الرّبيع عربي... مؤامرة أم صحوة عربيّة جديدة؟
كثُر الحديث عن التحرّك الشّبابي بداية ثمّ الشّعبي لاحقاً في المدن والأرياف العربيّة. ومن ضمن الأحاديث المتداولة في الأوساط السّياسيّة والإعلاميّة والفكريّة العربيّة والعالميّة تأتي محاولات التّقييم السّلبي والإيجابي لهذا التحرّك الذي فاجأ الكثيرين خاصة الغرب.
وهذا التّقييم يعتمد على كيفيّة نظرتنا للحراك الشّعبي العربي، والقاعدة الفكريّة التي نستند عليها في قناعاتنا تجاه مختلف القضايا المطروحة على المواطن العربي منذ سنين.
الحراك الشّعبي العربي لم يستثن دولة عربيّة أو شكلا معيّنا للحكم، ولم يستثن ساحة تفاعل اجتماعي وسياسي واقتصادي في الوطن العربي بغض النّظر عن دعوى الحكومات المختلفة كونها تقدميّة أو محافظة، ودرجة قربها أو بُعدها من العلاقة بالغرب ومؤسّساته وحكوماتهِ بصيغة التبعيّة الكاملة أو التبعيّة المستترة أو المصالحة الدّائمة التي تؤمّن لها البقاء في السّلطة. وبغض النّظر عن اختلاف درجات التقدّم الجزئي أو التّوازن الاجتماعي أو الاقتصادي، أو درجات القهر السّياسي والطبقي والنّفسي والاجتماعي لمجتمعاتها.
إنّها السّذاجة السياسيّة وعدم إدراك كوامن الوضع العربي بعد حزيران عام 1967، واحتلال العراق عام 2003، والإحساس المزدوج للمواطن بالاضطهاد والظلم والاستغلال – داخلياً وخارجياً،- وانهيار العلاقة (إن وجدت) بين الحكومات وشعوبها، والتي تدفع البعض لتقييم الحراك الشّعبي العربي كونه – فوضى منظّمة مدفوعة الثّمن مقدماً. - في حين أنّه -التّفكير الشّمولي المنغلق - الذي يدفع البعض الآخر لتقييم الحراك- الانتفاضة أنّها مجرّد جزء من - المؤامرة الكبرى - على الأمّة، المؤامرة التي قادها ويقودها الغرب والصّهيونيّة لتجزئة الأمّة. والكارثة الكبرى هي في تبنّي هذا التّقييم من قبل من يعرفون أنفسهم أنّهم طليعة عربيّة سبق وأن قادت الحراك الشّعبي العربي قبل خمسين عاماً تحت نفس الأهداف: الحريّة وتوحيد الوطن، وإزالة الظلم الاجتماعي والاقتصادي، والعدالة وبناء المواطن الصّالح، وبعث إنسانيته المفقودة، وتفجير طاقاته الكامنة لبناء الوطن والمجتمع الجديد.
إن أيّة دعوة أو فكرة أو عقيدة تستطيع أن تحفر مكانها في عقول البشر، وتتجذر في المجتمع من خلال تجسيدها الصّحيح لأمنياتهم وآمالهم وتطلعاتهم أوّلاً. وثانيا، وهو الأهم، بتجسيدها عمليّا بشكل قوانين وإجراءات وفعل يؤدّي بالنّهاية إلى تغيير جذري ومتواصل للحياة اليوميّة للمواطن إلى الأفضل، وتغيير للمجتمع كبناء وعلاقات اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة، وكمؤسّسات وقوانين تمنح المواطن الشّعور بالأمان والرّاحة ويفجّر فيه كلّ مؤهّلاته الكامنة للعطاء مساهمة في بناء الدّولة والمجتمع. أي أن يعيش المواطن – فعلياً – هذا التحوّل ويشعر به كتغييرات واضحة في حياته اليوميّة ويساهم فيه كجزء من مسؤولياته هو تجاه الوطن.
طالما كانت النّخب السياسيّة، أو التي تعمل في حقول العمل الحزبي السّياسي، دون تحديد لتوجّهاتها وأفكارها، هذه النُخب مُقتنعة، وعلى المواطن أن يصدّقها ويتبعها سياسيّا. تطلب منه ذلك وحسب قناعاته في فترة العمل السرّي أو عندما تكون في جبهة المعارضة. وتطلب منه ذلك، مقتنعاً كان أم لا، بالإكراه وبالأساليب القمعيّة حيناً وبغصن الزيتون حيناً آخر عندما تعتلي كراسي السّلطة بقوتها وهيبتها وإمكاناتها. وهي لا تفتقد أو تنسى جُهداً أو وسيلة أو محاولة، شرعيّة كانت أم لا، لتُحقّق هذا الولاء والقناعة والذي يصل أحياناً إلى نقطة الولاء المطلق. فالمواطن في نظرها إنسان يحتاج إلى توعية مستمرة يمكن أن تمتد لسنوات طوال لكي يصبح مؤهلاً لإعطاء رأي بمنهاجها وسياستها التي تتبعها، بل وحتّى بأهليتها للحكم أو البقاء فيه. لذلك عليه أي المواطن أن يترك القيادة والدّولة والسّلطة وكل ما يتعلق بها للنّخب السياسية. فهي التي تفكر وتقترح وتنفذ وتقيّم العمل، وما على المواطن إلا الرضى والاقتناع بحكم النخبة. فهي ( كما تفكر ) بأنها الأكثر وعياً وإدراكاً لمجرد أنها نظمت نفسها في مؤسسة حزبية وطرحت أفكاراً مستقبلية لتغيير المجتمع، وبهذا فهي تمثل طموحات الإنسان والمجتمع، ويعطيها ذلك الحصانة الكاملة والمستمرة من نقد المجتمع (بمواطنيه وحركاته السياسيّة والفكريّة والأدبيّة) أو رفض توجهاتها الخاطئة وتصحيح مساراتها.
هذا النوع من التّفكير الشّمولي المؤذي أدّى إلى كل النكبات والكوارث التي أحاطت بالمجتمع العربي، رغم كل الجهود التي بذلت من أجل التغيير أو الإصلاح، لأنّه:
1- اختزل المجتمع وطاقاته وأفكاره وطموحاته في عقل نخبة سياسيّة واحدة، وقناعة واحدة، وتوجّه واحد لتغيير الحياة نحو الأفضل، ومن ثُم لتُختزل في عقل إنسان واحد وقناعته.
2- ألغى وجود الفكر الآخر المخالف له (باختلاف الحياة والقناعات)، وبذلك ألغى وجود النُخب الأخرى.
3- ألغى وجود العقل الآخر غير المُنتظم حزبيا -(بجانب النُخب السياسية)- أيّا كانت أفكاره أو قناعاته أو مواقفه من مختلف شؤون الحياة اليوميّة أو مستقبل المجتمع ككل. بمعنى أنّه ألغى إحدى حقائق الحياة وهي حقيقة ديناميكية الاختلاف في المجتمع (في العقل والرّؤية والقناعة والإدراك والوعي والإنتماء والطموح والأمنيات.الخ)، والتي عاشتها البشريّة منذ بدء الحياة على الأرض.
4- النّتيجة المنطقيّة لما سبق هي السّيطرة غير المحدودة للنّخبة على كلّ مؤسّسات السّلطة دون وجود جهة مستقلّة (مدنيّة أو قضائيّة أو سياسيّة) تراقب وتحاسب السّلطة بمؤسساتها وأشخاصها. كل هذا سيؤدّي حتما إلى تفشّي الفساد، بدأً من الحالة الفاسدة الصّغيرة في إحدى مفاصل الدّولة ليتوسّع، في غياب القانون والمحاسبة، ليشمل مفاصل أخرى، ثم ليصبح ظاهرة بنيويّة في جسم النّظام وينعكس على كلّ إجراءاته وسياساته الدّاخليّة والخارجيّة.
5- وهذا حتما ستكون نتائجه على العلاقة بين المواطن – المجتمع وبين السّلطة والنّخبة الحاكمة، بغض النّظر عن طبيعتها وشعاراتها وأفكارها. حيث يبدأ الافتراق بينهما وتتوسّع الهوّة الفاصلة بينهما كلّما حدث افتراق جديد وتراكمي بين الأفكار والشّعارات المطروحة على المواطن والمجتمع وبين مواقف وإجراءات الدّولة وسلطة النّخبة ومؤسّساتها المختلفة. وعند نقطة الافتراق المتواصل تبدأ مبرّرات بقاء النّخبة على رأس السّلطة تتضاءل بخطّ بياني انحداري بعد أن تخضع أولاً لحالة المساءلة من قبل المواطن والمجتمع عن شرعيّة وجودها في قمّة السّلطة وخروج المواطن منها بعد السّنوات الطّويلة من الانتظار، وبعد فشل كلّ الوعود التي قدّمتها الأحزاب وسلطتها على الصّعيدين العام والخاص (سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً). والأدهى من ذلك هو انفراد الأحزاب وأعضائها ومؤيديها وأصدقائها بالسّلطة. وتحوّلها إلى سلطة معادية بعد أن طرحت أفكارها لتبنّي طموحاته.
لقد وصل المواطن والشعب في معظم الأقطار العربية إلى قناعة محددة من أن السلطة الحاكمة لم تعد تمثله أو ترعى طموحاته، وبدأ شعوره بالأحباط والخيبة منها الى درجات عالية، بعد أن اعطاهم ثقته لفترة طويلة وصدقهّم، ليخدعوه بالشعارات وليسيطروا على كل شيء. وأكثر من هذا أن السلطة عاملته بقسوة وأضطهاد دون واعز أخلاقي، أو مانع قانوني، أو تقليد مجتمعي متوارث، وانتهت السلطة إلى حالة إهانته في كرامته، وأمعنت في إفساده وإفقاره.
في المجتمعات المحكومة من قبل نُخب قبليّة أو عائليّة أو عشائريّة أو مذهبيّة أو طائفيّة، فإنّنا لا نستغرب مُطلقا النّتائج أعلاه في إلغاء الأفكار الأخرى والقناعات الأخرى في المجتمع وتزايد حالة الافتراق مع المواطن – المجتمع لأنّها جزء أساسي من حالة التخلّف التي يعيشها المجتمع. ولن تكون عاملاً للتغيير بل جزءاً من حالة الفساد وتقوم بتبرير إجراءاته تجاه المجتمع، حتّى لو استطاعت لفترة زمنية طويلة من إخفاء هذه الحقيقة. بل يمكن اعتبارها ظاهرة حتميّة وأكيدة، نظراً لنوعيّة أفكار وقناعات من يعتلي السّلطة. والحراك الشّعبي الرّافض لها يُعتبر أيضا حالة حتميّة مهما طال بها الزّمن في قمّة السّلطة نظراً للتقاطع والتّصادم الحتمي بين طموحات المواطن ومستقبله وبين طموحات رجال السلطة، رغم وعي الأخيرة لخطورة الحالة ومحاولات التغيير والإصلاح الجزئيّة (سياسيا واقتصاديا) لاحتواء أيّة حالة رفض متوقعة، أو حراك شعبي متقدم يطرح أفكاراً تهدد سيطرة هذه النُخب على السلطة والقوّة والثروة.
ولكن في حالة الأحزاب والحركات ذات الأفكار التقدميّة والتي منحها المواطن تأييده وبنى عليها طموحاته وآماله وكان مستعداً للوقوف معها في عملها لإنجاز حالة التغيير التي ترفعها كشعارات أو تطرحها كمناهج وأفكار، ثم تتحول إلى نُخبة حاكمة، وسلطة تستمد قوتها من وجودها الأمني وامكانات الدولة، وتعتبر أمن الحزب وسلطته مهمتها الأولى، وتضع مهمّة التّغيير الحقيقي للمجتمع في المرتبة الرابعة من مهماتها، ويُختزل الحزب فيه إلى قيادة أفراد فكراً ومنهجاً ومواقف وإجراءات ويصبح وكأنّه إحدى مؤسّسات الدولة ليضمحل دوره الجماهيري الرّائد ودوره الرقابي على السّلطة وتصبح كل مهماته هي تبرير أجراءات السّلطة وقيادتها. مثل هذه الأحزاب تفقد دورها القيادي بعد حين بسبب الافتراق الذي يتصاعد بينها وبين الأرض الخصبة التي نبتت فيها وترعرعت وكبُرت، وهي أرض الشعب والمجتمع، كنتيجة لكل ما سبق من أسباب . ثم تفقد مبرر قيادتها لعملية تغيير المجتمع . ويبدأ الرفض الحتمي لقيادتها من قبل المواطن والمجتمع بشكل صامت ويأخذ أشكالاً عدة من الصمت