حوار الأديان : من اللاهوتي إلى الثقافي
مفتتح :
تعددت النظريات والتصورات التي تعمل على صياغة رؤية ومنظومة مفاهيم في طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون وتسود بين الغرب كمجال حضاري واقتصادي وسياسي وبين العالم الإسلامي بكل دوله وشعوبه . إلا أن القاسم المشترك بين هذه النظريات والتصورات المتباينة ، أن الحاجة بين الطرفين متبادلة . فالغرب يحتاجنا لموقعنا الاستراتيجي ولحاجته للطاقة والنفط الموجود في أراضي العالم الإسلامي . كما إننا نحتاج إلى تقنية وصناعة وتعليم ومنجزات الغرب المختلفة .
فإننا اليوم بدون الغرب ، نعيش حياة بدائية وفقيرة ، كما أن حياة التطور والتقدم في الغرب تحتاج إلى ثرواتنا وسوقنا . وعليه فإن الحاجة متبادلة ومتداخلة ، لذلك نحن بحاجة إلى صياغة رؤية وعلاقة جديدة ، نتجاوز من خلالها إحن التاريخ وتراكمات عصر الاستعمار ومتوالياته المتعددة والمتنوعة .
نحو حوار جديد بين الغرب والعالم الإسلامي :
ثمة اليوم ضرورات عديدة، للتفاهم والتواصل الحضاري بين الغرب والعالم الإسلامي.. وذلك لأن وجود فجوات معرفية وسياسية واقتصادية بين الطرفين، لا يهددهما بوحدهما، وإنما يهدد العالم بأسره..
لذلك هناك ضرورة شاخصة لانطلاق حوار حقيقي بين الغرب والعالم الإسلامي، يستهدف الفهم المتبادل وخلق المساحة المشتركة القادرة على إنجاز مفهوم التفاهم والتواصل الحضاري بين الطرفين.. ووجود أزمات خانقة في العالم الإسلامي، اشترك الغرب في صنعها بشكل أو بآخر، لا يبرر استمرار حالة الجفاء وغياب أطر الحوار والتفاهم بين الغرب والعالم الإسلامي. ووجود مآخذ حضارية عند كل طرف على الآخر، لا يسوغ أيضاً غياب مؤسسات الحوار والتفاهم بين الطرفين..
والحوار بين الثقافات لا يشترط في كل مراحله وأطواره، وجود انطباق تام في وجهات النظر. بل على العكس من ذلك تماماً، حيث حينما تتعدد المرجعيات المعرفية، وتتباين التصورات الثقافية، وتختلف المواقف السياسية والعملية، تتأكد الحاجة إلى الحوار الذي لا يستهدف بالدرجة الأولى إقناع كل طرف بقناعات الآخر، وإنما هو يستهدف الفهم والتفاهم، وخلق مساحة مشتركة للتعاون والتواصل.
وعليه فإن الشرط الأول لنجاح أي حوار وتفاهم بين الغرب والعالم الإسلامي، هو خروج الجميع من القراءات النمطية والمبسطة في النظرة إلى الآخر. فلا يمكن اختزال العالم الإسلامي في جملة من المفردات والممارسات التي تعارض في العالم الإسلامي أكثر مما تعارض في الغرب. وفي المقابل أيضاً لا يمكن اختزال الغرب في بعض السياسات التي لا تنسجم وحقوقنا ومصالحنا في العالم الإسلامي. فالغرب أوسع ذلك. وعلينا أن نتواصل ونتحاور مع كل مؤسساته، حتى نتمكن من التأثير عليه في قضايانا الاستراتيجية.
فالخروج من الرؤية النمطية التي تختزل الإسلام والغرب في قوالب محددة وجاهزة ورتيبة سواء من قبل بعض المنابر والأقلام في العالم الإسلامي أو الغرب، هو الشرط الضروري لخلق روافد للحوار بين العالمين الغربي والإسلامي، على أسس من الاحترام المتبادل.
فالنظرة الآحادية والاختزالية، تثير من الهواجس والمشاكل، أكثر مما تعالج وتجيب على نقاط الاختلاف والافتراق. والقراءة النمطية تعيد إنتاج مآزق التاريخ، أكثر مما تحاول الاستفادة من دروس التاريخ وعبره وعليه فإننا نعتقد أن شروط الحوار والتفاهم بين العالمين الغربي والإسلامي هي الآتية:
1- الخروج من الرؤى والقراءات النمطية والاختزالية والآحادية، والتفكير برؤية شاملة موضوعية في النظر إلى كل القضايا والأمور. سواء المتعلقة بالغرب تاريخاً أو حاضراً. وكذلك بالنسبة إلى الأمور المتعلقة بتاريخ العالم الإسلامي أو راهنه. فإن الحوار الحضاري المطلوب، هو الذي يتجاوز الرؤية النمطية، ويتحرر من النزعة الاختزالية، ويتعامل مع وقائع الحياة في كلا الجانبين بمنتهى درجات العلمية والموضوعية. وهنا ينبغي أن نعترف أن الغرب لا يمكن أن ينخرط في حوار جدي مع العالم الإسلامي بدون التحرر من الرؤية النمطية والاختزالية السائدة لدى شعوب الغرب عن الإسلام والعالم الإسلامي.. كما أن الشعوب الإسلامية لا يمكنها التفاعل الحضاري مع منجزات الغرب، والانخراط في مشروع الحوار والتواصل الحضاري معه، بدون الانعتاق من كل أشكال الرؤية النمطية والاختزالية التي يحملها تجاه الغرب..
فلا يمكن أن يتحقق الحوار الصحيح والسليم بين الغرب والعالم الإسلامي، بدون التحرر من كل الرؤى والأنماط التي تختزل الحياة والأمم في صور جامدة ومشوهة.
من هنا فإن الحاجة ماسة اليوم، لكي يتحرر كل طرف من أوهامه التي يحملها عن الآخر. وبدون هذا التحرر والانعتاق، سيتحول كل حوار إلى حوار طرشان، وكل تواصل إلى مساجلات أيدلوجية وحضارية تزيد من اليباس والجمود، وتكرس الرؤى النمطية والاختزالية السائدة في مشهد العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي. ولا يمكن أن يتحقق فعل الخروج والتحرر من الرؤى النمطية والاختزالية، إلا بجهد معرفي - تفكيكي وحقيقي، يتجه إلى مساءلة ونقد السائد على هذا الصعيد، وإرادة سياسية حقيقية تستهدف نسج علاقة حقيقية بعيداً عن نزعات التسلط والهيمنة أو ضغوطات السياسة والتبعية.
2- الخروج من عبء التاريخ:
لعلنا لا نأتي بجديد، حين القول إن تاريخ العلاقة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي مليء بالصراعات والحروب وأشكال اللا ثقة. لذلك فإن تاريخ العلاقة بين الطرفين، يشكل وبعمق عبئاً حقيقياً على كلا الطرفين.. فالعالم الإسلامي اليوم في نظرته إلى الغرب يتأثر وتتحكم فيه العوامل التاريخية، أكثر مما تؤثر عليه متطلبات الراهن. كما أن الغرب بكل علمانيته ومؤسساته الدستورية وتقدمه العلمي والتكنولوجي، إلا أنه أيضاً لم يتحرر بشكل كامل من عبء التاريخ فيما يرتبط ونظرته إلى الإسلام وعلاقته السياسية والاقتصادية والأمنية بالعالم الإسلامي..
لذلك فإننا نعتقد أنه لا يمكن أن ينجز الحوار الحضاري بين الطرفين بدون التحرر من عبء التاريخ.. والتحرر هنا لا يعني النسيان أو التناسي، وإنما يعني وببساطة أن هناك مصالح قائمة اليوم، لا يمكن القبض عليها بدون فتح قنوات للحوار الجدي بين العالمين الغربي والإسلامي..
وفي تقديرنا أن فعالية كل حوار وتواصل على هذا الصعيد، مرهون إلى حد بعيد على قدرة الجميع من التحرر من عبء التاريخ.. فالانحباس في سجلات العلاقة التاريخية، لن يفضي إلا إلى المزيد من سوء الظن وسوء التفاهم. لذلك فبمقدار التحرر من عبء التاريخ يتمكن العالمان الغربي والإسلامي من صياغة علاقة جديدة بعيداً عن إحن التاريخ وضغوطات السياسة.
فالمطلوب صياغة العلاقة وفق مصالح استراتيجية راهنة، لا تنحبس في التاريخ الصراعي للطرفين.
3- إنهاء الفجوات المعرفية بين الطرفين.. حيث إن طبيعة العلاقة بين العالمين الغربي والإسلامي، تكتنفها بعض العناصر الغامضة من الطرفين.. والسبب في ذلك يعود في تقديرنا إلى وجود فجوة معرفية بين الطرفين.. فلا الغرب بعلمائه ومؤسساته البحثية ومعاهده العلمية، يمتلك رؤية معرفية متكاملة عن عالم الإسلام والمسلمين، مما يفضي إلى سوء الفهم لبعض الممارسات وشيوع حالة من الالتباس سواء على صعيد المعرفة أو التقويم.. وفي المقابل أيضاً هناك تقصير معرفي حقيقي من قبل المسلمين في نظرتهم ومعرفتهم بالغرب تاريخاً وحضارة. لذلك فإن تطوير مستوى الحوار الحضاري بين الغرب والعالم الإسلامي، يقتضي العمل على إنهاء وسد الفجوات المعرفية بين الطرفين.. وذلك عبر تأسيس مراكز البحث والدراسة المتخصصة بشؤون الطرفين.. فلماذا لا تنشأ في بلاد المسلمين معاهد ومراكز أبحاث جادة ومتخصصة في شؤون الغرب. كما أن الدول الغربية مطالبة عبر معاهدها العلمية ومؤسساتها البحثية والدراسية إلى تطوير معرفتها بالإسلام والمسلمين.. وذلك لأن المعرفة العميقة المتبادلة، هي أحد الشروط الأساسية لنجاح أي مشروع حواري بين الغرب والعالم الإسلامي.
فالساحة الدولية اليوم، بحاجة إلى خطوة جريئة وشجاعة، لإطلاق مشروع حوار جاد وحقيقي، بين العالم الإسلامي والغرب، قوامه ( نبذ القراءات النمطية والاختزالية المتبادلة والتحرر من عبء التاريخ وتطوير المعرفة العلمية والموضوعية المتبادلة). وذلك من أجل إنهاء جملة من التوترات التي تكتنف هذه العلاقة، وتؤثر بشكل مباشر على مشهد العلاقات الدولية بكل مستوياتها.
فاللحظة الراهنة بكل تحدياتها وآفاقها، تقتضي إطلاق مشروع حواري جاد وجديد بين الغرب والعالم الإسلامي، يساهم في بلورة أسس جديدة للعلاقة نتجاوز من خلالها ارث التاريخ وصعوبات الراهن وهواجسه.
رؤية الإسلام للحوار الديني :
لا شك أن ما سمي في مدونات المؤرخين بصحيفة المدينة ، وهي نص العقد والاتفاق الذي أبرمه الرسول ( ص ) مع مكونات وتعبيرات مجتمع المدينة آنذاك ، يعد من النصوص التأسيسية التي توضح بشكل لا لبس فيه طبيعة العلاقة القائمة ، أو التي ينبغي أن تقوم بين مختلف المكونات الدينية والقومية للاجتماع السياسي الإسلامي . فهو ( أي النص ) " يكشف عن النوايا الحقيقية للإسلام الذي أقدم لأول مرة في التاريخ الحضاري على إنشاء مجتمع واحد مختلط ( وطني وسياسي ومدني ) حيث يقوم الناس على اختلاف أديانهم بمسؤوليات واحدة في حياتهم الدنيا" ( 1 ) .
ولقد استنبط العلماء والفقهاء هذه الحقيقة الدستورية والقانونية والسياسية من المقولة الواردة في صحيفة المدينة [ لهم مالنا ، وعليهم ما علينا ]. فالحقوق كلها متساوية كما الواجبات . فالاختلافات الدينية أو السياسية لا تشرع للتمييز ، بل تؤكد على ضرورة المساواة وتكافؤ الفرص . لذلك فإن العلاقة التي تؤسسها صحيفة المدينة ، هي علاقة المساواة والتكافؤ ونبذ كل أشكال التمييز والتهميش .
فلقد جاء في الوثيقة [ إنهم أمة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم ، يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم بالمعروف ، والقسط ، بين المؤمنين . وبنو عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف ، والقسط ، بين المؤمنين . وبنو الحرث على ربعتهم ، وبنو ساعدة على ربعتهم ، وبنو جشم على ربعتهم ، وبنو النجار ، وبنو عمرو بن عوف ، وبنو النبيت ، وبنو أوس وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم . وإن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ] ( 2 ) .
وفي الإطار الديني فإننا نعتقد أن الحوار بين الإسلام والمسيحية لم ينقطع منذ بزوغ فجر الإسلام . ولقد اتخذ هذا الحوار أشكالا متعددة وموضوعات مختلفة . فتارة يكون الحوار ذا طابع لاهوتي – عقدي ، يعنى بشؤون الربوبية والوجود والآخرة وما أشبه ، وتارة أخرى يناقش قضايا معاصرة تهم الإنسان والمجتمعات المعاصرة . " وقد تجلى هذا الحوار أول تجلياته في القرآن الكريم ، وكان ذا اتجاهين : أحدهما ، يتمثل في دعوة المسيحية إلى الإيمان به ، باعتناقه والاعتراف له بأنه يمثل الكلمة الأخيرة والكاملة في التاريخ الديني للإنسانية . وثانيهما ، يتمثل في دعوة المسيحية – إذا رفضت الإيمان به – إلى التعايش معه بعد الاعتراف به . إذ لا يمكن التعايش مع الرفض والإنكار المطلق "( 3 ) .
فالرؤية القرآنية لا تفرق بين أنبياء الله تعالى ، وتعتبرهم جميعا في قافلة واحدة ، وهي قافلة الإيمان والهدى . يقول تبارك وتعالى [ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير] ( 4 ) .
وكل الرسالات السماوية تشترك في الدعوة إلى العدالة وسيادة قيمها ومتطلباتها في الواقع الإنساني . قال تعالى [ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أحوينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ، وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ] ( 5 ) .
ووجه القرآن الحكيم إلى أهل الكتاب ، نداء التعاون على مقاومة الظلم ونصرة الحق وإقامة العدل . قال تبارك وتعالى [ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ] ( 6 ) .
فـ " الموقف الأساس في الإسلام من الإنسان هو التكريم ، بصرف النظر عن أي انتماء من الانتماءات . قال تعالى [ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ] ( 7 ) . والتكريم الإلهي للإنسان نابع من السر الإلهي في الإنسان أنه نفخة من روح الله : [ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ] ( 8 ) . [ ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ] ( 9 ) .
وهو الذي اقتضى سجود الملائكة له . ومهمة الإنسان على الأرض هي أنه خليفة الله . فهذا الإنسان المكرم هو خليفة الله في الأرض : [ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ] ( 10 ) . إن هدف الخلق الأول للإنسان هو أن يكون خليفة الله للإعمار وللوصول إلى التكامل الروحي " ( 11 ) .
وعليه فإن تاريخ الإيمان وفق الرؤية الإسلامية تاريخ واحد ، وأن تجليات الإيمان على ألسنة الرسل والأنبياء هي تجليات لحقيقة واحدة لا تفاوت في جوهرها ، وإنما تتفاوت في سعتها وفي عمقها وفي إجمالها وفي تفصيلها .
والسؤال الذي يطرح هنا هو : كيف نظر القرآن الحكيم لأهل الكتاب . بالإمكان الإجابة على هذا السؤال من خلال النقاط التالية :
1- إن الذكر الحكيم علّم المسلم أن أهل الكتاب ، هم سلفه في الإيمان الإبراهيمي ، وأن بينه وبينهم قرابة المشاركة في هذا الإيمان ، وإن إيمانهم جزء مقوم لإيمانه الإسلامي . قال تعالى [ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ] ( 12 ) .
2- وعلى أساس الإيمان الجامع ، وجه القرآن الحكيم المسلمين إلى الجامع التوحيدي نحو أهل الكتاب . قال تعالى [ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ] ( 13 ) .
3- التعامل والتحدث معهم باحترام وتقدير ، ولعل في تسميتهم بأهل الكتاب ، للتأكيد على القرابة الروحية والإيمانية ، ما يشير إلى هذه الحقيقة ويؤكد عليها ، وصنفهم الذكر الحكيم إلى قسمين : منهم من استقام ، ومنهم من انحرف . قال تعالى [ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ] ( 14 ) .
وهذا النقد الذي مارسه القرآن الحكيم تجاه أهل الكتاب للاختلاف العقدي ، لم ينعكس على التشريع الاجتماعي والسياسي . بل أكد القرآن الحكيم على مبدأ الاستقلال التشريعي لأهل الكتاب في جميع شؤونهم وأحوالهم . قال تعالى [ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ، وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ] ( 15 ) .
وبالتالي فإن الاختلاف العقدي ، لم يفضي إلى إلغاء شخصيتهم الثقافية بل على العكس تماما . حيث أن صيانة مبدأ الاستقلال التشريعي ، قاد بدوره إلى استقلال الشخصية الثقافية وحرية ممارسة العبادة وكل الطقوس الدينية والشعائرية . بل إن القرآن الكريم وفي سورة كاملة ( سورة البروج ) ، خلد ذكر شهداء نصارى نجران ، وعبر عنهم بالمؤمنين ومدحهم . فقال عز من قائل [ قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ، إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ] ( 16 ).
وفي سورة الروم تسجيل صريح وواضح لتعاطف المسلمين مع المسيحيين في مواجهتهم وصراعهم مع المجوس الذين اعتبرهم مشركو مكة أقرباء روحيين لهم ، في مقابل اعتبار النصارى أقرباء روحيين للمسلمين . قال تعالى [ ألم ، غلبت الروم ، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ] ( 17 ) .
فالرؤية الإسلامية والتجربة التاريخية الإسلامية الأولى ، كلها مضامين وحقائق ، تؤكد قيم الشراكة والاحترام المتبادل بين أهل الديانات التوحيدية الكبرى . ولكن ولعوامل سياسية واجتماعية وثقافية ، نتجت ظواهر مضادة لتلك الحقائق والمضامين الثابتة .
الحوار وأسس التفاهم المدني :
من هنا ومن أجل إزالة رواسب التاريخ وتجاوز حقب الإلغاء والإقصاء المتبادلين ، نحن بحاجة على صعيد الحوار بين الأديان ، الانتقال من سياق الحوارات ذات الطبيعة اللاهوتية ، التي لا تضيف إلا تأكيد كل طرف على أن مضامينه الدينية والفلسفية والروحية تتسع وتحترم الآخر المختلف في العقيدة والدين .
بينما الحاجة ماسة اليوم إلى الحوارات الثقافية ، التي تعمل في اتجاهين في وقت واحد . الاتجاه الأول : هو تنقية الفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي ، من كل رواسب الحروب وعمليات الإقصاء . وهذا لا يتأتى إلا بحوارات ثقافية عميقة وصريحة ، بحيث أن كل طرف ، يمارس نقدا صريحا وعميقا لبنيته الثقافية على هذا الصعيد . وإنه آن الأوان لردم الفجوة على الصعيد الفكري والثقافي ، بالمزيد من الحوارات التي تستهدف صياغة الوعي الجديد في طبيعة العلاقة مع ظاهرة التعددية الدينية .
والاتجاه الآخر : هو العمل على بناء حقائق ثقافية واجتماعية وسياسية جديدة ، تنقل الحوار من بعده اللاهوتي المغلق إلى آفاق الإنسان فردا وجماعة من أجل المساهمة في خلق نظام إنساني – عالمي أكثر عدالة وحرية ومساواة .
وهذا يتطلب وعيا تواصليا ، وحوارا حرا وشفافا من أجل بلورة كيفية الانخراط في مشروع الحداثة واستيعاب عناصرها الأساسية . فالحضارة وهي أعقد ظاهرة سوسيو – تاريخية خلقها الإنسان ، لا يمكن حصرها في قوم أو أمة أو ثقافة ، فهي نتاج تراكم تاريخي اشتركت جميع الثقافات والأمم والأقوام بنسب متفاوتة في خلقها وبناءها . فاليوم لا توجد حضارات متعاصرة ، بل حضارة إنسانية واحدة ، وبمقدار تقدم الأمم والشعوب في مختلف المستويات ، يكون نصيبها وموقعها في الحضارة المعاصرة .
وإننا نعتقد أن العمل على اكتشاف وتظهير الينابيع الإنسانية العميقة لكل الأديان السماوية ، سيساهم بشكل كبير في بلورة خيارات إنسانية أكثر عدلا ومساواة وحرية للبشرية جمعاء .
وإن كل محاولات الإنحباس دون البعد والروح الإنسانية ، سيكلف البشرية الكثير من العناء والشقاء .
فالمجتمعات الإنسانية اليوم ، تحتاج إلى الدين في بعده الإنساني والأخلاقي والروحي ، وإن الانكفاء دون تجلية وتظهير هذه الأبعاد من الأديان السماوية ، يعني المزيد من الحروب والصراعات المفتوحة ، والدمار الذي يهدد الإنسان فردا وجماعة في أمنه وكرامته وضرورات عيشه .
لذلك فإن المهمة الأساس في مشروع حوار الأديان ، ليس الدخول في نفق السجالات اللاهوتية والأيدلوجية ، وإنما العمل على تظهير كل القيم الإنسانية والحضارية التي تختزنها الأديان السماوية ، وإعمال العقل وإطلاق حرية التفكير من أجل بناء نظام علاقات بين مختلف المجموعات الدينية ، على قاعدة العدل والحرية وحقوق الإنسان . فالانتماء الديني ليس مدعاة للانتقاص من حقوق الإنسان أو فرصة للتقليل من حقائق ومتطلبات العدل والحرية . فالحقوق مصانة للجميع ، والفرص متاحة للجميع ، بصرف النظر عن الدين أو العرق أو القومية .
فالتواصل بين المختلفين والمتغايرين دينيا ، لا يتم عبر العقائد واللاهوت ، وإنما عبر الثقافة التي تدفع جميع المكونات إلى الحوار والتفاهم ونسج المشتركات وتنميتها . لذلك نجد القرآن الحكيم ، حينما يحثنا إلى الحوار والتواصل مع أهل الكتاب ، يؤكد على كلمة سواء ، وهي عبارة عن المشتركات والجوامع التي تجمعنا مع الآخرين . فالحوار لا يعني مغادرة موقعك الديني أو الفكري ، وإنما يعني اكتشاف المساحات المشتركة والانطلاق للعمل معا منها .
وإننا هنا لا ننفي أهمية الحوارات الأيدلوجية واللاهوتية في تظهير المشتركات ، وإنما ما نود قوله وتوضيحه إن الحوارات الثقافية المستديمة بين المختلفين والمتغايرين ، هي البوابة السليمة للانخراط في مشروع الحوارات الأيدلوجية . فالحوارات الثقافية وما تخلقها من مشتركات وبيئة حاضنة ومؤاتية ، هي التي تهيئ الأرضية لنجاح أي حوار ديني وأيدلوجي .
فالحوارات الثقافية هي القادرة على صياغة راهن العلاقة بين كل الثقافات والوجودات الاجتماعية على أسس العدالة والاحترام المتبادل. أما الحوارات الأيدلوجية فهي تستهدف بالدرجة الأولى التعريف المتبادل للعقائد وتظهير الجوامع المشتركة على هذا الصعيد . وعلى هذا فإن كل الحوارات بكل مستوياتها مطلوبة ، إلا أن المدخل الإيجابي لكي تؤتي هذه الحوارات ثمارها الإيجابية ، هي أن تبدأ الحوارات في بعدها الثقافي ، وذلك لتفكيك كل عقد الراهن ، والانطلاق من خلو الراهن من عقد مستعصية إلى الحوارات في جوانبها وأبعادها الأخرى .
ولعل في الآية القرآنية التالية ، إشارة إلى أن الجدل الأيدلوجي المجرد من طبيعته ، أن يصر كل طرف على موقفه وقناعاته ، دون التفكير في صناعة وتوسيع المساحات المشتركة . إذ يقول تبارك وتعالى [ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ] ( 18 ) .
وبالتالي فإن نجاح الحوار في مختلف دوائره ، ليست رغبة مجردة ومعطى مفصول عن التخطيط والإرادة والحكمة . بل هي عملية خلق متواصل لكل الحقائق والوقائع ، التي تؤكد على التواصل والقبول بالتعددية وأسس العيش المشترك .
فالحوار هو من أجل إنقاذ الراهن من أمراض الظلم والاستبداد وسيطرة المادية المتوحشة ، وبناء المستقبل بعيدا عن كل أسباب وموجبات الانحدار الأخلاقي والسياسي والروحي . و " ما يجب أن يكون مساهمة جوهرية في الوصول إلى الحوار بين الأديان إنما هو البحث في التاريخ الذي أدى في كل من التراثات إلى الموقف المعاصر من التعدد في الحقل الاجتماعي . إلى جانب التنبه المناسب للسؤال عن المقاييس التي نستخدمها بهذا الصدد في تحليل تاريخنا وتاريخ التراثات الأخرى ، من المهم ، للنجاح في هذا العمل ، اتباع المراحل التالية :
في المرحلة الأولى يجب تعميق الاختبار في إيماننا وتفكيرنا ، هذا الاختبار الذي نقوم به في الحوار مع تاريخنا الخاص وفي اللقاء مع الثقافات الأخرى . نستعمل لهذا مقاييس وشروطا معينة ، يجدر التقيد بها عندما نعالج الأمور من الداخل ، من تساؤلاتنا اللاهوتية . إنه إلى حد ما التوتر بين علم الأديان وربما أيضا الفلسفة من جهة ، واللاهوت من جهة أخرى .
الناحية الثانية التي يجدر أن تستأثر باهتمامنا هي ناحية العلمنة . كل ما هو ممكن اليوم في عالمنا المتعدد بالنسبة إلى العيش معا بسلام ، وحتى اجتماع من هذا النوع ، لم يصر ممكنا إلا بفضل نظام حقوقي دولي نما مع ما ندعوه العلمانية ، التي تحملنا ، مع كل الاختلافات في المواقف ، على الابتعاد عن محاربة أحدنا الآخر ، بل ترغمنا على ذلك .
العنصر الثالث هو حرية الفكر ، التي لا بد منها للتمكن من التفكير بالحقيقة في شروط محدودة . نملك في تراثنا الجامعات ، التي يصح أن نصفها بأنها ( أماكن حرية الفكر ) ، بما في ذلك اللاهوت كمادة جامعية " ( 19 ) .
والعلمنة المطروحة في النص أعلاه ، لا تعني الانحلال الأخلاقي واستغلال المرأة أو كل المظاهر المريبة اجتماعيا وأخلاقيا ، وإنما تعني ضرورة وجود حيز حر من التفكير المتحرر من الخوف ، وبناء علاقات اجتماعية وإنسانية على قاعدة المشترك الإنساني والوطني ، وليس على قاعدة التمايز الديني أو العرقي أو ما أشبه ذلك . ولا يمكن تعميق أسس التفاهم المدني ، إلا بشيوع وتعميق ثقافة الحرية وحقوق الإنسان والتسامح في الفضاء الاجتماعي والإنساني . فالثقافات المدنية تقتضي توسيع مساحة المشترك على قاعدة الحوار والحرية والأسئلة النقدية التي تساءل الواقع ، وتعمل على فحصه وصولا إلى تظهير كل المضامين الحضارية والإنسانية للقيم والمبادئ والمثل العليا . لهذا يقول ( أندراوس بشته ) " إنه مهم جدا أن لا نعزل وضع جماعتنا الدينية والجماعات الدينية الأخرى لننظر إليها في ذاتها ، بل يجب السعي إلى فهمها في الإطار الاجتماعي الثقافي الذي تحيا فيه ، لمعرفة تطوراتها التاريخية . فهل نأخذ هذا الأمر بالاعتبار بشكل كافٍ أيضا في الحوار المسيحي – الإسلامي ، وذلك بما نقوم به من جهود كبيرة للوصول إلى وصف تاريخي موضوعي ، وتصحيحات مناسبة لتصور الآخر في كتب الدراسة وفي معطيات الثقافة العامة لشبيبة اليوم " ( 20 ) .
فإعادة صوغ العلاقة بين أهل الديانات التوحيدية الكبرى ، على أسس العدالة ونبذ الظلم ومحاربة الاستئثار بكل صوره ، سيساهم في إرساء معالم السلام في المشهد العالمي . وذلك لأنه ( على حد تعبير عالم اللاهوت الألماني هانز كونج ) " لن يكون هناك سلام بين الأمم ما لم يكن هناك سلام بين الأديان ، ولن يكون هناك سلام بين الأديان ما لم يكن هناك حوار بين الأديان " .
إننا نعتقد بأهمية أن تتجه حوارات الأديان ، إلى بيان وتعميق أسس التفاهم المدني بين البشر . فالقيم الدينية الكبرى في كل الأديان ، تكون عامل إثراء وتعزيز لكل تفاهم وتعايش بين بني الإنسان . ولكي تكون الحوارات الدينية جسرا لتعميق أسس التفاهم المدني بين الأمم والمجتمعات الإنسانية ، من الضروري التأكيد على النقاط التالية :
1- ضرورة العمل على تفكيك كل الأنماط والتصورات النمطية التي يحملها كل طرف عن الآخر . فلا يمكن تطوير مستوى الحوار ، وإيصاله إلى مستويات متقدمة من التفاهم المتبادل ، إلا بخروج الجميع من كل التصورات الجامدة والنمطية ، والتي تبلورت في عصور الصراع والجهل المتبادل . فالقوالب الذهنية والثقافية الجامدة والنمطية ، هي أحد المعوقات الأساسية التي تحول دون تطور حوار الأديان في الحقبة الراهنة . والخروج من الرؤية النمطية ، لا يعني نفي التاريخ أو تجاهل أحداثه وملابساته ، وإنما خلق الوعي الذي يكفل للجميع عدم الخضوع لمقتضيات القول والرؤية النمطية ، التي هي بشكل أو بآخر وليدة لحظة تاريخية ذات التباسات عديدة .
ولعلنا لسنا بحاجة إلى نبش التاريخ ، لمعرفة المصادر التاريخية والدينية والاجتماعية ، التي ساهمت في خلق الرؤية النمطية والجامدة تجاه الإسلام كدين والمسلمين كمجتمع وثقافة ، وإنما الذي يهمنا في هذا الصدد هو : إن مقتضى الحوار بين الأديان ، يتطلب الانعتاق من كل الصور والانطباعات والنماذج التاريخية ، التي تشكلت بين أهل الأديان ، وهي صور وانطباعات أقل ما يقال عنها أنها انتقائية ووليدة ظروف خاصة .
2- من الأهمية بمكان أن تخرج حوارات الأديان ، من طابع السجالات الأيدلوجية واللاهوتية ، وتتجه بتركيز صوب البحث عن أشكال وصيغ التعايش بين أهل الديانات التوحيدية الكبرى . إذ أن الحاجة الإنسانية الملحة اليوم ، هي الوصول إلى صيغ للتفاهم والتعايش بين مختلف المكونات والتعبيرات .
وإن المؤتمرات والحوارات ينبغي أن تلتفت إلى هذه الحاجة ، وتعمل عبر برامجها وأطرها المختلفة ، للبحث العميق والمتواصل في صيغ تتجاوز فيها البشرية ، خطر التعصب والإرهاب ، وتؤسس لحالة إنسانية جديدة ، قوامها التعايش على قاعدة الاحترام المتبادل .
و " إن قوة الاتصالات بالعالم المعاصر ، ستفتح آفاقا وإمكانات عريضة لإدراك التقاليد الدينية المغايرة ، الأمر الذي يجعل حوار الإسلام الجدي مع الديانات الأخرى في منتهى الأهمية والضرورة . ولهذا فإن مفكري الشرق الدينيين الأكثر عمقا وإطلاعا يدركون بصورة أكبر فأكبر ، أن بلوغ تدين أكثر ملاءمة واتساقا مع الظروف العصرية الراهنة ، يمكن أن يحدث فقط في شروط تؤمن التحرر من الكراهية الطائفية والشعور بالتفوق والتميز " ( 21 ) .
3- لكي تمارس الأديان دورها ووظيفتها في دعم قيم السلام والوئام والتنمية في المجتمعات الإنسانية ، من الضروري الاهتمام بالبعد الروحي للأديان ، والعمل على إبراز هذا الجانب ، وكل التجارب الروحية للأفراد . وذلك لأن هذه التجارب ، والقيم الروحية التي تقف وراءها ، تساهم بشكل أساسي في تصحيح العديد من التصرفات والممارسات ، وتضبط نزعات الاستئثار والميل نحو استخدام القوة الغاشمة ضد المختلف والمغاير .
إننا ومن أجل إثراء الواقع الإنساني ، بحاجة إلى تجلية البعد الروحي للأديان السماوية . وذلك من أجل أن تمارس هذه القيم دورها ووظيفتها في الفضاء الإنساني بكل مستوياته ودوائره .
وجماع القول : إننا نعتقد وبشكل عميق أن الاهتمام بحوار الأديان وتطوير موضوعاته ونقلها ، من حقل الأيدلوجيا واللاهوت إلى حقل الثقافة والإنسان ، سيساهم في رفد الإنسانية جمعاء بالكثير من القيم والمبادئ والتجارب الروحية ، التي تحد من غلواء وتوحش المادة ، وصولا إلى بناء إنساني أكثر توازنا وبعدا عن نزعات الطغيان والاستبداد والهيمنة .
