لغة الحوار وأصولها

لغة الحوار وأصولها
والتناقضات الأخلاقية المنتشرة على بعض مواقع الإنترنت وصفحات دوريات وجرائد
الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي
أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2004\ 01 \ 26

E-MAIL: TAYSEER1954@naseej.com

تتصدَّر صفحات صحفنا اليوم ومواقع الإنترنت, عناوين وجمل كبيرة طنانة؛ وهي تقوم عبثا واعتباطا باستدعاء ما يجذب الانتباه من بطون كتب الفلاسفة والحكماء وأصحاب الأقوال المأثورة في محاولة للفت النظر إلى اسم أو آخر وكثرما صار عندنا من أسماء صنّعتها كثرة الترداد (والنشر) مثلما صنَّع الإعلان [بالنون وليس بالميم] مَنْ يسميهم بعض الجهلة [أدعياء النقد الفني] مطربين أو فنانين وصادف لتعميد تلك الحقيقة نظاما متكاملا من الشروط المحيطة التي أدّت لتثبيتها...

ومن مفردات ذيـَّاك النظام ظواهر انحطاط الذوق العام وتراجعه وسطوة الموضة والمزاجية الآنية والاستجابات الغرائزية لا العقلانية القائمة على تهذيب السمات الإنسانية بما يفصلها ويعلن استقلاليتها عن الحيوانية.. ومن الطبيعي أنْ يؤدي توحّش الحياة الإنسانية استجابة لقوانين النظام السائد اليوم وعولمة آليات الاستغلال ومنطقه, عبر قوانين إدارة الصراع وترحيل أوصابه ومواجعه من البلدان [الغنية] إلى البلدان [الفقيرة]؛ نقول من الطبيعي أنْ يؤدي ذلك إلى مثل تلك النتائج المستندة إلى التجهيل وتسطيح معنى الحياة وقيمها الروحية السامية النبيلة..

إنَّ فلسفة كاملة تامة ينبغي أنْ نلتفت إليها في تعاملنا مع مفردات حياتنا التي تمضي في التعقـّد والتعقيد ولكنّها في الوقت ذاته تمنح [قلة] مستغِلة عوائد الخيرات التي تنتجها [الكثرة]. وما هو صحيح من هذي الحياة مسار قوانين التطور الإنساني ذاتها من حيث الجوهر ولكنّ غير الصائب منها يكمن في التعاطي مع التطور من زاوية واحدة ترى ثبات العالم على نظام مرحلة تاريخية تكاد تنقضي وتخلي الميدان في نقلة جذرية نهائية.. أقصد الانتقال من عالم الاستغلال إلى نقيضه بأية تسمية ترشحها المعرفة البشرية ..

ما حدا بي إلى هذه المقدّمة الطويلة نسبيا تجاه التركيز على مادتنا هو التعاطي مع ديموقراطية [الليبرالية الجديدة] وهي انفلاشية بمعنى فوضوية مؤدَّاها خلط الحابل بالنابل وتضييع الجدي الصائب في عتمة غبار أو نثار زعيق هوجاء تلك الفوضوية الصارخة التي لا أجد لها مفردة مقابلة فأنـْحتُ لها [اصطلاح الانفلاشية] محاولا التعبير عن تسطيح للقيم والأفكار والفلسفات وسذاجة في التعامل مع آلية صحيحة للديموقراطية...

ونموذجي الذي أدرسه هنا هو تعاطي الصحف ومواقع الإنترنت وطريقة تقديمها الكتابات والدراسات. فتضع الفلاسفة مع الجاهلين, الأساتذة مع التلامذة, العلماء الأسوياء مع الأميين الجهلاء... وتختلط الأمور على القارئ, ليس من باب ما يقرأ وكيف يفرز الأمور ولكن من باب تعاطي القارئ مع عالم مفكر مجهول أغفله زعماء حزبه ووجهاء قومه وأدعياء نشره وتقديمه؛ فقدّموا عليه زعيم الحزب ووجيه القوم الأول قوة وسلطة والثاني مالا ومكانة.. أما كثرة كاثرة من دور النشر ومنافذها فلا نجد منها سوى التعلّق بتصورات أوهى من السذاجة ولكنّها تدعى المبادئ والأصول والقواعد.. ولعلّها تتشدق بكثرة الأسماء التي تنشر وتنوعها كمّاَ َ على حساب النوع واحترام سمو القيم والمبادئ ...

وبقراءة تاريخنا لا نجد [فارسا] في نظام القبيلة يقبل أنْ يتصدى له رجل من [المشاة] فإذا فعلت قبيلة ذلك, أُهين فوارسها وانتهى أمر المقاتل الدعي في موقعة غير متكافئة. ولم يكن تلميذ يتجاوز على أستاذ وإن قدّم إضافة علمية مشهودة, إذ من صواب العلم تشفـّعه بالأخلاق فإنْ حصل وتجاوز تلميذ أستاذه في منقصة أهمله تاريخ العلم .. ولم.. ولم... وهذه الــــ [ولم] يمكننا أنْ نسجّل منها كثيرا من الأمثلة والشواهد..

فيما نحن اليوم نجد مَنْ ينبري لنا ممَّن هب ودب لا جدلا ومحاورة موضوعية بل شتما ومسبة فيما يرى بعضهم في لغة السوقة والرعاع تلك أو في كثير من هذا السلوك روحا ديموقراطيا على الطريقة إياها التي أوردنا تسميتها للتو.. ومن الطبيعي أنْ نتعرف إلى أطراف أو قوى معينة ترتاح لمثل هذا الفهم للديموقراطية ولتداوله..

وإذ كنت قد اقترحت وثلة من الأخيار والأصوات الكريمة لصياغة ميثاق شرف بالخصوص, وظهر منها ما ظهر وأُهمل في ظروف غير مؤاتية ما أُهمِل لابد في ظرف كهذا من إعادة التشديد على حقيقة الدور التخريبي الذي تمارسه حالة الانفتاح غير المنضبطة بقواعد للنشر. ولست أدري كيف يتعرف المتلقي إلى عالم جليل توضع قراءته بين عشرات من العنوانات البراقة والأسمّاء الملمَّعة من كتبة المدبّجات ونصوص السفسطة وفوازير الكلمات المتقاطعة؟

ففي ظل ظروف المحاربة للأعلام والصامدين ضد تيار الهرطقة والمهاترة والسقوط والظلامية حوصرت أسماء الساسة والنقاد ومنعوا من الوصول لدار نشر أو صحيفة أو من الاتصال بالعامة حتى غابت أسماؤهم عن جيل جرى تجهيله وتسطيح آلية اشتغال منطقه العقلي ووصف الظرف يطول ولكنه من الوضوح بمكان بحيث لا نحتاج لكثير لأ ْيِ ِ لنصل إلى أسباب الانفصال بين المحلل السياسي الحقيقي والمنظِّر والمفكرِّر والفيلسوف من جهة وبين الجمهور.. ولماذا نطالب اليوم مواقع النشر التأني بما يخدم إعادة قراءة سياسة تقديم المواد بما يوصل الرأي الراجح الراشد بغير تضييع وتضليل وتشويش عبر خلط الحابل بالنابل وعلى القارئ أنْ يجد لنفسه الوسائل التي تجعله يقرر ..

هل يمتلك القارئ فرصة التوقف عند عشرات ومئات القراءات المنشورة على حد سواء أم أنَّه بحاجة لتصنيفات من مختلف الأنواع وعمليات فهرسة وتوزيع تساعده على اختيار الموضوع الذي يريد والاسم الذي يقدم له الأفضل والأشمل وهنا لا ذريعة لمزاعم الديموقراطية والمساواة المزيفة التضليلية فما يقدمه عالم أستاذ متخصص في القانون غير ما يقدمه عشرات من المتداخلين أو أكثر منهم من الدخلاء في الأمر نفسه..

ومن الطبيعي أنْ تستخدم جهات النشر الوسيلة التي تساعد على تقديم موضوعي يختصر وقت القارئ ويمنع ضياعه من جهة ويقطع الطريق على التضليل والتشويه حيث نجد خيبة أمل وإحباط واضح عند القارئ لأنه لايجد فيما يقرأ ما يستجيب لتساؤلاته.. وهو أمر طبيعي حيث يضيع القراء بين عشرات العناوين ومئاتها قبل أنْ يعثروا على ضالتهم .. فما هو الهدف الحقيقي من تكديس الأسماء وتضييع العلماء بين تلاميذهم في أفضل قراءة للحالة؟

إنني أقرأ الحالة وأدرك أنْ ليس لعالم جليل مطمع في شهرة على وفق منطق الموضة سئ الصيت.. ولكنني أقرأها من جهة تأثيراتها السلبية في كونها واحدة من وسائل تلك الجهات التي ترتاح للتضليل ولسيادة حلكة العتمة ففيما كان الحجب والمنع وسيلة لقطع الطريق بين العلماء والناس تظهر وسائل جديدة للهدف نفسه فيحجبهم هذا الوضع السلبي..

وبالمناسبة قامت بعض المواقع بوضع زوايا خاصة بكتّابها المميزين وفُتِحت مواقع متخصصة بالبحوث والدراسات الموضوعية المتأنية, آمل ألا تتحول هي الأخرى إلى مفردة مضافة لمنطق العتمة والتضييع والتلميع بالنفخ في القرب المقطوعة ......

وعسانا نجد باستمرار المراجعات الكفيلة بتعزيز القيم السلوكية السامية التي ننتمي إليها ونعرف أنها وسيلتنا لأفضليات مستقبلنا الإنساني الرحب الذي يتسع لكل مثابر من دون أنْ يكون ذلك على حساب رسوخ التجاريب المعرفية وثبات مسارها وعدم اضمحلال درجات الوضوح في الرؤى وآليات التفاعل معها...

المصدر:
http://www.somerian-slates.com/p110.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك