إلى الدعاة ...كيف تحاور..وتدعو
- د إسماعيل صديق عثمان إسماعيل
- أستاذ العقيدة والأديان المقارنة
في العام 1990وعلى ظهر الباخرة ساق النعام المتوجهة لأسوان ، كنا مع مجموعة من الأصدقاء في رحلة للقاهرة ، وفي مساء اليوم عند صلاة العشاء صعدت لأعلى الباخرة حيث المصلى ووجدت أن صلاة الجماعة قد فأتتني ، فأقمت الصلاة لوحدي وشرعت مصليا أربعة ركعات ، وبعد أن انتهيت إذا بشخص كان يراقب صلاتي ينتهرني : ( أقصر يا جاهل فأنت على سفر )، لم اعره اهتماما وأعقبت صلاتي بالشفع والوتر ، وقد علمت إني لن أخرج من نقاشي أو حواري مع هذا الشخص بأمر جديد على الأقل في هذه اللحظة .. ولن أصحح له مفهوم أرى انه ينبغي له التصحيح .. أو لن اسعي معه لتثبيت فكرة لدي بحاجة إلى إيضاح مع الحالة التي ابتدرني بها .. وفي نظري أنه لو لم يزدني حواري خبرة ؛ أو يلفت نظري إلى شاردة ؛ أو لم يذكرني بأمر نسيته .. أو يبصرني بشئ أظنني بحاجة إليه .. أو لن أديم به ودا أو أصل به رحما .. فلا حاجة لي بهذا الحوار...، وقد أوضحت له وجهة نظري مدعمة بالأدلة في صباح اليوم الثاني وأقتنع بها كما أقتنع بخطئه في طريقة دعوته قياسا بدعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) والسلف الصالح الذي كان يدعوا لله كما أمر بالحكمة والموعظة الحسنة بعيدا عن الاهانة والإساءة .
والحق أن دور الداعية يتمثل في دعوة الناس وإرشادهم إلى طريق الله تعالى بأعقل الوسائل وأحلمها وأنسبها واستخدم أسلوب الموعظة الحسنة والحوار الجذاب وتوصيل الرسالة في وضوح ونقاء : يقول تعالى " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " .
والحوار في اللغة : من المُحاورة ؛ وهي المُراجعة في الكلام . أما الجدال : فمن جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه ؛ وهو مستعمل في الأصل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، ثم استعمل في مُقابَلَة الأدلة لظهور أرجحها . ولعل الحوار والجدال كألفاظ تحمل نفس الدلالة ، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة:1) ، وقد يراد بالحوار والجدال في المصطلح العام : مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح كلامٍ ، وإظهار حجَّةٍ ، وإثبات حقٍ ، ودفع شبهةٍ ، وردُّ الفاسد من القول والرأي . أما الغاية من الحوار فهي إقامةُ الحجة ، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي . فهو أذا تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها ، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها ، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق . يقول الحافظ الذهبي - رحمه الله -: ( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ ) . وهذه هي الغاية الأصلية طالما أن الخلاف واقع بين الناس في مختلف الأعصار والأمصار ، وهو سنَّة الله في خلقه ، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ، وكل ذلك آية من آيات الله ، نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ ) (الروم:22) ، وهذا الاختلاف الظاهريّ دالُّ على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأعراض . وكتاب الله العزيز يقرر هذا في غير ما آية ؛ مثل قوله سبحانه : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) . يقول الفخر الرازي في هذا : ( والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال ) .
أما قوله تعالى : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) . فقد ذكر صاحب تفسير المنار : خلقوا مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم ، وما يتبع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ، ومن ذلك الإيمان ، والطاعة والمعصية .
وتظهر أهمية الحوار في : تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الدعوية . كما أنه شكل من أشكال الاقتداء بالقرآن والسنة وإتباع المنهج الصحيح في الدعوة : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . ولذلك اهتم القرآن بالحوار اهتماماً بالغاً حتى أن القرآن في كثير من آياته عبارة عن مجموعة من الحوارات واهتم القرآن بتسجيل جميع الحوارات ، حتى حوارات الكافرين المعاندين لله :أنظر قوله جل وعلا : " وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين " . كما قدم لنا القرآن نماذج متعددة من الحوار مثل حوار الله عز وجل مع آدم ، حوار الله عز وجل مع عيسى في سورة المائدة ، وحوار الله عز وجل مع إبراهيم عندما طلب منه أن يريه كيف يحيى الموتى ، وحوار الله عز وجل مع موسى عندما طلب منه أن يراه ، وحوار ابني آدم ، وحوار صاحب الجنتين وغير ذلك مما يدل على أهمية الحوار .
كما ورد في السنة النبوية المطهرة عديد من الحوارات مثل حوار الرسول ( صلى الله عله وسلم ) مع عتبة بن ربيعة ، حوار الرسول ( صلى الله عله وسلم ) مع الأنصار بعد حنين ، حوار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع الرجل الذي أنكر ولده ، حوار الرسول ( صلى الله عله وسلم ) مع بنى شيبان ، وحواره مع نصارى نجران .
ولعل من أهم صفات المحاور الناجح : أخلاص النية لله : أي إخلاص الحوار لله ، وابتغاء مرضاته وطلبا لثوابه سبحانه وتعالى . ثم عدم الاستطراد : حتى لا يتشعب موضوع المناقشة، فإن ذلك مضيعه للوقت ومباعدة بين القلوب. وأن يكون حنونا : لأن كسب القلوب أهم من كسب الموقف ، فعن أبي أمامة أن فتى شابا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا (مه، مه) فقال: ادن، فدنا منه قريبا.قال: فجلس .قال: أتحبه لأمك ؟قال: لا والله، جعلني الله فداءك .قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أتحبه لأختك ؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك .قال: والناس لا يحبونه لأخواتهم .قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله ، جعلني الله فداءك .قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم .قال: أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم .قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه".فلم يكن من الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء. رواه أحمد
والملاحظ هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يستخدم أسلوب اللوم أو العقاب أو السباب أو التقريع ، وإنما استخدم أسلوب الحوار والمناقشة، وطرح الأسئلة، ليدع المجال للأخر للتفكير في أمره. ولاحظ معي هذه النقاط بالنسبة لهذا الموقف : المجالسة، الرفق، الاحتواء، الحوار، السؤال، الاستماع، الاختيار، القناعة، الحوافز، الدعاء، واللمسة الأبوية. ومن الآداب التي يجب أن تتوفر في المحاور الجيد : أن لا يقاطع المحاور وإعطائه فرصه كافيه للتعبير .ولنا أسوة حسنة في إنصات النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى الطبراني بإسناد صحيح عن عمر بن العاص رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على شر القوم ، يتألفه بذلك، وكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتى ظننت أني خير القوم ، ثم حاول أن تفهم كل ما يقوله محدثك ، واستفسر عن كل ما لا تفهمه ولكن في الأوقات المناسبة. و لا تجعل مشاعرك تؤثر في آرائك. ويعتبر (الحوار) من الأمور التي يمارسها الداعية باستمرار. لذا فإتقان هذا الفن، أمرا مهما جدا. فأسلوب الحوار والكلام يدل على شخصية وسلوك وأخلاق المتحدث ولاخير في داعية فظ لايصغ بهدف الفهم والاستيعاب ، ولكن بهدف المناقضة والرد. و أخيرا أيها الداعية لا تصدر أحكاما مبكرة بينك وبين نفسك. وان أردت أن تكون مقبولا على كل وجه ففرق بين مااعددته ليكون أمام الجميع وبين ماهو خاص بالخاص .. وكن دائما منشرح الصدر عند الاستماع .. وتذكر قول الشاعر: تراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ، ولعله أدرى به !! واختار العبارة اللينة الهينة ، وابتعد عن الشدة والإرهاب والضغوط وفرض الرأي .وتمثل في حياتك الدعوية خير الخلق وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم .