تربية الأبناء.. لا تسلط ولا استبداد بعد اليوم

 

"إن الشارع العربي يجسّد أزمة التربية في البلد، إذ من المعلوم الآن أن المدرسة لم تعد تربي، والإعلام يدغدغ المشاعر ولا يهذبها، والأهل ما عادوا مكترثين بتربية الأبناء، فهم إما مشغولون طول اليوم بالسعي وراء الرزق، أو أنهم يستثمرون أوقات فراغهم في متابعة التليفزيون، وإلى جانب أزمة التربية فهناك أيضا أزمة النموذج الذي تحتذيه الأجيال الجديدة، فحينما تكشفت فظائع النظام السابق بعد الثورة فإننا عرفنا أي نوع من الناس كانت تتصدر الواجهات وتجسد المثل العليا التي سادت المجتمع طوال الثلاثين سنة الماضية ". هكذا لخص فهمي هويدي، الكاتب الصحفي المشهور، الوضع التربوي من وجهة نظره، وذلك في إحدى مقالاته المنشورة بجريدة الشروق المصرية.

ويرى هويدي كذلك أن الشارع العربي يحتاج إلى "إعادة تربية".. ولكن هل نحن على مستوى العالم العربي كله في حاجة فعلية إلى إعادة النظر في تربية الأبناء؟ وهل نحتاج إلى ثورة في التربية مثلما كنا في حاجة ماسة إلى ثورة اجتماعية وسياسية، فانتفض الشعب العربي في الشوارع -فيما عرف بالربيع العربي- يحمل أكفانه ليستبدل بها حريته بعد سنوات طوال من الاستبداد والقهر والظلم والجوع؟.

هل ستحمل الثورات العربية تغييرا في منهاج تربية الآباء للأبناء؟ وما هي أبرز الأخطاء التربوية التي يقع فيها أولياء الأمور وتحتاج إلى ثورة حقيقية؟. هذا ما سيجيب عليه بعض المستشارين النفسيين والتربويين والاجتماعيين.

تقول أميرة بدران، الأخصائية النفسية والمستشارة الاجتماعية: نعم نحن في حاجة ماسة إلى ثورة في التربية، لأسباب كثيرة جدا، فمن خلال خبرتنا في المجال الاستشاري نجد أن هناك الكثير من المشكلات التي يعاني منها الشباب والأبناء، كالاعتمادية وسوء التصرف، وهي في أغلبها ناتجة عن سوء التربية الذي تعرضوا له وهم أطفال صغار، وحتى لا نظلم الآباء نقول: إن التكوين النفسي لأي إنسان هو نتاج تفاعل ثلاث عوامل رئيسية، وهي العامل الوراثي والعامل التربوي والخبرات، إلا أن العلم أثبت أن الخلايا العصبية للمخ في الإنسان هي خلايا مرنة جدا يمكن تعديلها وفقا لخطة طويلة ومستمرة لتغيير مشاعر معينة أو تصرفات بحد ذاتها.

7 أخطاء قاتلة

تقول أميرة بدران: إنه تم رصد 7 طرق سلبية وخاطئة في التربية على مستوى العالم العربي، وقد جاء ذلك في ورقة بحثية للدكتور محمد المهدي، الطبيب النفسي المعروف، وهذه الطرق نحتاج بالفعل للقيام بثورة من أجل التخلص منها، وهي:

التربية بالحماية الزائدة: فالآباء الذين يحبون أطفالهم بشكل مبالغ فيه يمنعهم حبهم هذا من إطلاق العنان لأطفالهم، لأن الحب الزائد يولد الخوف الزائد، وبالتالي يكون تحجيم الانطلاق في الحياة وتضييقها هو السبيل الوحيد أمام الصغار، وهنا يخرج للمجتمع طفل رخو وهش غير واثق من نفسه، حتى إن أبسط الأمور لا يستطيع فعلها.. فيكون الاعتماد على والديه ثم على زوجته وأولاده بعد ذلك.

تربية الإهمال: فالأب والأم مشغولان طوال الوقت، والطفل مهمل، فهو من وجهة نظرهم لا يستحق التقبل والحب والرعاية، أو أن العمل له الأولوية ثم تأتي رعاية الصغار، وهذا الطفل عندما يكبر يكون ناقما جدا على أبويه والمجتمع، كما أنه يكون منعدم الثقة في نفسه، ويشعر بأنه لا قيمة له.

تربية القسوة: بعض الآباء ينتهجون مبدأ "اكسر للولد أو للبنت ضلعا فتضمن الاستقامة"، قد يفعل الآباء ذلك بدافع الحب والخوف على أبنائهم، ولكن هذا أسلوب خاطئ في التربية، لأنه يربي طفلا قاسيا كارها للمجتمع والناس.

تربية النبذ: بعض الأهل يكرهون أولادهم، وقد يستغرب البعض، ولكن هذا حقيقي وموجود بنسب قليلة، فالسيدة التي أنجبت خمسة فتيات وتريد أن تنجب صبيا، إذا حملت وأنجبت بنتا سادسة قد تكره هذه البنت، لأنها ترفضها في قرارة نفسها، وقد يكون هناك رجل يكره زوجته ولكنه يكمل معها الحياة لسبب أو لآخر، وقد ينجب منها طفلة تشبهها تماما، وهنا قد يكره الأب الطفلة ويحاسبها على أشياء بذنب والدتها. نسمع كذلك كثيرا من الناس يقولون: "دا ابني ده جه غلطة"، لأنه الطفل الثالث أو الرابع أو غيره.. وهذا يؤثر جدا على نفسية الطفل الصغير، حتى أن الدراسات أثبتت أن الجنين له مشاعر وينتقل إليه الشعور بالرضا والحب والتقبل أو العكس. وهذا الطفل المنبوذ قد يتفنن بعد ذلك في تعذيب أهله عن طريق تعمده الفشل أو الرسوب أو غيره.

التربية بالتدليل: يدلل الآباء في بعض الأحيان الطفل الوحيد أو الأجمل أو من جاء بعد فترة طويلة من الحرمان من الإنجاب، وهذا الطفل يصاب بالأنانية، يحب دائما أن يأخذ ولا يعرف العطاء.

التربية السيكولوجية: حيث إن بعض الآباء يركزون في تربية أبنائهم على الطرق العلمية، فيحاولون التعلم باستمرار، ويبحثون عما هو جديد في التربية طوال الوقت، فهم يؤمنون بالطرق النظرية، وأن "واحد زائد واحد يساوى اثنين"، ولا مجال للمساحات الرمادية، وهؤلاء الآباء في الغالب لا يربون أطفالا ولكنهم يتعاملون مع آلات ميكانيكية لا يهمها الرأفة والرحمة والمشاعر، فالجزء العاطفي ملغي تماما، وهؤلاء الأطفال غالبا يفكرون بشكل علمي وناضج وناجح، ولكن العاطفة تكون مفتقدة لديهم.

التربية الدينية: بعض الآباء حتى لا يجهدوا أنفسهم في التربية يقولون: "أنا أحسن حاجة أربي الطفل على قال الله وقال الرسول والحرام والحلال"، ومن ينتهج هذا سبيلا وحيدا في التربية يكون في اللاوعي الخاص به أنه لا يريد أن يشغل باله، فهم سيمنعون أبناءهم عما هو حرام ويثبتون لديهم ما هو حلال فقط، فلا وجود للحوار ولا الفهم والتفهم والتقبل والمشاعر الفطرية التي تحتاج من الآباء أن يأخذوها بالتدريج مع أبنائهم حتى لا يفلتوا منهم، أما سياسة الحلال والحرام فقط فتجعل الأبناء لا يعترضون أبدا، لأنه إذا فعل فقد يعترض على ثوابت الدين، وقد يشعرهم ذلك بالاختناق، لأن هناك أشياء في الفطرة قد تعترض السبيل وقد تحتاج إلى نوع معين من الفهم والتعامل حتى لا يشعر الابن أنه داخل في "حيطة صد".. فأحيانا يفهم الآباء التدين بشكل خاطئ، فالعيب هنا بالتأكيد ليس في الدين ولكن في الفهم الخاطئ، فيمنع الآباء من حرية التفكير والتجربة والخطأ، وهذا تطبيق خاطئ للدين.

وتؤكد الأخصائية النفسية أن كل هذه الأساليب التربوية الخاطئة ترهق المجتمع، لأن الأبناء سيكبرون ويتزوجون وينتجون أطفالا آخرين قد يربونهم على نفس النهج والطريقة، أما الأسلوب الصحيح فهو مزيج متوازن من كل نوع من أنواع التربية السابقة، كالتقبل والتدليل دون الإفساد، والاعتماد على النفس والرعاية الناضجة والاحترام.

التعليم والمناهج

ومن ناحيتها تعلق منى أحمد، المستشارة التربوية والناشطة الاجتماعية، على هذا الموضوع قائلة: إننا في حاجة ملحة إلى ثورة في التربية داخل مجتمعنا، وإذا كنا نتحدث عن التربية فأول من يأتي إلى أذهاننا هي "الأسرة"، فالتربية تبدأ من الوالدين، لذلك لابد أن نبدأ ثورتنا تجاه الوالدين باعتبارهم أساس العملية التربوية، فكثير من الآباء يقعون في أخطاء جسيمة أثناء تربيتهم لأبنائهم، منها تقديم قدوة سلبية تدعم قيما غير مقبولة، ومنها عدم التعامل مع مشكلاتهم النفسية وضغوطاتهم بشكل ينعكس على تربية أبنائهم، نتيجة للغضب المبالغ فيه، فلا يقرؤون مواقف أبنائهم بشكل مناسب، وكذلك مشاجرة الآباء أمام أبنائهم.

أما فيما يختص بممارستهم مع الأبناء فأكثر هذه الممارسات شيوعا العقاب المبالغ فيه، والإهانة والتوبيخ، وعلى النقيض يكثر استخدام التدليل في بعض الأسر، وفى نظري تختلف الأخطاء التربوية تبعا لكل أسرة، وأساليب التربية التي يتبعها الآباء، ومن أكثر الأخطاء التربوية التي نتجت عن عدم الوعي الكامل للآباء بأساليب التربية الصحيحة هي غياب المعيار من حياة الأبناء، والتربية العشوائية التي يتبعها الآباء، واختلاف ردود أفعالهم تجاه الفعل الواحد، وترك أنفسهم في تعاملاتهم للحالة المزاجية دون الالتفات للرسالة الموجهة لأبنائهم.

أما فيما يخص تربية المجتمع للأبناء وبالأخص البيئة التعليمية المتمثلة في المعلم وفي المناهج والأصدقاء فأجد أنها لابد أن تكون ثورة شاملة لكل جوانب العملية التعليمية، بدءا من الحاجة إلى الإشراف على الطلبة ومعلميهم معا، وإعادة تأهيل المعلم القدوة، فلا معنى لتعليم أو تربية والمعلم يربي جيلا على الغش أو الاضطهاد.

وتؤكد منى أحمد على أننا عندما نتحدث عن المنهج التربوي والتعليمي في المدارس نجد أن كثيرا من المناهج التي تمر على أبنائنا تدعم قيما ومغالطات تربوية خاطئة، فما معنى أن نربي جيلا يعتز بتاريخه في الوقت الذي نصور له فيه الدولة العثمانية على أنها احتلال واستبداد، والاستعمار الفرنسي نصوره على أنه حملة التقدم والازدهار، ولا معنى بأن نقوم بثورة لتطهير الظلم في بلادنا في وقت نرغم أبنائنا على دراسة أمجاد الرئيس السابق، وكأننا نربي داخلهم شخصيات مزدوجة.

نحن نحتاج لثورة في التربية، يعِي فيها كل من له علاقة بالأبناء دوره الحقيقي والفعلي، فلا حاجة لنا بعلم بين الرفوف تغمره الأتربة، ولا حاجة لنا بمربٍ يأبى أن يبذل جهدا للحصول على هذا العلم وتطبيقه، بل لا حاجة لنا إلى أن نحلم بجيل يكمل رفعة هذا الوطن دون أن نهتم بما يقدم له ويربى عليه.

جيل الثورة يعترض

أما د.وفاء أبو موسى، المستشارة النفسية والخبيرة التربوية، فهي تحدثنا أكثر عن الأبناء وتمردهم على الآباء فيما يتعلق بطرق التربية الخاطئة، فتقول: إن من أهم منجزات الثورة أنها أضاءت وعي الأبناء للتعبير عن الذات، واتخاذ القرارات السليمة وتعزيز المشاركة الأسرية، وإن كانت تلك هي الإنجازات فهنيئًا لنا بجيل الثورة الذي لم يتغير على المستوى الوطني فقط، بل على المستوى المؤسسي، كالمدرسة، وعلى المستوى الأسري.

وتضيف قائلة: للأسرة دور مميز قائم على تربية التوجيه والإرشاد، وهذا ما دعت إليه الثورة، كمبدأ المشاركة، وهو التغيير الحقيقي في النمط الأسري التقليدي، فالتمسك بالمشاركة الأسرية حق من حقوق الأبناء، وهو معزز تربوي لأسلوب المعاملة الأسرية الإيجابي.

وتستطرد قائلة: خرج الأبناء من الثورة بمبدأ آخر غير المشاركة، وهو التعبير عن الذات، فقد عانوا لسنوات طويلة من الأسلوب القمعي، أما بعد الثورة فأصبح لديهم الجرأة، وتطورت لديهم قوة التعبير عن الذات.

والتربية الحديثة قائمة أساسًا على القدوة الحسنة، والتعزيز الإيجابي لشخصية الابن، وتشجيع الأبناء على المشاركة الأسرية، وعلى حرية تعبير الابن عن نفسه لتحقيق الذات بأفضل صورة تُقبل من الأسرة ومن المجتمع.

ولكن هل يتوقع أن تتغير سياسة الآباء تجاه الأبناء بالفعل؟.. تقول الخبيرة التربوية: لا ننكر أن ما كان ينقصنا لتغيير السياسة الوطنية في الدولة هو الوعي، وما إن حدث وتفجر بشرارة ثم تمادى كالبركان معلنًا أنه لا تراجع عن الحقوق الوطنية الإنسانية للمواطن في داخل هذا الوطن، لذا فإنه من الأجدر بنا أن نعيَ جيدًا أن أساليب الدكتاتورية والتمييز في التربية هي سموم تصيب شخصية أبنائنا؛ فعلينا أن نعلمهم ونربيهم كإنسان له حقوق وعليه واجبات، ولا نستبعد أن يعيد الآباء وجهة نظرهم في أساليبهم التربوية، خاصة النمطية السلبية، مثل القمع وكبت الحريات، فالثورة أيقظت في بصيرة الجميع ضرورة مراجعة الذات وإصلاحها لا جلدها، والأصح لنا كآباء وأمهات أن تكون أسرنا معقلًا للإنتاج لا مقبرة تدفن جميع الأشياء، حلوها ومرها.

وتضيف د. وفاء: لماذا نقول على حق الاعتراض لدى أبنائنا أنه تمرد، فعلى أي أساس تربوي اعتمدنا!! فالتربية الحديثة التي تراعي حقوق الإنسان تفرض على الوالدين ضرورة الوعي باحتياجات أبنائهم ومراعاتها وتعزيز شخصياتهم للأفضل، والعناد كسمة سلبية ينتج عن تعارض شخصية الابن مع رؤية الوالدين.

وهنا يفرض السؤال نفسه، فإذا كانت التربية تسعى لنمو شخصية الابن بسلام.. فلماذا يقتل الوالدان هذا السلام بعناد وقرارات يمكن أن تُعدل وفق آراء الجميع، بعيدا عن التفرد، والذي هو بذرة العناد عند الأبناء.

فالصورة التربوية الصحيحة تنص على أن التربية هي إجراءات فكرية وسلوكية يشترك بها الوالدان معًا لمساعدة الأبناء على تعزيز المشاركة الأسرية، وفقًا لنظام الأسرة الداعم للإنتاج والحرية.

لذا فعلينا كآباء منذ نعومة أظفار أطفالنا أن نربيهم على وضوح الرؤية الأسرية، وفق نظام تربوي مجتمعي يحترم الجميع، من هنا نجد أبناء مشاركين، يشعرون بأنفسهم وأهميتهم، وبهذا نعزز انتماءهم للأسرة والوالدين والنظام التربوي.



المصدر: http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-48-164877.htm

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك