع أمامه غاية سوى
الغاية المعرفية انطلاقا من الإقرار بالاختلاف و احترام الآخر المختلف.] كما
يشير الباحث نفسه أن الحوار هو إطار موضوعي يتم بحضور لمقولة الحرية من جهة و
باستبعاد[ أحكام مسبقة ، المواقف المتحيزة، النزوع الذاتي، و الدوق النرجسي]
ومن جانبه، يؤكد محمد وقيدي أن الحوار الفلسفي له جملة من الخصائص نعرضها موجزة
كما يلي.
-الحوار الفلسفي قبل أن يكون في حاجة إلى شروط ، ينبغي أن يكون في داوته شرطا
لازما للفكر الفلسفي. فهو يرى أن الفلسفة لا يمكن أن نتصور وجودها في غياب حوار
فلسفي عميق.
-الحوار الفلسفي يجب أن يرتبط بشرط آخر وأعم منه وهو الحوار الفكري العام في
المجتمع بمعنى أنه من الضروري أن ينفتح المجتمع على جميع قضاياه مع قبول طرحها
للتناول الفكري.
-الحوار الفلسفي ينبغي أن يواكب درجات تطور العلوم بصفة عامة و العلوم
الإنسانية بصفة خاصة ويشير محمد وقيدي في هدا الصدد إلى أن" الفيلسوف الحق هو
الدي يعبر عن فكره بصيغة تترك مجالا للحوار؛ الحقيقة بالنسبة للفيلسوف مجال
للتشارك في التفكير" محمد وقيدي . جرأة الموقف الفلسفي ص28
- مستوى وعي الذات بمقومات أوليات الحوار
يمكن افتراض أن أية مبادرة تستهدف محاولة التفكير والحوار على مستوى ما هو
فلسفي، تستدعي من الفاعل الفلسفي المحاور الانطلاق من الإمكانيات و الاستعدادات
التي قد تسعفه في الاشتغال على موضوع ما من زاوية فلسفية حقة كممارسة فكرية
وحوارية هادفة.
و ضمن هذا المحور تندرج التساؤلات الآتية
ما معنى الذات؟
وما طبيعة الاستعدادات الذهنية و الإمكانيات المنهجية و المكتسبات المعرفية
التي يفترض أن تتوفر في الذات المحاورة؟
هل هذه المقومات لها ارتباط بما هو سياقي تربوي و اجتماعي أم أنها لا تعدو أن
تكون ذات طابع عفوي و تلقائي
لنرجع إلى مسألة الحديث عن الذات ولنحاول الإشارة إلى بعض خصائصها التي قد
تسعفنا في استشكال البحث عن الإمكانيات و الاستعدادات التي ينبغي أن تتوفر في
الذات المحاورة.
المعاني التي قد تفيدها الذات في تمثلاتنا و بنياتنا الذهنية، متعددة و متباينة
حسب السياقات. فالحديث عن الذات لا يمكن فصله عن التداولات التي نوظفها في
سياقاتنا التواصلية. حيث يمكن الإشارة مثلا إلى أن الذات يتم إضافتها إلى كلمات
معينة لتفيد معاني محددة الذات (الإنسانية- الفردية – العربية)
فالذات الفردية مثلا تتحدد بمواصفات ومكونات تختلف حسب المجالات المعرفية التي
تتناولها حيث يمكن الإشارة إلى
-مجال البحوث الفلسفية حيث أن الذات (كعقل، كفكر، كوعي ....)
-مجال البحوث النفسية الذات(كسلوك- كدهن- كوجدان- كجهاز نفسي- شعور – لاشعور)
-مجال العلوم الاجتماعية الذات كعنصر و مجال للاشتغال التفاعلي داخل الجماعة
وكنتاج للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
اذن الذات هي مكون يقبل أكثر من مقاربة للبحث في بنياتها.
إن استحضار مفهومي الإمكانيات و الاستعدادات يتطلب ضرورة تناولهما من منظور
- معرفي ( بكل ينطوي عليه من مقاربات ذات مستوى دهني تمكن المحاور من ميكانيزم
معالجة المعطيات موضوع الحوار)
- وجداني(بما ينطوي عليه من تفسيرات ذات الصلة بالجانب الشعوري و اللاشعوري
والتي تدخل في تكوين الذات المحاورة مما ينعكس على مجرى الحوار )
- اجتماعي ( بما يفيد في استحضار المناخ الفكري العام الدي يجب أن يسود العلاقة
بين الذات و الآخر)
أما الذات العربية فان أغلب المفكرين يقصدون بها مجمل المكونات التي تدخل في
عناصر المنظومة الفكرية العربية(الكتاب – السنة- الشعر الجاهلي- الأمثال
العربية- المنتوج الفكري العربي - اجتهادات الفقهاء في المجالين الديني و
اللغوي )
ضرورة تحديد موضوع الحوار
لابد من تحديد موضوع للحوار دلك انه يستحيل أن نتصور حوارا ينطلق من فراغ إذن
ما هي المواضيع التي تستدعى الاهتمام الفلسفى
بمعنى ما هي التصنيفات ا لتي يمكن القيام بها على مستوى تقديم او تاخير موضوع
على اخر
كيف ينبغي أن يتم تحديد مجالات الحوار ومواضيعه بين الفاعلين الفلسفيين
ما جدوى تخليق و تأهيل الحوار الفلسفي في إنجاح الفلسفة التغييرية
و تدبيرها و انتقادها انتقادا موضوعيا بالشكل الذي يخدم مستقبل الإنسان.
إن الإطار الإشكالي الذي رسمناه لهذه المحاولة التي تستهدف تسليط الضوء على
موضوع مهم ظل في نظر طه عبد الرحمان مجالا مسكوتا عنه و يتحاشاه المفكرون (إذا
كانت الساحة السياسية المغربية قد أخذت تستأنس في الآونة الأخيرة ببعض أساليب
الممارسة الحوارية فان الساحة الفكرية ما زالت تنأى بنفسها عن هذا الفضاء
الحواري الجديد. فالواحد من أهل الفكر المغاربة لا يحاور غيره فهو إما يعتزل في
برجه العاجي ظانا آن قوله هو القول الفصل في كل شيء و إما يعتمد التقوقع في
أقواله مطبقا للقاعدة خالف تعرف و إما انه إذا اعترض على غيره أبهم اسمه و أخفى
عنوانه كما لو آن التصريح بالاسم أو ذكر العنوان تنقيص من منزلته و إما انه إذا
اعترض عليه غيره أعرض عن الجواب كما آن الرد على الاعتراض قدحا في عمله) طه ع
الرحمان حوارات من اجل المستقبل.
أين يمكن آن نصنف هذا الموقف من الغير و هذه العلاقة المتشنجة التي تطبع
الممارسة الفكرية كما صورها لنا طه ع الرحمان في الإحالة السابقة. بدون شك، لا
يمكن إرجاع هذه المواقف إلا لشيئين اثنين وهما انعدام أو قصور في ثقافة التسامح
أولا ثم التهافت نحو كسب ثقة المتلقي وإيهامه أن ما قدم لهو الحقيقة المطلقة
والقول الفصل. إن التسامح والثقة الحقيقيين هما ما يجعل من التفكير آلية تتوخى
البحث عن الحقيقة بما هي انفتاح كما أشير إلى ذلك سابقا و التسامح إذا كان يفيد
شيئا ما فهو لا يعني سوى (حديث عن قيمة أخلاقية وعن مبدأ فلسفي أساسا يفرض
القبول لدى الآخر لطريقة في التفكير مختلفة عن تلك التي نتبناها)petit robert
p1973 1974 عن مجلة فكر و نقد عدد 66 ص61
و (التسامح ليس قيمة نظرية فحسب أو صفة مستقلة تطبع وجود شخص في ذاته بل هي سمة
لعلاقة بين شخص وبين أشخاص و آخرين ) محمد راجي روح التسامح في الفكر الرشدي
مجلة فكر ونقد عدد66 ص61
إن مفهوم التسامح الذي نحن بصدده الآن يدفعنا إلى الحديث عن مقومات التخليق
كإطار منهجي والذي قد يكون في خطوة أولى بالانتقال من حب الحكمة إلى حكمة
المحبة مع ضرورة تفعيلها في السياقات الحوارية وفي هذا الصدد نقتصر على ما يراه
طه ع الرحمن على هذا المستوى التماسا للإيجاز. فالمقام لا يسمح بعرض جميع
الاتجاهات التي تناولت هذه القيمة المضافة للحوار الفلسفي وهو يتحدث عن مسالة
التخليق فان طه يرى (آن المسلمين لا يملكون على ما يبدو في الأفق القريب إلا ما
انطوى عليه الإسلام من القيم الأخلاقية و المعاني الروحية لتثبيت وجودهم وقول
كلمتهم في الحضارة العالمية المنتظرة) طه ع الرحمن سؤال الاخلاق ص 146عن المرجع
السابق ص 178.