الدين والإنسان .. أية علاقة :
ثمة علاقة عميقة وصميمية تربط الأديان التوحيدية الكبرى في نصوصها التأسيسية بالإنسان . إذ أن كل التشريعات الدينية تتجه إلى الإنسان موضوعا وغاية . وحتى في الحقب التاريخية واللحظات الزمنية التي تراجع فيها موقع الدين في الحياة العامة ، فإن السعي والكدح الذي يبذله المتدينون أفرادا وجماعات ، يتجه إلى إعادة الإنسان إلى الله ، بصرف النظر عن طبيعة القضايا الجزئية والتفصيلية التي تتمايز من دين لآخر فيما يرتبط وتجسيد الوجدان الديني في حياة الإنسان الخاصة والعامة .
وبمقدار ما ينفتح علماء الأديان ومتخصصيه على القيم والمبادئ الكبرى التي صاغتها النصوص التأسيسية للأديان ، بذات القدر يتم الانفتاح على الإنسان وقضاياه الملحة . لذلك فإننا نعتقد أن الخطوة الأولى في مشروع صياغة رؤية ومشروع ودور الدين في بناء الإنسان ، تتجسد في انفتاحنا وتواصلنا مع النصوص التأسيسية للأديان التوحيدية ، التي تختزن مضامين إنسانية سامية . وذلك لأن استغراقنا في القضايا اللاهوتية مع أهمية بحثها والتحاور بشأنها ، إلا أنها تنتمي إلى حقل غير الحقل الذي ينبغي أن نبحث عن دور الدين في بناء الإنسان .
فالحقل الثقافي الذي يتواصل بفعالية مع القيم والخيارات الكبرى للأديان ، هو الحقل والمدى الفكري والإنساني الذي يوصلنا إلى بلورة وصياغة رؤية مشتركة لدور ووظيفة الدين في بناء الإنسان .
ولعلنا لا نأت بجديد حين القول في هذا الصدد ، أن نقل الحوار بين الأديان من دائرة اللاهوت إلى دائرة الثقافة بكل أبعادها ، هو الذي يضمن للجميع حوارا معاصرا وبعيدا عن كل العناوين والقضايا التي تم تجاوزها من قبل كل المجتمعات والأمم . فالتفكير في القضايا البائدة ، والتي لا أثر ملموس لها في حياة الإنسان المعاصر ، يعرقل مهمة الدين في بناء الإنسان في مختلف الأبعاد والجوانب . لذلك ثمة ضرورة دينية وحضارية لإثارة القضايا والعناوين التي لها مدخلية مباشرة في حياة الإنسان المعاصر ، ونبحث جميعا من مختلف مواقعنا لصياغة رؤية تفيد حاضر الإنسان ومستقبله . وهذا بطبيعة الحال لا ينفي أهمية أن تتضح رؤيتنا وفهمنا للآخر الديني ، ولكننا نود أن نقول أن وضوح الرؤية والفهم للآخر تبدأ من إثارة القضايا الإنسانية المعاصرة والملحة ، والبحث عن إجابات وحلول على قاعدة الفهم والتواصل المتجدد للقيم والمبادئ الدينية . بحيث تتحرك كل الامكانات والقدرات لحماية الإنسان وصيانة حقوقه ومكتسباته بصرف النظر عن انتماءه الديني .
وإذا كنا نتحسس من بعضنا البعض في دوائر الدعوة أو التبشير فإن التزامنا بالإنسان مطلقا وبقضاياه الملحة هو الذي يوفر الجوامع المشتركة ويدفعنا باتجاه العمل المتعدد الجوانب بما يفيد حياتنا المعاصرة .
وفي سياق بيان دور الأديان في بناء الإنسان ، نود أن نثير الكلمات التالية :
1- الكلمة الأولى : حين تفقد الأمة ( أية أمة ) شخصيتها فليس بينها وبين نهايتها إلا خطوة واحدة ، وإن شخصية الأمة هي روحها الجماعية التي يستوحي منها كل فرد من أبنائها العزيمة والأمل حين يعشق الفلاح أرضه التي يحرثها ويداعبها حتى تخضر وتنتج ، فهو لا يحب التراب كمادة جامدة ، بل كرمز للأمة التي عاشت ولا تزال عليها . وحين يتعامل العامل مع آلات مصنعه ، وينسجم معها كأنه في جوقة موسيقية ، فإنه لا يتعامل مع الحديد ، إنما مع البشر الذين سوف ينتفعون منها . إن حبلا قويا يشد هؤلاء وغيرهم إلى بعضهم ، وروحا واحدة تجمع قلوبهم وتضيئها بقنديل الأمل . ولكن إذا ضاعت شخصية الأمة ، ولم يعد يشعر أبناؤها بالروح الواحدة التي تجمعهم ، فإن كل واحد سيتخذ طريقا مختلفا ، وسيشعر الجميع بالضعف والعجز والهزيمة .
والسؤال : ما هي شخصية الأمة وبأي شيء تتكون ؟
الجواب : إن وحدة القيم والثقافة ، والاشتراك في الهدف والتاريخ ، هي حدود شخصية الأمة . فمن دون الثقافة ذات القيم السامية ، التي يؤمن بها الجميع إيمانا راسخا يبعثهم على العطاء من أجلها والتضحية لها ، يسقط الجدار المعنوي لبناء الأمة . ومن دون الهدف ، ذي التجربة التاريخية ، الذي يكون نقطة ارتكاز لنشاطات الأمة ، ينهار الجدار المادي لبناء الأمة .
لهذا كله ومن أجل أن تشارك الأديان في بناء الإنسان وتهذيب نوازعه ، من الضروري التأكيد على أصالة القيم ونعني بها ترسيخ الإيمان والحق والحرية والعدالة الاجتماعية .
إننا نخسر كثيرا بتخلفنا الذي دام أكثر من اللازم ، وليس من المعقول الاستمرار فيه . ولكن ، كيف نفتح أبواب الحضارة على أنفسنا ؟
في تقديري إن أية حضارة لا تبدأ إلا بتكامل عاملين : العقل والروح ، الفكر والإرادة وبالتالي العلم والإيمان .
والإيمان بوحده لا يكفي ، إنه كطائر بجناح واحد ، كرجل يملك القوة ، يملك الرجل واليد والنشاط ، ولكنه لا يملك العين . لهذا فإننا جميعا حينما نحكم العقل والمنطق السليم ، يسهل علينا التعاون والمشاركة الفعالة في بناء الإنسان . " الأمر الذي قد يتيح للشعوب المستضعفة أن تكتشف في الدين الحركي معنى الحرية والعدالة ، فتلتقي بالإيمان به من خلال جهاده السياسي في خط المواجهة للظلم العالمي كله ، ليقف المسلم ضد المستكبر حتى لو كان مسلما ، ويقف المسيحي ضده حتى لو كان مسيحيا ، فذالك هو الذي يمثل اختصار المسافة الطويلة للوصول إلى عقل المستضعف ، لأن الكثيرين من الناس يفهمون الإيمان من خلال المشكلة التي يتخبطون فيها أكثر مما يفهمونه من خلال المفردات اللاهوتية التي يفكرون فيها ، لأن أقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبه ، كما أن أقرب الطرق إلى القلب قضاياه وحاجاته الطبيعية الملحة في الحياة . "
ولعلنا هنا لا نبالغ حين القول : أن البابا بولس السادس استطاع أن يحقق للروح المسيحية الكثير بنشاطه السياسي في حركته من أجل القضايا الإنسانية العامة في أكثر من موقع أو موقف . وكل شخصية دينية سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو يهودية ، تستطيع أن تحقق الكثير حينما تتبنى من موقعها الديني القضايا الإنسانية ، وتعمل بوسائل مختلفة للدفاع عن الإنسان والشعوب المظلومة والمضطهدة . فالأديان دائما بما هي قيم ومبادئ ومثل ، هي ضمير الناس وجسرهم للتعبير عن إنسانيتهم ولحشد امكاناتهم لمقاومة كل ما يسيء إلى إنسانية الإنسان .
وبناء الإنسان بحاجة بشكل مستديم إلى قيم ومبادئ ، تزيل ركام الجمود والانحطاط ، وتحفز قيم الخير والفعالية ، وتبرز البعد الإنساني بكل تجلياته في حياة الإنسان . ولعل هذا هو الدور والوظيفة الأولى التي يقوم بها الدين في مشروع بناء الإنسان .
ومهمتنا جميعا ومن موقع إيماننا الديني ، أن ننفتح على قضايا الحرية والعدالة والمساواة للإنسان ، ونتحرك بمحاولات ومبادرات مستديمة للوصول إلى الكلمة السواء في كل القضايا التي تهم الإنسان واستقرار وسعادة البشرية جمعاء ، ولنحفز الفضاء الإنساني بأسره صوب المزيد من الانفتاح على ما لدى كل منا من قيم روحية وأخلاقية وإيمانية مشتركة .
2- الكلمة الثانية : إن بناء الإنسان وتنمية مداركه ومواهبه ، لا يمكن أن يتم إلا بتنمية دوافع الخير والصلاح والمحبة في نفس الإنسان . فالإنسان الذي يمتلئ قلبه محبة للناس هو الذي يمارس فعل الخير والتنمية في الفضاء الإنساني ، والإنسان الذي يختزن في عقله قيم الحوار والالتزام ، هو الذي يحوّل حياته إلى شعلة من النشاط والحيوية بما يفيد الإنسان الفرد والجماعة .
والدين بما هو منظومة قيمية وأخلاقية وإيمانية ، هو الذي ينمي في الإنسان دوافع الخير والصلاح ، ويدفعه نحو تجسيد هذه القيم في الواقع الخارجي . لذلك فبمقدار تمكن قيم الإيمان من نفس الإنسان ، بذات القدر يمارس الخير والمحبة للجميع . فالإيمان ليس هروبا من الحياة أو انزواءً وانكفاءً عن قضايا الإنسان والتزاماته المتعددة بل هو حركة في العقل .
" فكل ما في الوجود لا بد من أن يكون للعقل دور في رصده ، وإن لم يملك هذا الأخير وسائل البحث في بعض امتداداته ، فالوجود لا بد أن يكون عقلانيا ، وإن كان العقل لا يتمتع بالقدرة على معالجة ما في داخله من مفردات وتعقيدات تخرج عن دائرة الحس والمألوف . فنحن ندرك الله بالعقل ، ولكننا لا نملك الوسيلة للبحث في ذات الله .. في البرهان الديني نحن نرصد الغيب بالعقل حقيقة ووجودا ، ولكننا لا نعرف ما وراءه وكنه وجوده ، تماما كما هي الفلسفة ، قد لا تستطيع من خلالها معرفة كنه الجوهر ، ولكنك تستطيع أن تشير إليه .
فالإنسان مؤمن بما يعقل ، وعلى هذا الأساس كان لا بد له من خوض تجربة الشك ، من أجل الوصول إلى اليقين ، وذلك يتطلب رحلة طويلة في عالم الصراع الفكري الداخلي ، حيث تتجاذب الإنسان الاهتزازات من خلال تناقض الاحتمالات ، وتضاد الأفكار ، وتعارض الاتجاهات ، التي تتم مناقشتها وجدانيا وعقليا بكل موضوعية وانفتاح ، ليعرف الحق من الباطل ، وينتقل من الجهل إلى العلم . "
ويقول تبارك وتعالى [ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ] ( آل عمران 191 ) . وقال عز من قائل [ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ] ( العنكبوت 20 )
فالتفكير والتأمل في ظواهر الكون ومتغيراته وأسرار الإنسان وخباياه ، هو الذي يقود إلى تعميق مفهوم الإيمان في نفس الإنسان . وبذلك يتحول الدين والإيمان بقيمه ومبادئه ونظمه ، حافزا للعمل والبناء والعمران . لذلك نجد أن آيات الذكر الحكيم تحث وتحض على التفكير والتأمل حتى يتحرر الإنسان من كل القيود والضغوطات . إذ قال رب العزة [ قل إنما أعظكم بواحدة ، تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ] ( سبأ 46 )
وفي ذات الوقت هدد القرآن الحكيم أولئك النفر الذي يحتكرون المعرفة ويكتمون ما أنزل الله من البينات باللعنة الإلهية . إذ يقول تبارك وتعالى [ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ] ( البقرة 159 )
ونبذ احتكار المعرفة بوحده لا يكفي من أجل خلق الشروط الضرورية لبناء الإنسان على أسس الإيمان والحرية والعلم . لذلك يؤكد القرآن الحكيم في العديد من آياته على قوة العلم وسلطان الحجة . فالجدال ليس هدفا بذاته ، لذلك من المهم أن يستند إلى قوة العلم والحجة والبرهان . يقول تعالى [ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ] ( الحج 8 )
وبهذا تتأسس كل شروط ومرتكزات البناء السليم للإنسان . فمشروع البناء الحقيقي للإنسان ، يبدأ من نبذ احتكار المعرفة وكتمان الحق ، وحث العارفين والعلماء بنشر العلم والمعرفة وتعميمهما والاحتكام الدائم إلى الحجة والبرهان والخروج من كل دوائر الجدل الذي يبتعد عن الحقائق أو لا يستهدف الوصول إليها . وتوج الباري عز وجل كل هذه القيم والمرتكزات بضرورة اتباع أسلوب اللين والكلمة الطيبة والطرق المرنة التي تفتح القلوب على الحق وتقرب الأفكار إلى دائرة مفاهيمه وأحكامه . إذ يقول تعالى [ ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين * ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ] ( فصلت 33- 35 )
فالأساليب العنفية والانفعالية في التعامل مع الآخرين ، ليس من الإسلام في شيء ، وهي أساليب تهدم ولا تبني . ووظيفة الأديان في عمليات البناء الإنساني ، تنطلق حينما يتحرر الإنسان من كل أساليب العنف والنبذ والإلغاء التي قد يستخدمها البعض باسم الدين .
وحوار الأديان بكل مستوياته ، من الأهمية أن يأتي في سياق الحوار الموضوعي ، الذي لا يهدف الانحباس في القضايا اللاهوتية ، وإنما تأكيد وتعميق أسس ومرتكزات مشاركة الأديان في بناء الإنسان وتطوير الحياة المعاصرة في أبعاد القيم والمبادئ والجوانب المعنوية التي يحتاجها الإنسان الفرد والجماعة في مختلف مراحل حياته .
وهذا يجعلنا نقرر حقيقة أساسية في هذا المجال وهي : حينما تتجسد قيم الإسلام في شخصية الإنسان المسلم ، وتتجسد قيم المسيحية في شخصية الإنسان المسيحي ، وتتجسد قيم اليهودية في شخصية الإنسان اليهودي ، يتحرر الإنسان من كل القيود والكوابح التي تحول دون تقدم الإنسان ورقيه المادي والمعنوي .
3- الكلمة الثالثة : أفق الرسالات الدينية السماوية رحب وواسع في نصوصها التأسيسية وخياراتها الكبرى ، إلا أن بعض الأتباع ولعوامل عديدة ذاتية وموضوعية يغلقون الأفق على الآخرين ، ويضيقون الوسع الذي تتميز به النصوص التأسيسية للأديان التوحيدية الكبرى .
لذلك من الأهمية التفريق بين الدين المعياري والذي هو مجموع القيم والمبادئ العليا التي جاء بها الدين ، وبين الدين التاريخي والمعيوش ، وهو تلك التجربة الإنسانية التي عملت على تجسيد قيم الدين أو تسمت باسمه . وفي تقديرنا أن فض الاشتباك والالتحام بين المعياري والتاريخي يساهم في تجلية وتظهير دور الأديان السماوية في بناء الإنسان . ولعلنا لا نجانب الحقيقة حين القول : أن الدين التاريخي في بعض حقبه التاريخية ، ( وهذا الكلام ينطبق على كل الأديان ) كان دوره سلبيا وسيئا تجاه الإنسان وقضاياه الجوهرية . فحينما يخضع رجل / عالم الدين كفرد أو مؤسسة للسلطان السياسي الغشوم ، ويسوغ له كل أعماله وتصرفاته ، فإن هذا الدين المعيوش والممارس أضحى كابحا للإنسان ومانعا من نيله حقوقه وحريته . لهذا فإن مرجعيتنا في بيان دور الأديان في بناء الإنسان ، ليس التجربة التاريخية بكل فصولها ومحطاتها ، وإنما بعض الحقب المجيدة بإطارها ومرجعيتها القيمية التي مارس فيها الدين دوره التاريخي والحضاري المأمول . لهذا فإن التحرر من عبء التاريخ والانعتاق من آسار الواقع وبعض قواه السياسية المحلية والدولية والتي تسعى لتوظيف حوار الأديان توظيفا سيئا وضيقا ، والتفاعل الخلاق مع الأديان في نصوصها التأسيسية وحقبها التاريخية المجيدة فحسب ، هو الذي يساهم في بلورة المناخ المواتي لكي تمارس الأديان دورها في بناء الإنسان والمجتمعات .
الخاتمة :
إن المنظومة القيمية الكبرى للأديان التوحيدية ، تدفع الإنسان لكي يكون مباركا ، أي نفاعا للناس ، بحيث لا تتجمد حياته في ذاته ، ولكنها تمتد إلى الناس الآخرين وتتحرك في حياتهم .
والقرآن الحكيم يحدثنا عن هذه القضية الهامة ( النفع المستديم للناس ) من خلال ذكر قصة السيد المسيح ( ع ) . إذ يقول تبارك وتعالى [ قال إني عبدالله آتانيَ الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ] ( مريم 30 – 32 ) .
والبركة التي تتحدث عنها هذه الآيات ليست شكلية ، وإنما هي ممارسة وفعل متواصل . فهي تتحرك من خلال فكر الإنسان وجهده وطاقته في مستويات الحياة المتعددة . فالنفع والخدمة ، هي عنوان الدين في علاقته بالإنسان . ولعلنا لا نذهب بعيدا حين القول : أن دور الأديان في بناء الإنسان ، لا يخرج في مضمونه وجوهره ، عن هذه الآيات التي توضح كيف جعل الله تعالى السيد المسيح ( ع ) مباركا أينما كان . فحينما يكون الإنسان في سلام مع الله ، يتحرك في أطوار حياته في رحلة السلام ، مع نفسه ، ومع الناس . وبهذا تكون حياة الإنسان وفق الرؤية الدينية محبة وسلاما وخيرا وبركة للآخرين .
الهوامش
1- الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين ، الحوار الإسلامي – المسيحي نحو مشروع للنضال المشترك ، ص 5 ، مؤسسة الإمام شمس الدين للحوار ، الطبعة الأولى بيروت 2004م .
2- الشيخ محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار جـ 19 ، ص 110-111 ، مؤسسة الوفاء ، بيروت 1983م .
3- الشيخ شمس الدين ، الحوار الإسلامي – المسيحي ، مصدر سابق ، ص 12 .
4- القرآن الكريم ، سورة البقرة ، الآية ( 285 ) .
5- القرآن الكريم ، سورة الشورى ، الآية ( 13- 14 ) .
6- القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، الآية ( 64 ) .
7- القرآن الكريم ، سورة الإسراء ، الآية ( 70 ) .
8- القرآن الكريم ، سورة الحجر ، الآية ( 29 ) .
9- القرآن الكريم ، سورة ص ، الآية ( 72 ) .
10- القرآن الكريم ، سورة البقرة ، الآية ( 30 ) .
11- الشيخ شمس الدين ، الحوار الإسلامي – المسيحي ، مصدر سابق ، ص 119 .
12- القرآن الكريم ، سورة البقرة ، الآية ( 136 ) .
13- القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، الآية ( 64 ) .
14- القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، الآية ( 113 – 114 ) .
15- القرآن الكريم ، سورة المائدة ، الآية ( 47 – 48 ) .
16- القرآن الكريم ، سورة البروج ، الآية ( 4 – 10 ) .
17- القرآن الكريم ، سورة الروم ، الآية ( 1 – 4 ) .
18- القرآن الكريم ، سورة البقرة ، الآية ( 111 – 113 ) .
19- أندراوس بشته – عادل تيودور خوري ، الإسلام يسائل المسيحية في شؤون اللاهوت والفلسفة ، ص 378 ، المكتبة البولسية ، جونيه – لبنان 2000م .
20- المصدر السابق ، ص 522 .
21- أليكسي جورافسكي ، الإسلام والمسيحية ، ترجمة الدكتور خلف محمد الجراد ، ص 225 ، عالم المعرفة عدد 215 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت 1996م .