بين رجلين
- د صالح بن عواد المغامسي
- إمام وخطيب مسجد قباء بالمدينة المنورة
قال أهل السير:
(دعا سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم وهو موثوق في الحديد، وكان صاحب أمر الحجاج، فلما دخل عليه ازدراه حين رآه ونَبَتْ عنه عيناه، وقال: ما رأيت كاليوم، وكان يزيد لا يملأ العين منظره، ثم قال له سليمان: لعن الله رجلا أقادك رسنه وحكمك في أمره، فقال له يزيد: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، إنك ازدريتني والأمر عني مدبر، وعليك مقبل، ولو رأيتني والأمر علي مقبل، لاستعظمت من أمري ما استحقرت واستكبرت منه ما استصغرت، فقال له سليمان: صدقت، ثكلتك أمك، اجلس. فجلس في قيوده، فقال له سليمان: عزمت عليك يا ابن أبي مسلم، لتخبرني عن الحجاج، أتراه يهوى في جهنم، أم قد قرّبها، قال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا في الحجاج، وقد بذل لكم النصيحة، وأخفر دونكم الذمة، وأمَّن وليكم وأخاف عدوكم، وإنه يوم القيامة لعن يمين عبد الملك ويسار الوليد، فجعله حيث شئت. وصاح سليمان استكراها لكلامه وأمر بإخراجه، ثم التفت إلى جلسائه وقال: ثكلته أمه، ما أحسن بديهته، وأحدّ قريحته، وأجمل تزيينه لنفسه ولأصحابه! لقد أحسن المكافآت على الصنيعة، وراعى اليد الجميلة، خلّوا سبيله.. وأمر بحل قيوده ولم يتعرض لمضرته) ا.هـ.
المتأمل في هذه الرواية يقف إجلالا لهاتين الشخصيتين، يقف إكبارا ليزيد بن أبي مسلم على وفائه، وثبات جنانه، وعدم انعقاد لسانه، وأمثال هؤلاء الرجال أهل لأن يصطفون، فمن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟
ويقف إكبارا لأمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، كيف لم يحمله الحنق والغيظ على أن يبطش بعدوه ويذل خصمه.
إن العظيم لا يستطيع أن يتغافل عما يعظمه من المناقب، ويحبه من الخصال، ولو كانت رداء على خصمه، وحلية لعدوه، وبأمثال هذا يعرف العظماء من الرجال وقليل ما هم.