صراع العقل مع العقل دراسة حول الصِّراع الذَّاتي في علم الكلام
أضافه الحوار اليوم في
د. يحيى محمد
الصِّراع الذَّاتي
لم يتَّخذ التأسيس القبلي للنَّظر، لدى العقل، في علم الكلام، منظومة مشتركة ولا قاعدة موحَّدة. فقد كان هناك عدد من الاعتبارات جعلت من هذا العقل يتعدد بتعددها، بل ويتناقض بتناقضها؛ إذ كان العقل منقسماً غالباً إلى اتجاهين متضادين تولَّد عنهما الصراع أو النِّزاع، وهو الذي نطلق عليه "صراع العقل مع العقل"، تمييزاً له من صراع آخر قد جرى بين العقل والبيان.
وبالجملة يمكن القول: إن العقل قد واجه نوعين من الصراع ضمن "النظام المعياري"، أحدهما ذاتي، وذلك أنه لا يتعدى حقل الاعتبارات العقلية، والآخر عارض، وهو مع الدائرة البيانية "النقلية" التي أنكرت عليه ممارساته المعرفية في ظل الاعتبارات العارضة. وإذا كان الصراع الأول يدور حول تأسيس النظر والذي عليه تترتب حالات النزاع الأخرى الخاصة بقضايا الإنتاج المعرفي وفهم الخطاب "الديني"، فإن الصراع الثاني يدور حول هذا الفهم قبل أي اعتبار آخر، أي أنه صراع فهم لا تأسيس. وما يهمنا في هذا البحث هو الصراع الأول "الذاتي" فحسب.
إن عملية الصراع الذاتي للعقل المعياري قد تولَّدت بفعل النشاط العقلي المضاد، فالعقل أنتج ما هو ضد له، وذلك استناداً إلى اعتبارات التأسيس القبلي للنظر، إذ نعلم أن الأشاعرة قد خرجت من رحم المعتزلة ردَّ فعل عليها، وأن كلاًّ منهما يحمل مشروعاً للتأسيس القبلي، وأن الصراع بينهما بدأ منذ لحظات المخاض التي أسفرت عن فصل العقل الجديد عن القديم. وقد كانت إحدى محاورات الأشعري مع أستاذه أبي علي الجبائي حول المؤمن والكافر والصبي حاسمة في الفصل بينهما(1)، بل إنها بلورت روح التفكير لكلا العقلين، مثلما حدَّدت نوع التناقض الذي أصاب العقل المعياري بمجمله. ذلك أن الأشعري بدأ حياته العلمية بتبنِّي الفكر الاعتزالي، وقد استمر على هذا النحو سنين طويلة، حتى جاء اليوم الذي نفض فيه يده من ذلك الفكر ليؤسس قباله فكراً آخر ضدّه، رغم أنه وقف على الخشبة نفسها التي يقف عليها الأول، وأعني بذلك أنه جعل اعتباراته الأساسية قائمة على العقل. فالاعتبارات العقلية بين الطرفين مختلفة، إذ كانت مع المعتزلة وعدد من المذاهب الأخرى تمثل ما نطلق عليه "منطق الحق الذاتي"، حيث للحق اعتباراته الخاصة غير المقيَّدة بالقيود الخارجية، لكنها تحولت مع الأشعري إلى اعتبارات ما نطلق عليه "منطق حق الملكية"، وهو أن الحق مقيد بسلطة المالك المطلق. وبالتالي فالخلاف بينهما هو خلاف الاعتبارات ضمن الدائرة العقلية نفسها.
ومع أن الأشعري حمل بعض الاعتقادات التي كانت متبنَّاة من قبل السلف، ومن أبرزها مسألة قدم كلام الله وصفات اليدين والعينين والوجه وما إليها، وكذلك الصِّفات الإلهية السبع التي قال بها أبو حنيفة، بل وحتى نظرية الكسب التي يعتقد بعضهم بأنَّها ترجع في الأساس إلى هذا الإمام الفقيه(2).. لكن جميع هذه الاعتقادات جاءت _ مع الأشعري _ ضمن سياق خاص من التنظير القائم على الاعتبارات العقلية. وهي الاعتبارات نفسها التي جعلت حدوداً للممارسة العقلية في العديد من القضايا، وعلى رأسها تلك التي تتعلَّق بالحسن والقبح وما يترتب عليها من مسائل فرعية، وذلك بخلاف ما كان لدى المعتزلة من تنظير أفضى إلى نفي مثل هذه الحدود والقيود. ففي السؤال عما يرد في الخطاب الديني من مدح وذم وثواب وعقاب، هل كان لحسن الأفعال وقبحها، سواء في ذاتها أم في صفاتها أم في اعتباراتها أو العكس هو الصحيح، بمعنى أن اعتبارات الحسن والقبح جاءت لمدح الخطاب وذمه، فكل شيء مدحه الخطاب هو حسن، وكل شيء ذمه هو قبيح؟
وواضح أن هذا الاختلاف في الاعتبارات العقلية يجعل من علاقة المنطقين _ آنفي الذكر _ بالخطاب علاقة مختلفة. فلو أخذنا باعتبارات حق الملكية لكان تحديد هذه المسألة لا يخضع إلى تقدير العقل من حسن الأشياء وقبحها، بل المرجع في ذلك هو الخطاب الديني باعتباره الناطق الوحيد باسم المالك الحقيقي. ما يعني أنه لا مجال للتشريع العقلي في قضايا الحقوق والواجبات، وذلك على العكس مما هي عليه اعتبارات الحق الذاتي التي تجعل دائرة هذا التشريع مفتوحة بلا حدود.
ولدى الغزالي تمييز واضح للنتائج المتضادّة المترتبة على المنطقين السابقين، فمن ذلك ما صرح به: "قول المعتزلة: إنَّ الإنسان خالق لأفعاله؛ لأن الله لو خلقها ثم نسبها إليه، ولأنه لو فعلها مع أنه لم يفعلها، وعذَّبه عليها مع أنه لم يوجدها، لكان ظالماً له، والظلم نقصان، وكيف يصح أن يفعل شيئاً ثم يلوم غيره عليه، ويقول له: كيف فعلته؟ ولِمَ فعلته؟ وأهل السنة يقولون: وجدنا كمال الإله في التفرد ونفي العيب والنقصان، وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم، بدليل تعذيب البهائم والمجانين والأطفال، لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يسأل عما يفعل، والقول بالتحسين والتقبيح باطل، فرأوا أن يكون هو الخالق لأفعال العباد، ورأوا تعذيبهم على ما لا يخلقون جائزاً من أفعاله غير قبيح" . كذلك: "إيجاب المعتزلة على الله أن يثيب الطائعين كي لا يظلمهم، والظلم نقصان. وقول الأشعري ليس ذلك بظلم؛ إذ لا يجب عليه حق لغيره، إذ لو وجب عليه حق غيره لكان في قيده، والتقييد بالأغيار نقصان". كذلك: "قول المعتزلة: إنّ الله تعالى يريد الطاعات وإن لم تقع، لأن إرادتها كمال، ويكره المعاصي وإن وقعت، لأن إرادتها نقصان. وقول الأشعري لو أراد ما لا يقع لكان ذلك نقصاً في إرادته لكلالها عن النفوذ فيما تعلقت به، ولو كره المعاصي مع وقوعها لكان ذلك كلالاً في كراهته، وكذلك نقصان". كذلك: "إيجاب المعتزلي على الله تعالى رعاية الأصلح لعباده لما في تركه من النقصان. وقول الأشعري لا يلزمه ذلك لأن الإلزام نقصان، وكمال الإله أن لا يكون في قيد المتألهين"(3).
ويفهم من التناقضات العقلية السابقة التي أدلى بها الغزالي أن بعضها يذهب إلى أن اعتبارات الكمال متجلِّية في مسألة القيم الخلقية تبعاً لمنطق الحق الذاتي، في حين أن بعضها الآخر يذهب إلى أن هذه الاعتبارات تتمثل بالتفرد والملكية المطلقة، ومن ثم بالمشيئة _ الإرادة التي لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود، حتى وإن كانت على عدم توافق مع قيم الأخلاق كما يراها البشر، وذلك طبقاً لمنطق حق الملكية. فالنقص بحسب الاعتبارات الأولى يتمثل بدواعي القيم الأخلاقية، في حين أن النقص، حسب الاعتبارات الثانية؛ يتمثل بالقيود التي تكبِّل إرادة المالك الحقيقي وتحدد من فرادته وفعله المطلق.
إذن هناك صراع في التأسيس القبلي للنظر ضمن الدائرة العقلية، أو بين البداهتين الأوليَيْن للحق الذاتي وحق الملكية. والسؤال هو: كيف يمكن التأكد من مصداقية أي من هاتين البداهتين المتضادتين؟
لنعد إلى العقل، بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى، ومنها الاعتبارات الدينية، ونتساءل: هل هناك ما يمكن أن نتوصل إليه من صدق أحد هذين التصورين؟ أو هل بمقدور العقل أن يشخص طبيعة الحق فيدرك ما إذا كان يتوقف على قيد خارجي، كشرط الملكية، أو أن له اعتباراته الذاتية الصرفة من غير قيد وشرط؟ وبعبارة أخرى: هل الحق هو الذي يحدد سلطة الملكية، أو الملكية هي التي تحدد سلطة الحق؟ فمَن يحكم مَن؛ سلطة الحق في ذاته أو الملكية؟
دعنا نفترض أن العلاقة بين السيد المالك المطلق والعبد المملوك هي علاقة تقبل الحكم من طرف آخر هو العقل. فطالما أن أصحاب البداهتين ارتكنوا إلى العقل في تحديد كل منهما للبداهة كما رأوها، فإن هذا يعني أن العقل مدرك لطبيعة ما هو عليه الحق، وأن العلاقة بين المالك والمملوك هي علاقة محكومة بهذا الكاشف، سواء قُدّر الأمر على نحو اعتبارات الملكية، أم باعتبار الحق في ذاته.
والسؤال هو: كيف يتاح لنا التأكد عقلاً من صدق إحدى المقولتين وكذب الأخرى؟
بادئ ذي بد
الحوار الداخلي: