العرب واليهود في فكر الفيلسوف فردريك نيتشه
سميرة فياض الخوالدة*
(1)
حين انقسم العالم في القرن العشرين إلى معسكرين شيوعي ورأسمالي، كان أحدهما ينسب إلى كارل ماركس؛ كان يجب أن ينسب الثاني إلى الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه (1844-1900)، «فيلسوف القوة وإرادة الحياة والإنسان المتفوق» كما وصفه د.حسن حفني(1) (ص333).
فهناك ما يشبه الإجماع على أَنَّهُ يشكل هو وكارل ماركس وسيجموند فرويد الركائز الثلاث التي قام عليها الغرب في هذا القرن. ويصل الدارس حتما إلى هذه المقولة حين يتبع أصول جميع الحركات الفكرية التي صاغت الغرب الرأسمالي في القرن العشرين من مختلف جوانبه: الاقتصادية والثقافية والسياسية.
فأهم الحركات والتوجهات في هذه المجالات تأسست على فهم معين لفكر هذا الفيلسوف ودعوته، أو ربما على سوء فهم لهذا الفكر في بعض الأحيان كما سيـأتي تفصيله فيما بعد.
وحين نستخدم كلمة دعوة هنا فإنما نقصد أن نشير إلى أن نيتشه لم يكن فيلسوفا عاديا بالمعنى الفكري المجرد للفلسفة؛ بل كان «إصلاحيا» يؤمن ويسعى إلى التغيير في بنية التفكير والسلوك الإنساني، ولم يكن يكتفي بوصف هذا الفكر والسلوك وتحليله والتعليق عليه كما فعل معظم الفلاسفة.
ومن غريب التناقضات أن ينحدر هذا الفيلسوف الثائر الذي أزاح آخر ستارة للدين عن المسرح الأوروبي من أب قسيس؛ بل إن أجداده لأبيه وأمه كانوا سلسلة متتابعة من رجال الدين. وكانت أمة سيدة تقية تتمسك بمذهبها في تزمّت. وقد جاء على مثالها في السلوك والأخلاق في مطلع شبابه، حتى أطلق عليه في مدرسته اسم «القسيس الصغير»، وقال فيه أحد أصدقائه إِنَّهُ «كالمسيح في معبد»(2).
وتزداد أهمية نيتشه أيضا حين نذكر أَنَّهُ أعلن توقعات لأحداث مستقبلية تقع في أوروبا، وقد وقعت بالفعل في القرن العشرين، مِـمَّا يدل على نفاذ بصيرته في فهم الواقع الذي كان يعيشه العالم الغربي، بحيث رأى واستشرف المصير الذي تؤدي إليه هذه الأحوال. كان يتوقع -وأعلن ذلك في مؤلفاته- أن القرن العشرين سيشهد ظهور حالة من العدمية (حيث انعدام القيم وتلاشي أي معنى للحياة البشرية)، وتهاوي نظام العالم القديم، وسيكون قرنا مشهودا بحروبه الضخمة، كما سيكون قرن السياسة على نطاق واسع (ربما هو مفهوم العولمة الذي يسيطر هذه الأيام). وسيختفي فيه الاعتقاد بالدين وبالإله والأخلاق. قرنا تلد فيه ديموقراطية أوروبا أنظمة طاغية ودكتاتورية (وقد رأينا نظامي هتلر وموسوليني والأنظمة الشيوعية في المعسكر الشرقي. وقد توقع أن يسير الفكر البشري فيه على خطى هيجل (ونظريته في زحف التاريخ) وتصبح فيه مقولة دارون (البقاء للأصلح في الطبيعة) واقعا عمليا يطبق في حياة المجتمعات الإنسانية حتى يمسخ المرء إلى حيوان أو آلة (3).
ومن توقعاته التي شهدنا بزوغها ثُمَّ أفولها ما ورد على لسانه بخصوص روسيا، فهي في نظره وحش أوروبا الضاري، ولشعبها عزم مصمم ثابت امتاز به عن الشعوب الغربية، ولن يكون عجيبا -كما يقول نيتشه- أن نرى روسيا تبسط سلطانها وسيادتها على أوروبا(4).