نحرص دائماً على أن يكون أبناؤنا الأفضل، أن يحصلوا على أرقى مستوى تعليمي متاح، أو أن ينعموا بمركز اجتماعي ومادي متميز، ونبذل قصارى جهدنا في تحقيق ذلك، وتمتلئ بيوتنا بعبارات التهنئة إذا نجح أبناؤنا في تحقيق ذلك الهدف أياً كانت الصورة، كما تغرق بالدموع والآهات إذا أخفقوا في تحقيق الأمل المنشود والمركز المحمود والمجموع العالي.
ويعكس هذا الاهتمام غفلة كبيرة عن "عبادة" مفقودة ننساها جميعا كآباء وأمهات، وهي أننا جزء من مجتمع كبير، ورغماً عنا نعيش معه، ونتأثر به داخل منظومة كبيرة يحمي بعضها بعضاً أو يؤذي بعضها بعضاً، ونحن غارقون في هذا الاهتمام والصراع لجعل أبنائنا الأفضل نحاول أن نتجاوز حواجز الخوف من المستقبل؛ فبدلاً من أن نفكر في حل لمشكلة الخبز والطوابير المتراصة -على سبيل المثال- نفكر كيف يكون ابني في وضع مادي متميز بحيث لا يضطر إلى الوقوف في هذه الطوابير وشراء الخبز مهما غلا ثمنه، بدلاً من مكافحة الظاهرة بالتبليغ عن المخابز التي تقوم بتهريب الدقيق وبيعه في الخارج دون رقيب أو حسيب، وكأني أعلمه أن يتجاوز المشكلة لا أن يكافحها ويتصدى لها، وهكذا ودون أن ندري أننا بذلك نصنع عالماً من السلبيين الذين لا هدف لهم إلاّ إشباع أنفسهم وإرضاء أهوائهم، أو في أحسن الأحوال الاكتفاء بالمشاهدة وهزّ الرأس!!
السياسة.. مشاكل!
تقتصر نظرتنا إلى عالم السياسة على أنه الحكومة والنظام والأمن والعلاقات الدولية والعربية، ومن هذا المنطلق ننظر إليها على أنها لا لزوم لها أساساً، ويعكس تعبير "السياسة مشاكل" حالة القهر التي نعيشها تحديداً كشعوب عربية، وبالتالي ينعكس ذلك بدوره على أسلوب التربية في المنزل. فمنذ الصغر نتربى على اجتنابها وعدم التفكير في ممارستها، خاصة في الجامعات تجنباً للضرب والاعتقال وكافة صور الإرهاب الحكومي المستخدمة في هذا الصدد، وفضلاً عن هذه النظرة السلبية لعالم السياسة إلاّ أنها كذلك قاصرة على مفهوم السياسة الواسع.
ولو نظرنا إلى التعريف الأكاديمي لـ"التربية السياسية" لوجدنا بغيتنا في قاموس (كارتر جود Goood) وهو أشهر قاموس أجنبي في المصطلحات التربوية؛ فقد نظر إلى التربية السياسية بصفتها تنمية وعي النشء بمشكلات الحكم، والقدرة على المشاركة في الحياة السياسية، وتنمية ذلك بالوسائل المختلفة.
ومن هذا المنطلق نؤكد أن ممارسة السياسة "دينٌ" على الجميع بنص القرآن الكريم الذي أخبرنا بأننا خلفاء الله في الأرض، وبنص حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..." بهدف إعمار الأرض وتحقيق العدل، ومن هنا تأتي أهمية التربية السياسية لتحتل المكانة الأولى في اهتمامات الأسرة العربية بهدف تحويل العدل إلى قيم ومعايير سلوكية في حالة تفاعل نشط تستند في مرجعيتها إلى الإسلام؛ فالسياسة من هذا المنظور هي في جوهرها عدل الله، والتربية السياسية هي الأسلوب الأساسي لتحقيق ذلك عملياً.
بيئتنا العربية.. غياهب السلبية!
فلعل ظواهر القهر والاستبداد في بيئتنا العربية هي المسؤولة عن هذا النمط من التربية، وهي التي تزجّ المجتمع في "غياهب السلبية"؛ فهي تعكس نزعة سلبية تفتقد روح المكابدة التي لابد للإنسان أن يتحملها، فالعبارة السيئة "وأنا مالي" هي مخالفة صريحة لنص القرآن الكريم وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكل منا لا بد أن يضع في اعتباره أنه مشارك في المسؤولية العامة عن الوطن والأمة، وليس بالضرورة أن يكون محتلاً لموقع في سلّم السلطة السياسية، وما السياسة إلاّ عملية إدارة شأن الجماعة، وبالتالي فشأنها ليس شأن هذا الفرد أو ذاك، وإنما هي شأن الجميع؛ فالشريعة الإسلامية جاءت لمصلحة العباد، ومن ثم نؤكد على ضرورة التربية السياسية للأطفال.
"القدوة".. كلمة السر
وتبقى الأسرة هي مصدر القوة بالنسبة للطفل؛ لذا وجب التنبيه على أهمية القدوة التي تُعدّ كلمة السر لأسلوب تربوي نموذجي؛ فالطفل إذا لم يجد القدوة الإيجابية في المنزل فسوف يجد العكس؛ إذ يُعدّ هيكل السلطة داخل الأسرة أحد المحدّدات الرئيسة في بلورة شخصية الطفل وسلوكه السياسي فيما بعد؛ فالأسرة تقوم مقام الدولة، وبداية إدراك السلطة داخل الأسرة هو بداية لإدراكه في الدولة وموقفه منها، ثم يأتي دور المدرسة وأسلوب التعليم القائم على أسلوب التلقين الذي يساهم بدوره في نشر وتعزيز العلاقات القائمة على النزعة الهرمية، فينمي الطاعة العمياء والامتثال المطلق من خلال عملية تسلطية يعيشها الطفل على مدار (24) ساعة، لذا كان من الطبعي أن نجد لامبالاة سياسية بين الأفراد داخل المجتمعات، فضلاً عن انخفاض درجة المشاركة السياسية بين الجماهير؛ نتيجة العلاقة السلبية بين الشعوب والحكومات، ومعاناة من الجيل الحديث، بسبب قلة الثقافة، وضعف الانتماء الوطني، والرغبة في الهجرة.