في لحظة صفاء قد خيم ظلالها على جنبات المكان وبدون موعد، وجدت نفسي وجهًا لوجه مع رمز من أعجب رموز الحياة، إنه القلب.. هتفت نفسي قائلة: أيها القلب، إنني أقف حائرة أمام غموضك، إنك مخبأ الأسرار ومستودع أعظم المعاني. فهلا كشفت لي بعضًا من هذا التميز الذي تعيش فيه!
قال لي بكل هدوء ووقار: أتمنى أن تنظري لي بعين بصيرتك حتى تنزليني المنزلة اللائقة بي.
قلت له: إنني في شوق لسماع ما تقول، وقلت همسًا: أيها المغرور!
فقال -وقد اعتدل في جلسته وحلق بناظريه في أفق بعيد متكلمًا بصوت كله ثقة-: أنا المنبع والمصب لإكسير الحياة.
قلت له: هل تقصد الدم؟
قال: نعم إنه الدم حيث يحتوي على (25) تريليون كرية دموية حمراء، وتريليون صفيحة دموية، و(25) مليار كرية بيضاء، وتمثل جميعها أكسير الحياة الذي يسير داخل شرايين وأوردة الجسم. وأنا أقوم بضخ الدم بمعدل (4,5) لتر في الدقيقة بمعدل (70) ضربة، وهو ما تسمونه ضربات القلب، أي: ما يعادل (7777) لتراً في اليوم، مع أن حجمي لا يتعدى قبضة الكف غالبًا.
قلت: هذا شيء عجيب.
قال: والأعجب من هذا أنني أعمل مدى الحياة بدون توقف، وبدون قطع غيار، وبدون ضجيج وبدون تلوث! (من كتاب رحلة الإيمان في جسم الإنسان للدكتور حامد أحمد حامد).
قلت: سبحان الله، ما أعجب صنع الله! إنك تستحق أن تتحدث بهذه الثقة، إنك أعجوبة تستحق أن نتدبر ونتفكر في كيفية تكوينك وعملك، وبالذات أنه بتوقفك عن العمل تتوقف الحياة في الإنسان. إنك آية من آيات الخالق سبحانه وتعالى. قال الله عز وجل: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ). [سورة الذاريات: 21].
ثم قلت: إن الحوار معك أيها القلب يحمل الكثير من الإثارة والمتعة والتفكير! وأريدك أن تجيبني عن هذا السؤال بصراحة تامة.
قال: تفضلي. قلت: معروف أنك رمز الحب والهوى، ويقع الكثير من الناس وخاصة الفتيات في كثير من المشاكل بسببك، فهلا بيّنت لنا سبب ذلك؟
قال بصوت شجيّ مملوء بعاطفة جياشة: نحن القلوب فطرنا الله -عز وجل- على التعلق، فنحن نسعد بهذا التعلق، ونحتاج إليه، ولا نحيا بدونه، ولكن هناك من عرف الطريق الصحيح، فعلق قلبه بخالقه ومولاه، وجعل كل حب في هذه الدنيا، وكل أمر تابع لمرضاة مَن قلبُه بين إصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء، فأحب من خلقه وفطره.. أحب خالقه سبحانه وتعالى، وهو بهذا الحب يحب الناس والأهل والأولاد والزوج، ويحب معالي الأمور، فيسعد ويُسعد من حوله.
وهناك من أخطأ الطريق، فعلق قلبه بمخلوق مثله يتعرض للفناء والأكدار والهموم، فأصبح أسير دائرة مغلقة ورهينة بيد من لا يملك شيئًا لنفسه أو لغيره، فسهر وأسهر، وتعب وأتعب، فدخل في دائرة التعاسة، وهو يظن أنه يبحث عن الهناء، وسار في دروب الهموم والأحزان، ناسيًا أن الطريق طريق فرح، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) [سورة طه: من الآية 124].
قلت: ما أجمل الحب إن كان نابعًا من محبتنا لمولانا! وما أتعس الطريق إذا ضل الإنسان السبيل السليم.
ثم قلت للقلب: أعلم أنني قد أطلت عليك أيها العزيز، ولكن هل تسمح لي بسؤال آخر؟
قال: على الرحب والسعة.
قلت: لقد جمعت المتناقضات أيها القلب؛ ففيك كل خير وأنت منبع كل شر، لقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنك كلامًا عجيبًا، قال: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فكيف يكون ذلك؟ قال: نعم، نحن القلوب أنواع كثيرة منها:
• القلوب اللاهية: قال تعالى (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [سورة الأنبياء: 3].
• القلوب المريضة: قال تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) [سورة البقرة: من الآية 10].
• القلوب القاسية: قال تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) [سورة البقرة: من الآية 74].
• القلوب السليمة: قال تعالى (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء: 89].
قلت له: نعم نعم نعم، هذا ما كنت أبحث عنه، قل لي: كيف يصبح القلب سليمًا؟ إننا في أمس الحاجة إلى هذه القلوب اليوم. قال لي: أتدرين ما معنى سليمة؟ قلت له: لا.....
قال: سليمة أي سالمة من الدنس والشرك. قلت: وكيف يكون القلب كذلك؟ قال: إنه الغذاء يا عزيزتي! قلت: وهل للقلوب السليمة غذاء خاص؟ قال: نعم، فمن أجل أن يكون هناك قلب سليم لابد من أن يكون في هذا القلب الرغبة الصادقة في الصحة والاستقامة، فهي بعد توفيق الله من أعظم الأعضاء وأنفعها.
قلت: وهل الرغبة الصادقة غذاء؟ قال: نعم، هي كالوقود للمحرك، فبدون هذه الرغبة يقف القلب ساكنًا يتلقف أي شيء، ويهضم كل ما يقدم له. أما هذه الرغبة فتدفع الإنسان للبحث عما يفيده وينفعه ويصلحه.
قلت: ماذا غير الرغبة الصادقة؟ قال: إذا توفرت الرغبة الصادقة بعد توفيق الله، يحتاج القلب إلى عقيدة سليمة، ويحتاج إلى التفكر:
واسألْ بطونَ النحلِ كيف تقاطرت** شهدًا وقلْ للشهدِ مَن حلاك
ويحتاج إلى المراقبة:
وإذا خلوتَ بريبةٍ في ظلمةٍ** فقلْ إنّ الذي خلق الظلامَ يراني
ويحتاج هذا القلب إلى صحبة تعين على الخير، فيحيا هذا القلب بالقرآن الكريم والذكر والعبادة، ويثمر حسن الخلق والبر والصلة والاستقامة والهمة العالية.
ويفوز بعد رحمة الله تعالى بالجنة الغالية الخالدة، بالإضافة إلى الاطمئنان في الحياة.
قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [سورة الرعد: 28].
قلت: يا لها من صورة رائعة، أتمنى أن أرى عليها كل شاب وفتاة ورجل وامرأة من المسلمين، لنغيّر واقعنا ونستعيد عزتنا.
ثم قلت: نعم أيها القلب، أنت كالنبتة تحتاج إلى تربة صالحة، وإلى ماء عذب، لتزهر وتثمر، فمن المهم أن ننظر إلى التربة التي تنبت فيها قلوبنا، وإلى الماء الذي نسقيها به؛ لنعرف أين الخلل، ونصل إلى الأمل بحول الله وقوته.