كرسي بن علي للحوار بين الحضارات والأديان مبادرة لتأسيس آليات التواصل بين الشعوب

يعتبر "كرسي بن علي لحوار الحضارات والأديان" الذي انطلق في محاضراته منذ جانفي 2002 فضاء يكرس مبادرة انسانية متميزة لتعزيز التقارب بين الشعوب، وكرسي بن علي لحوار الحضارات والاديان هو كرسي قرر الرئيس زين العابدين بن علي بعثه، وأعلن عن ذلك بمناسبة خطابه في الذكرى الرابعة عشرة للتحوّل يوم 7 نوفمبر ـ تشرين الثاني 2001. وقد جاء ذلك تجسيما للرؤية الشاملة للرئيس بن علي للعلاقات الإنسانية وللأسس التي يتجسم عليها التفاعل بين الشعوب والأمم، والتي تشمل الانفتاح على الآخر واعتماد الحوار والتفاهم أساسا للتعايش.
وقد جاء كرسي بن علي لحوار الحضارات والأديان تكريسا لهذا التوجه الإنساني لإرادة الخير من أجل نماء وتقدم البشرية وتتويجا لما أرادته الأمم جميعا من خلال إعلان منظمة الأمم المتحدة سنة 2001 سنة للحوار بين الحضارات. وهي ذات السنة التي أكد الرئيس بن علي خلالها مرة أخرى الأبعاد الحضارية التي يكتسيها عمله الدؤوب منذ سنوات طويلة لإرساء قيم الحوار والتفاهم بين الشعوب والحضارات، سواء بمناسبة إعلانه عن إحداث كرسي الحوار بين الحضارات والأديان، أو بمناسبة انعقاد الندوة الدولية لحوار الحضارات بتونس في أواسط شهر نوفمبر ـ تشرين الثاني ـ 2001حيث أطلق مجددا نداءاته المتكررة من أجل إرساء عالم جديد يكون خاليا من الضغائن والكراهية، وتتواصى فيه البشرية بالحوار و التسامح.
وإذا لم يكن اختيار الأمم المتحدة ومنظمتي اليونسكو والأسيسكو لتونس لاحتضان تلك الندوة الدولية، اختيارا اعتباطيا أو مجانيا نظرا لأن الرئيس بن علي كان من أول وأكثر المنادين بإشاعة قيم التسامح والحوار والتضامن بين الشعوب والأمم، فإن تونس قد تمكنت من إثبات قدرة مثالية في التعامل مع العولمة ومع المتغيرات الدولية الجارية داخليا وخارجيا. ذلك أن الدفع الهام الذي شهده في السنوات الماضية التطوّر الاقتصادي للدول الغربية، والتقدم التكنولوجي للشعوب المتقدمة، والعولمة الاقتصادية، عوامل ألقت بظلالها على منظومة القيم الإنسانية وتموقعها في السلوك الإنساني وفي مصير البشرية. فتشابك المصالح الدولية، وقوة الجذب التي ميّزت العولمة على حساب البلدان والشعوب النامية والفقيرة قد أعطيا مصداقية قوية لتقييم الرئيس زين العابدين بن علي ودعوته للقيام بقراءة نقدية للتاريخ ولمراجعة السياسات التي نمّت شعورا بالظلم لدى بعض الشعوب لفائدة واقع إنساني ودولي جديد أكثر عدلا وتوازنا وتسامحا وحوارا وتضامنا.
وتلتقي مثل هذه المبادرات مع مبادرة الرئيس بن علي السابقة بإحداث صندوق عالمي للتضامن يكرس هذا التوجه المشرق للمعاملات والعلاقات الإنسانية بالقضاء على أسباب الفقر والتهميش والعزلة، وبلورة عالم أكثر عدالة وتوازنا. وهي المبادرة التي تنكبّ الأمم المتحدة حاليا على بلورة آلياتها ومناهج عملها بناء على القرار الجماعي للجمعية العامة للأمم المتحدة مع نهاية الألفية الماضية.
وفي سياق هذه المبادرات الإنسانية والتاريخية المتوالية جاء إعلان الرئيس بن علي بإحداث "كرسي بن علي لحوار الحضارات والأديان" الذي انطلقت محاضراته وتظاهراته العلمية والميدانية المتنوعة يوم 22 جانفي ـ يناير 2002. وتأتي أهمية هذه المبادرة من كون الرئيس بن علي هو أول رئيس في العالم يعلن عن إحداث مثل هذا الكرسي الجامعي الذي يخصص لترسيخ الحوار والتفاهم بين الأمم والشعوب.
وبعد عهد قرطاج للتسامح عام 1995 والصندوق العالمي للتضامن سنة 1999 ونداء تونس للحوار بين الحضارات سنة 2001، جاء انطلاق كرسي حوار الحضارات والأديان ليمثل لبنة أخرى من الآليات والمبادرات التاريخية التي أطلقها بن علي من أجل إرساء عالم جديد تنعم فيه البشرية بالأمن والاستقرار والتقدّم والرفاهية، وتتعامل فيه وتتعاون على أساس القيم التي جاءت بها الأديان وتقرها الفطرة البشرية ومن أولها التفاهم والتسامح والحوار والتضامن.
فالرئيس بن علي لم ينطلق في مبادرته الجديدة من فراغ ولكنه انطلاق أساسا من تشبع شخصي بالقيم والمبادئ الإنسانية وما تكتسيه من كونية، ثم اعتمادا على ثراء العطاء الذي قدّمه الرئيس التونسي لفائدة الإنسانية من توجهات وأفكار ومبادرات، وأخيرا استنادا إلى مخزون حضاري تونسي ثري في المشاركة البناءة لتونس في الحضارة البشرية وإثرائها عبر التاريخ فكرا ودينا ومنجزات. فتونس مهد التلاقي والحوار، وأرض التسامح والتضامن الإنساني التي انطلقت منها أصول الفقه التنويري المسيحي، والفكر العقلاني والتحديثي للإسلام إلى أوروبا وإفريقيا. ومن وراء البحار كانت دائما بوابة لتاريخ البشرية، ومصدّرة ومستوعبة للقيم الإنسانية، وموطنا لنتاج الإثراء المتنوّع للإنسان.
ولأن تونس كانت عبر التاريخ ملتقى الحضارات المتوسطية ونقطة التلاقي بين الحضارات الإفريقية والآسيوية والغربية حيث تتلاقح الشعوب والأديان وتستوعب مجالات الاختلاف والتكامل بينها، وتتواصل مع بعضها البعض أخذا وعطاء، يأتي اليوم "كرسي بن علي لحوار الحضارات والأديان" ليعزز هذه التجربة الحضارية الإنسانية الثرية وليحيي أمجادا تونسية في نشوء وبقاء وتطور حضارة الإنسان.
من هنا يبرز الهدف الإستراتيجي لهذا الكرسي الجامعي غير المسبوق الذي أنجزه الرئيس بن علي، فالتعريف بتونس وسخاء عطائها الحضاري للبشرية يصبح من هذا المنظور ذا أهمية خاصة. فالتواصل بين الشعوب على أساس ثراء التجارب وتنوّع الثقافات، يعكس فلسفة استراتيجية تتأسس على التنوع والتلاقح الحضاري الذي شهدته الأرض التونسية. فتونس التي كانت رافدا حقيقيا في ثراء حضارة الإنسان، هي اليوم أيضا رافد فعلي ونضالي من أجل حضارة إنسانية أرقى وأفضل، وهو بالتحديد ما يعمل الرئيس بن علي على إنجازه من جهة، وعلى التعريف به في العالم من جهة أخرى.
ان تونس التي نجحت في التعريف بقيمها الأصيلة في بناء الحضارة تاريخيا وفي العصر الحديث، وعزمها على مواصلة الاضطلاع بدورها الحضاري في المستقبل، تنجح اليوم في تحقيق التلاقح والتفاهم المنشودين مع الشعوب الأخرى من خلال التواصل معها في إطار "كرسي بن علي لحوار الحضارات والأديان". هذا التواصل الذي يتم من خلال فتح فضاءات الكرسي الجامعي لحوار الحضارات والأديان في تونس للتعريف بالتجارب الأخرى، وبالثقافات المختلفة للشعوب، ولإشاعة قيم الحوار والتضامن بينها، وإبعاد شبح الصدام بين هذه الثقافات والحضارات لان بقاء النوع البشري رهين بالتعاون والتنمية المشتركة القائمة على أساس فهم الآخر وتفهّمه والتحاور والتضامن والتواصل معه، بما يدرأ أسباب القطيعة وتنمية مشاعر الظلم والغبن والحقد والكراهية، تلك المظاهر التي ما انفك الرئيس بن علي يحاربها على كل الواجهات العالمية السياسية والديبلوماسية والثقافية، والاقتصادية والمالية وغيرها.
ولتحقيق الغايات التي أحدث الرئيس بن علي من أجلها كرسي حوار الحضارات والأديان، فإن هذا الفضاء الجامعي لا يعتمد فقط الدروس والمحاضرات الأكاديمية بل يعتمد غزارة العطاء المعرفي وتنوعه لينشر ذلك في مختلف الأوساط ويكون موجها لمختلف الشرائح المؤهلة لاستيعاب شتى المعارف الإنسانية التي يمكن أن تقدمها محامل ثقافية ومعرفية متنوعة مثل المحاضرات والندوات.
ان مثل هذه المبادرة الانسانية تقدم المضامين المتميزة للعطاء الحضاري والثقافي لتونس بما يبرز الوجه المشرق حقا لما قدمته للبشرية، ولما يريده لها الرئيس بن علي. فقليلون في العالم هم أولئك البحاثة الأكاديميون الذين يعرفون أن تونس كانت قدمت للعالم أحد أقدم الدساتير المكتوبة وأقدم المعاهدات الديبلوماسية مثلا، أو أن الفقه المسيحي الحديث انطلق من تونس على يد القديس أوغستين، وأن كتابة اللغة الفينيقية شهدت انطلاقتها في عهد قرطاج، وأن صناعة السفن الحربية واستعمال مادة النحاس في الصناعة، وتصنيع الزراعة وغيره كل ذلك انطلق من تونس ليشمل العالم.
ان كرسي بن علي لحوار الحضارات والأديان يمثل فضاء للتواصل المتجدد مع الشعوب والثقافات الأخرى، ويعرّف بتونس ويساهم في التعريف بغيرها، ويتيح الاستفادة من الآليات والإمكانيات الجديدة التي توفرها الثورة التكنولوجية. ذلك أن هذا الفضاء الذي سيكون فضاء متحركا داخل تونس وخارجها في الأقطار الأخرى القريبة والبعيدة التي ستتعامل معه، سيكون قادرا على الاقتراب من شتى الفئات الراغبة في المساهمة في تجذير التواصل الإنساني من أهل الفكر والإبداع، وأهل السياسة والصناعة والاقتصاد دون انغلاق حتى تتسع دائرة الهدف المنشود أكثر.
ولتحقيق اهداف الكرسي الجامعي، اختار الرئيس زين العابدين بن علي للإشراف عليه أحد أكثر الشخصيات التونسية كفاءة في الميدان. وهو الدكتور محمد حسين فنطر المتخصص في التاريخ، وخاصة في التاريخ القديم وفي تاريخ الأديان. وهو رجل يتميّز بمعرفة واسعة في مجاله وفي مجال العلوم الإنسانية عموما، كما يتمتع بعلاقات واسعة مع المؤرخين وعلماء الآثار والمختصين في مجال الحضارة والإنسانيات في الجامعات العالمية، بما سيكون له أثره الإيجابي في توسيع دائرة التفاعل العلمي بين الشعوب من خلال الأساتذة والمختصين الذين سيستضيفهم "كرسي بن علي لحوار الحضارات والأديان"، أو التظاهرات المعرفية التي ستنعقد في إطار أنشطته الهادفة إلى رقيّ الإنسان وتعايشه ورفاهيته.