و يذهب هذا الفيلسوف إلى حد قوله(عالم المستقبل سوف يشهد حدثين هامين أحدهما
انهيار النظريات الأخلاقية و الأنساق المعيارية والدساتير السلوكية الكبرى التي
كانت إلى حد الآن توجه الحداثة الغربية فيتسبب ذلك في فراغ أخلاقي لا يحتمل و
الثاني ازدياد الهروب إلى الحياة الخاصة باعتبارها الفضاء المتميز لممارسة
الحرية الفردية فتنشا عن ذلك الحاجة إلى أخلاق تأتي من داخل هذا الفضاء الخاص
لا من خارجه) ويستنتج محمد الشيخ من هذه القولة(حين ئد لمواجهة الفراغ الأخلاقي
نحتاج إلى الإسلام) آن طه ع الرحمن يراهن على الأخلاق للخروج من المأزق المرتقب
في نظره و كحل إجرائي لهذه المسالة الإشكالية يرى ضرورة (الشروع في بناء حضارة
جديدة لن يكون السلطان فيها ل(اللوغوس) وانما يكون فيها ل( الايتوس)أي الخلق
لهذا فهو يدعو إلى تهيئ الإنسان لحضارة (الايتوس) المرجع السابق146 آن هذا
الإعداد في نظرنا ينبغي آن ينبني على المنهجيات المنفتحة المندمجة و المتكيفة
مع الواقع المتغير باستمرار دون إغفال مكون الخصوصية و الإرث الثقافي أو ما
يشير إليه البعض بمقولة الثراث (الجابري) وفي هذا الصدد يشير محمد يتيم في
كتابه( معالم في التغيير الحضاري و منهج الإصلاح) إلى بعض الشروط الموضوعية
التي ينبغي في نظره آن تكون الوثيقة الإطار منهجيا و نظريا حتى ننخرط في منظومة
حداثة تستجيب للخصوصيات ذات الصلة الوثيقة بالمقومات الثراثية . من جهة أخرى
يحاول محمد يتيم الكشف عن الآلية التي يلجا إليها في نظره هؤلاء الحداثين و
الديمقراطيين والتي تتجلى على حد قوله( يتم ذلك كله تحت شعار جديد هو شعار
الكونية في حين آن الأمر يتعلق بنمط جديد من التفكير النصي الظاهري الجديد في
التعامل بحيث لا يتم التعامل معها-الحداثة- كإبداع تاريخي وانما كنص وقيم مطلقة
ثابتة أو أشياء في ذاتها تستعصي على التعامل العقلاني النقدي و كاستنتاج له حول
المسالتين يسجل محمد يتيم (وفي هذا السياق أيضا يتم تغييب النظر المقاصدي في
إبداعات الحداثة ولا يتم استحضار الوظيفة التاريخية التي اطلعت بها ومن تتم
مصادرة حق العقل العربي المسلم في إبداع حداثته الخاصة و تستكثر عليه هذه
الإمكانية)
تحديد الظروف الموضوعية للحوار الفلسفي
إن هذه الظروف ترتبط بالسياق العام الذي سيؤطر المناخ الفكري لحوار ما و هنا
تواجهنا التساؤلات الآتية في مستوى من الأهمية و الإلحاح.
ما هي السياقات التي يجب أن نوفرها لكل محاورة فلسفية حتى نكون بصدد منظومة
فكرية متكاملة تطمح إلى تجاوز منهجية الاختزال على مستوى الاشتغال لتؤسس
لباراديكم التكامل مع المنظومات المعرفية الأخرى ( العلوم الدينية-ع النفس -ع
الاجتماع- الانتروبولوجيا- اللسانيات –البيداغوجيا-العلوم الاقتصادية – العلوم
السياسية و هلم جرة ) مجلة فكر ونقد ع 66 ص111) انظر عالم المعرفة
عدد(312جغرافية الفكر )ص50
على ضوء التساؤل الأخير ألا يمكن الإقرار أنه يستحيل تفعيل دور الدرس والبحث
الفلسفيين في غياب استراتيجية متكاملة تاخد بعين الاعتبار جميع المراقي المكونة
للوجود الانساني
ما هي السياقات التى يجب ان نوفرها اذن للحوار الفلسفي في علاقته مع المنظومة
التربوية المغربية التى توجد الان بصدد اجراة مضامين الميثاق الوطني للتربية و
التكوين و الذي يرتكز على مداخل و مقاربات من بينها مقاربة التدريس بالكفايات
التي تتوخى الجودة في الممارسة التربوية علما أنها مجال لتقاطع الحقول المعرفية
السالفة الذكر
كيف ينبغي تفعيل التدريس بالكفايات في أفق تحقيق منظومة حوارية متكاملة
السنا في حاجة لفلسفة تربوية جديدة ترتكز على المقاربة التكاملية حتى تستجيب
لمختلف التطورات والتغيرات المجتمعية التى يشهدها المغرب من قبيل التوق الى
تحقيق(المجتمع الديمقراطي الحداثي- الانتقال الديمقراطي- التربية على المواطنة
- تاهيل الحقل الديني- حرية التعبير- الديمقراطية الاجتماعية)باعتبارها مشاريع
مجتمعية سنراهن عليها لمواجهة تحديات الألفية الثالثة وما تضمره من تطورات
علمية و فكرية قد لا تخطر على بال أحد. و فيما يلي نعرض لبعض النماذج الفلسفية
لنستخلص منها بعض مقومات الحوار الفلسفي و أسسه.
النموذج الأول
قبل مباشرة الحديث عن بعض خصائص هذا النموذج. لابد من الإشارة إلى ما تفيده
مقولة فكر ضمن هذا النموذج فهي في نظر الجابري" تقترن بوصف يربطها بشعب معين
كقولنا الفكر العربي أو الفكر الفرنسي تعني في الاستعمال الشائع اليوم مضمون
هذا الفكر و محتواه أي جملة الآراء و الأفكار التي يعبر بها و من خلالها"
فبالنسبة لمحمد عابد الجابري هناك فرق بين مقولتي الفكر والعقل حيث يضيف
مستنتجا [وبعبارة أخرى أن الفكر بهذا المعنى هو
والأيديولوجيا اسمان لمسمى واحد] م عابد الجابري نقد العقل العربي 1 تكوين
العقل العربي ص11
وفي نفس السياق يشير الجابري إلى أنه من الضروري التمييز بين الفكر كأداة
والفكر كمحتوى، مع أنه يلح في نفس الوقت عند حدود الفصل المنهجي فقط . و هكذا
يرى أن الفكر(أداة- محتوى)هو دوما نتيجة احتكاك مع المحيط الذي يتعامل معها
المحيط الاجتماعي الثقافي خاصة. من هذا المنطلق، يستنتج الجابري [وبالتالي
أهمية خصوصية المحيط الاجتماعي الثقافي في تكوين خصوصية الفكر(العربي مثلا) ليس
فقط لكونه تصورات أو أراء ونظريات تعكس الواقع العربي أو تعبر عنه بشكل من
أشكال التعبير بل أيضا لأنه نتيجة طريقة أو أسلوب في التفكير ساهمت في تشكيلها
جملة معطيات منها الواقع العربي نفسه بكل مظاهر الخصوصية فيه]
الجابري نفس المرجع السابق ص12
التساؤل الذي يطرح الآن هو من قبيل، كيف ينبغي لدارس أو بالأحرى لمحاور الفكر
العربي و المشتغل عليه أن يتعامل مع مكونات هذا الفكر عندما يحاول محاورته. هل
ينبغي له أن يأخذ في اعتباراته الخصوصية أم أنه سينأى بآلياته الذهنية
والمنهجية عنها؟ سنحاول الإجابة عن هذين التساؤلين من خلال الطرح الذي يلجا فيه
الجابري إلى مسالة "التفكير بواسطة ثقافة ما" [ و معناه التفكير من خلال منظومة
مرجعية تتشكل اإحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة و مكوناتها و في
مقدمتها الموروث الثقافي و المحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل بل والنظرة
إلى العالم إلى الكون والإنسان كما تحددها مكونات تلك الثقافة] نفس المرجع
السابق ص 13
ومما ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد أن الجابري ينبه إلى مسألة أساسية لها
صلة وثيقة بالمسألة السابقة فمن جهة [الثقافة هي ما يبقى عندما يتم نسيان كل
شيء] ومن جهة أخرى إذا كان معروفا عن الجابري من خلال مؤلفاته أنه يعطي مكانة
مركزية للتراث ويعتبره مقوما أساسيا للذات العربية الإسلامية[تجديد الفكر لا
يمكن أن يتم إلا من داخل الثقافة التي ينتمي إليها إذا هو أراد الارتباط بهذه
الثقافة و العمل على خدمتها وعندما يتعلق الأمر بفكر شعب أو أمة فان عملية
التجديد لا يمكن أن تتم إلا بالحفر داخل ثقافة هذه الأمة، إلا بالتعامل النقدي
مع ماضيها و حاضرها] الجابري التراث و الحداثة ص33 نقلا عن كتاب محمد الشيخ
مسالة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر ص 140
و إذا كان الجابري يولي اهتماما خاصا للتراث، كما قلنا سلفا، فان ما يميز موقفه
هذا، هو موقفه من طبيعة التعامل مع التراث نفسه (عندما تكون الثقافة السائدة
ثقافة تراثية فان خطاب الحداثة فيها يجب أن يتجه أولا و قبل كل شيء إلى التراث
بهدف إعادة قراءته و تقديم رؤية عصرية عن)
و تحقيقا لهذه المسالة يراهن الجابري على مقولة العقل الناهض من جهة [وهل يمكن
تحقيق حداثة بدون سلاح العقل والعقلانية و هل يمكن تحقيق نهضة بدون عقل ناهض]
نفس المرجع ص 115 وعلى منهجية حوارية من جهة ثانية.
من زاوية أخرى، يدرج الجابري، في نظر محمد الشيخ، مسألة الحوار مع التراث في
إطار مشروع تحديث التعامل مع التراث. في حين يدرجه، في نظره، عبد الكريم
الخطيبي في إطار النقد المزدوج. لكن محمد الشيخ يسجل أن هناك نقطا للالتقاء بين
المشروعين فهما من جهة[يمتحان معا عن وعي أو غير وعي من التحديد الذي حدده
هيدغر لمفهوم التراث و قوامه، يرفضان النظر إلى التراث بوصفه ما كان و انتهى
ويؤمنان بأنه ما زال جزءا من مصيرنا في حياتنا اليوم ) محمد الشيخ المرجع
السابق ص 124
ومن جهة [يتحدث الجابري عن استيعاب التراث و امتلاكه كما يتحدث الخطيبي عن حب
التراث] محمد الشيخ نفس المرجع ص124
ويشير محمد الشيخ إلى موقف هيدغر من الحوار [وليس هذا الحوار مع التراث مجرد
مناقشة أو تبادل آراء بل هو حوار حقيقي. وليس هو استئناسا بالطريقة التي عالج
بها القدماء المسائل الفكرية و إنما هو نظر فيما قالوه وذلك بما هو ذلك القول
الذي ما مضى و إنما هو لازال يحكمنا ولهذا فانه لم يكن هذا الحوار حوارا
تأريخيا و إنما حوارا تاريخيا كان . و لم يكن هو حوار وجهات نظر و إنما حوارا
فكريا كان هو] محمد الشيخ ص 126 . وفي نفس الصدد يفيد محمد الشيخ أن هايدغر"
يصف هذا الحوار بوصف الحوار التاريخي، يسمه بوسم الحوار الفكري و ينعته بنعت
الحوار الدائم". محمد الشيخ ص 126 نقلا عن هيدغر
إن هيدغر يدعو إلى حوار جاد مع التراث من منطلق رأيه منه حيث يرى[مازال
الاعتقاد يسود بأن التراث شيء مضى وأنه لم يعد إلا موضوعا من موضوعات الوعي
التاريخي. ما زلنا نرى أن التراث يوجد وراءنا في حين أنه يجيء صوبنا لأننا
معرضون إليه و لأنه قدرنا)عن مقالة تحت عنوان التراث في كتاب الخطاب التاريخي
مجلة أقلام عدد 55 السنة السبعة عشرص27
الاستنتاج الأولي الذي يمكن أن نلاحظه من خلال هذا النموذج الذي قدمنا بعض
خصائصه المنهجية و مقوماته المعرفية موجزة إيجازا يستجيب لطبيعة
المحاولة(مقالة) يمكن أن نسجله على شكل العناصر آلاتية
- التراث عنصر محدد ومركزي ومن المقومات الثابتة ليس فقط ضمن الثقافة العربية
الإسلامية، و إنما ضمن التراث الفلسفي الإنساني برمته.
-قابلية التراث للدراسة و المحاورة و المعالجة من خلال منهجية تحيين المفاهيم
حتى تصبح قادرة على استيعاب المستجدات الفكرية و التطورات النهضوية التي يشهدها
الحقل الفلسفي منهجا و موضوعا و مفاهيميا و لابد من التذكير بالمقاربة بواسطة
السياق التي نبهنا إليها عندما كنا بصدد طرح وبسط إشكالية هذا الموضوع.
-مسألة الانفتاح على التجارب الفلسفية الأخرى ضرورة منهجية و الشاهد في هذا
النموذج اعتماد كل من الجابري و الخطيبي، في نظر محمد الشيخ ، على منهج هيدغر
الاستذكاري في التعامل مع التراث العربي الإسلامي.
النموذج الثاني1نيشيه و الجينيالوجيا
يعتمد نشيه منهج الجينيالوجيا لدراسة التراث الفلسفي. فهو يرى أن العودة إلى
الوراء لإدراك ما يسميه هو (التبريرات التاريخية و النفسانية للتأملات
الميتافزيقية) مسألة أساسية. كما أنه يؤكد أن هذا الرجوع له ما يبرره [هذا
الرجوع هو الكفيل وحده بان يصون أسمى ما حصلت عليه الإنسانية حتى اليوم ] ان
نتشيه يشير هنا إلى أهمية التفكير الميتافيزيقي [إن عدد الذين يقولون بسلبيتها
و يؤكدون أنها مجرد خطأ في تزايد مستمر. و لكنهم قلة أولئك الذين يصعدون عندما
ينزلون إلى الوراء......بيد انه من الضروري هنا مثلما في ملعب السباق إتمام
حلقة الدوران لإنهاء السباق]
بالنسبة لبنعد العالي، إن إشكالية الرجوع إلى الوراء هي في الحقيقة عودة إلى
الأصول و الوقوف عند الأسس[وما اتخذ عند نيشيه ذاته اسم الجينيالوجيا] ص19
إن الإشكالية الأولى التي تفرض نفسها ونحن نثير الجينيالوجيا، ترتبط أساسا
بالتعريف الذي يمكن أن يعطى له [المعنى الحرفي لكلمة جينيالوجيا كما هو معلوم
هو دراسة النشأة والتكوين لاثباث النسب و الوقوف عند الأصل هذا ما يؤكده نيتشه
في مقدمة كتابه الذي يحمل " الكلمة" عنوانا له ) بنعبد العالي نفس المرجع
السابق ص 26
من جهة أخرى، يشير نيشه إلى أن[الأمر يتعلق هنا بتأملات حول أصل أحكامنا
الأخلاقية المسبقة ]Genalogie de la morale إلا أن هيدغر بدوره يشير إلى مسألة
أخرى حيث يرى أنه [لا يعني الأصل السؤال من أين صدرت الأشياء ؟ بل أيضا كيف
تكونت ؟ إنه يعني الكيفية التي تكون عليها. فلا يدل الأصل أبدا على النشأة
التاريخية التجريبية]Heiddegger Nietzshe 2Trad Klooowski Gallimard Paris 1971
P55 عن المرجع السابق
ويحدد بنعبد العالي هدف و مرمى التاريخ الميتافيزيقي في عدم استعادة جذور
الهوية و إنما القضاء عليها[ الجينيالوجيا لا تقيم الأسس. إنها لا تؤسس، بل على
العكس من ذلك إنها تقلق ما تعتقده الميتافيزيقيا ساكنا و تفتت ما تظنه موحدا و
تظهر التنوع فيما يبدو منسجما] بنعبد العالي المرجع السابق ص 27
إن الهدف من المنهج الجينيالوجي في نظر فوكو هذه المرة هو [أما الجينيالوجيا
فهي تعيد بناء مختلف المنظومات الفاعلة لا القوة المهيمنة لمعنى ما بل التفاعل
الخاضع للصدف بين عدة قوى]المرجع السابق ص26
بصفة عامة تتلخص خصائص و أسس المنهج الذي نحن بصدده في العناصر الآتية.
- الجينيالوجيا شكل من أشكال التأويل لتاريخ الفلسفة تبحث على مستوى الأولويات
و الأسبقيات التي أعطيت لمعنى على آخر [ هي العنصر التفاضلي و الفارقي للقيم.
ذلك العنصر الذي تصدر عنه القيمة ذاتها أنها تعني الأصل و المولد لكنها تعني
الفوارق و البعد]Deleuse G Neitzsche et la philosophie P U F P3 بنعبد العالي
ص29
-الجينيالوجيا لا تربطها بالنصوص علاقة تأمل و إنما علاقة صراع و غزو بما
تفترضه دوما من عملية إنتاج [لا يمكن للتأويل أن يكون نهائيا بل على العكس من
دلك فهو صيرورة]
-النقد الجينيالوجي خلخلة و تقويض للتطابق و الكائن. وهو مع الصيرورة و الفوارق
و الاختلافات.
النموذج الثالث
استذكار هيدغر
في المقدمة التي وضعها محمد سبيلا لكتاب هيدغر –التقنية –الحقيقة –الوجود، و
الذي قام بترجمته، يشير إلى أن فلسفة هيدغر تستجلب يوما عن يوم مزيدا من
الاهتمام و يسجل أن أهمية هده الفلسفة متجلية في جديتها و عمقها على مستوى
تناول القضايا الفلسفية التقليدية( كالحقيقة - الماهية- التاريخ-الإنسان.) كما
يثير انتباه القارئ إلى أن فلسفة هيدغر[محاولة جدية لتشخيص الحاضر أو الحداثة
عبر مختلف مكوناته كالعلم و التقنية والعقل.] من جهة أخرى ، يشير إلى أهمية
اللغة في فلسفة هيدغر الذي [يعامل اللغة بقدسية و إجلال فهي مكمن إنسانية
الإنسان و مسكنه و موطنه، لكنه يخص لغتين على وجه الخصوص هما اليونانية و
الألمانية]
وكتفسير لعناية هيدغر بهاتين اللغتين، يرى محمد سبيلا أن المسألة إنما ترجع إلى
اعتبار هيدغر[اليونانية هي لغة أولية مقدسة جسدت أعظم المعاني الفلسفية و هي
اللغة التي كشف فيها الوجود باكرا عن نفسه]
أما موقفه المتميز من الألمانية فيلخصه سبيلا في أن هيدغر يرى أن[ الألمانية هي
اللغة الوحيدة القادرة على ممارسة الكشف الفلسفي الحقيقي و التي لا يمكن لفعل
تفلسف حقيقي أصيل إلا أن يمر بها و يعبر عن نفسه بها ومن خلالها.] ص
قلنا سابقا أن هيدغر تناول، مواضيع (الحقيقة، الماهية،التاريخ،الإنسان) بعمق
واستبصار. بالنسبة لموضوع الحقيقة، حاول هيدغر أن يخرج المفهوم من مستوى
التطابق [الحقيقي ادن هو الواقعي، الحقيقي ، سواء كان شيئا أو حكما ، هو ما
يتوافق ويتطابق. الحقيقي ، و الحقيقة يعنيان هنا التوافق ودلك بطريقة مزدوجة
..أولا كتطابق بين الشيء و ما نتصوره عنه ، ثم كتطابق بين ما يدل عليه الملفوظ
و بين الشيء] إلى مستوى[أن عين ماهية الحقيقة هي الحرية.] لكن هيدغر تساءل عن
الإطار الملائم لربط الحقيقة بالحرية[فكيف تجد ماهية الحقيقة في حرية الإنسان
مقرا لها؟] التقنية –الحقيقة –الوجود ص 22
لكن ما الحرية في نظر هيدغر ؟ الجواب على هده الإشكالية، يتلخص في ما يراه أن
[الحرية حددت أولا كحرية تجاه ما هو متجل في أحضان المنفتح ......إن الحرية
تجاه ما ينكشف في حضن المنفتح تترك الموجود يكون، الموجود الدي هو] إن الحرية
في نظر هيدغر[ما يترك الموجود يوجد.] وفعل الترك هنا لا يعني عدم الاكتراث و
الإلغاء [فترك الموجود يوجد يعني أن نتعاطى للموجود] ص23
أشرنا سابقا أن هيدغر دافع عن اللغة اليونانية ليجعلها لغة مقدسة .ادا كان
الأمر دلك، فإنه يرجع إلى موقفه من الفلسفة اليونانية حيث أفاد عن ركرت
وفندلبند ثلاثة أمور هي
ن فهم الفلسفة يقتضي دراسة تاريخها دراسة عميقة على اعتبار أن شدرات هؤلاء
الفلاسفة السابقين على سقراط تنطوي على الإدراك الحق لمعنى الفلسفة
-أن مناهج العلوم الطبيعية و موضوعاتها تتميز كل التميز من مناهج العلوم و
موضوعاتها، مثل التاريخ الدي يجب آن يقوم على الفهم بالمعنى المليء لهدا اللفظ،
أي إدراك دوافع الناس في أفعالهم بوصفهم أفرادا وأعضاء في جماعات.
-الفلسفة تختلف عن علوم الطبيعة و الروح في منهجها و موضوعها لأن الفلسفة هي
علم بالوجود –أنطولوجيا- منطلقها الآنية –Dasein- أي الوجود الإنساني، وجودنا
نحن(.هيدغر- ما الفلسفة ما الميتافيزيقيا ترجمة فؤاد كامل محمود رجب ص9)
-وقد يطرح القارئ تساؤلا، ولمادا نقحم هيدغر في هده المقالة التي لن نستطيع بأي
شكل من الأشكال الإحاطة الكافية بمنظومته الفلسفية الواسعة . لن أجد ما سأجيب
به القارئ المهتم إلا قولة هيدغر [أن تكون قادرا على طرح السؤال معناه أن تكون
قادرا على الانتظار حتى ولو العمر كله ، أن العصر الدي لا يعد شيئا ما ، حقيقيا
إلا ما هو سريعا ، وإلا ما يمكن القبض عليه بكلتا اليدين مثل هدا العصر يعتقد
أن طرح الأسئلة أمر غريب عن الحقيقة الواقعية ،أمر لا فائدة منه ولا عائدة
..........بل المهم هو الوقت المناسب و المعاناة الحقة.] المرجع ما الفلسفة ص25
-فمن بين الأسئلة التي طرحها هيدغر بعمق .. ما الفلسفة؟ إن سؤال ما الفلسفة؟ ،
يرى فيه هيدغر [السؤال الدي يمد حديثنا بالحركة والقلق المثمرين.] ما الفلسفة
ص63 من جهة أخرى، يرى أن الإجابة عن هدا السؤال إنما يجب أن يكون في إطار
التفلسف الدي لن يتحقق إلا [عندما ندخل في حديث مع الفلسفة...وهدا يتضمن أننا
نتباحث معهم فيما يتكلمون عنه ] نفس المرجع ص65. ويربط هيدغر الإجابة كدلك
بالاستجابة إلى [ما تنحو الفلسفة في سيرها نحوه وهدا الدي تنحو نحوه في سيرها
هو وجود الموجود...........إننا لا نجد الإجابة عن سؤال ما الفلسفة ؟ في
العبارات التأريخية ، بل في نجدها في التحاور مع ما سلم إلينا بوصفه وجود
الموجود] نفس المرجع السابق ص77. ويثير هيدغر إشكالية العلاقة بين المحاور
للتراث حيث يقول. [ وهدا الطريق المؤدي إلى الإجابة عن سؤالنا ليس بالطريق
النابذ للتاريخ، ولا المنكر له، بل هو اكتساب لما قد سلم إلينا عبر التاريخ ،
وتشكيل له مثل هدا الاكتساب للتاريخ هو ما نعنيه بمصطلح التهديم.] ورفعا لكل
لبس أو سوء تأويل ، وضح هيدغر، في كتابه الوجود والزمان، ما يعنيه بالتهديم حيث
يقول[ و التهديم لا يعني التحطيم، بل يعني التفكيك و التصفية ، و التنحية جانبا
للتقريرات التأريخية البحتة عن تاريخ الفلسفة . التهديم يعني أن نفتح أداننا،
أن نجعل أنفسنا منفتحين لما يحدثنا به التراث من حيث هو وجود الموجود.
وبالاستماع إلى الحديث نحصل على الاستجابة] المرجع السابق ص 68
من خلال هدا العرض الموجز لموقف هايدغر من التراث الفلسفي، يتضح أنه حاول رسم
علاقة متميزة مع الموروث الفلسفي عبر التاريخ. فهو من جهة، يدعو إلى دراسة
التراث و التعمق في دلك و هو من جهة ثانية ينادي بجرأة إلى نوع من المجاوزة
الواعية لبعض الخلاصات التي لم تعد تستجيب لنداء الوجود و الدي يتخذ منه هايدغر
موضوع الفلسفة بامتياز.
المصدر:
http://www.freearabi.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%8...