الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
كلمة: "كفر...كافر...كفار" وصفٌ شرعيٌ جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وليست كلمةً نابيةً بذيئةً يستخرجها السفهاء من قاموس الهجاء.
ومنـزع خطورة إطلاقها من جهة كونها وصفاً شرعياً يقتضي أحكاماً شرعيةً، فإذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه.
فلولا أنها وصفٌ شرعيٌ لما جاوزتْ في خطورتها ألفاظَ السِّبابِ والهجاء.
وإذا تقرَّرَ أن كلمةَ (الكفر) هي من مصطلحات هذا الدين، لم يكن لنا سبيلٌ إلى أن نُسقطَها من (مفرداته)، أو نجردَ منها خطاباتِه، فها هو القرآنُ لا يكاد يخلو من هذه الكلمة ومشتقاتِها في سورة من طوال سوره، أو جزءٍ من أجزائه.
إنّ الذين يحاولون أن يُلغوا أمرَ التكفير من شريعة الإسلام إنما يحاولون عبثاً، ويستنزفون جهداً في غير طائل.
أما نحن فممنوعون من هذا العبث، لا لأنّه عبثٌ لا جدوى منه، ولكنْ لأنَّه يمسُّ أمراً من منهج الإسلام لا ينفك عنه.
وليفطِنْ من يحاول هذا العبث إلى أنّ إثمَ إلغاءِ مبدأ التكفير من شريعة الإسلام أعظمُ بكثير من إثم الخطأ في التكفير، فالأول كفرٌ مبينٌ يحاكي فعل اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وأمّا الخطأ في التكفير فكبيرة لا تُخرج من الملة.
وكل ما هنالك مما يتعين علينا فعله تُجاه قضية التكفير هو أن نضبطَ إطلاقاتهِ، ونحددَ الطوائفَ التي لا يسعنا إلا تكفيرها، مع ضرورة التحذير من إطلاق التكفير من غير تثبت.
فأما الذي لا يجوز التورعُ في تكفيرِه فهو الكافرُ الأصلي، الذي وُلد على الكفر ولم يدخل في الإسلام، فهذا كافرٌ لا شكَّ في كفره بإجماع العلماء، كاليهود والنصارى والمجوسِ والذين أشركوا.
فهؤلاء لا يُذم من كفّرهم، ولا يُمدح من تورَّع عن تكفيرهم.
وإذا بلغ بنا التحذيرُ من التكفير إلى أن نتردد أو نشك في كفر هؤلاء، فهذا إفراط في تحاذر التكفير لا يُقِرُّه الشرع، فضلاً عن أن يثني عليه.
لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، ونزل الإسلام ناسخاً للشرائع، وجعله الله الدينَ الذي لا يُقبل غيرُه، ولا يسع أحداً الخروج عنه، ولو كان ديناً سماويـاً، (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). [ آل عمران:85 ].
وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌ ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"، وقال: "والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيَّاً ما وسعه إلا اتِّباعي".
هذه المسألة أَدخلُ في باب البدهيات من أن تحتاجَ إلى إفاضةٍ، أو تحتمل إسهاباً، لولا أننا سمعنا من يجادل فيها ويبثُّ حولها الشُّبه.
وكم هو مؤسفٌ أن تجد من المسلمين من يشكّ في كفر اليهود والنصارى، ومدخل هذا الشكِ من شُبهةٍ يروِّجها بعض الملتاثين بلوثات الفلسفة، وهي: أن الحقّ أمر نسبيٌ، فقد تعتقد الحق في شيء غيرُك لا يعتقده.
ومؤدى هذه الشبهة: أن أحداً لا يملك الحقيقةَ المطلقة، لا المسلمُ ولا غيرُه، فإذا كنت تعتقد أنك على الحق، فغيرك من الملل الأخرى يعتقد أنه كذلك، فبأي حق ـ في زعمهم ـ تحتكر أنت الحقيقة ؟.
ولا يتشرَّب هذه الشبهة إلا مَن يعامل القرآن مجرَّداً من قدسيته، لا يعدو أن يكون في نظره كتاباً من تلك الكتب التي تقبل الرد وتخضع للنقد.
وتصل هذه الشبهة بصاحبها إلى أن يشكَّ في كفر غير المسلم، وتبدأ تضعف في نفسه القناعةُ، ويتزعزع يقينه بأنه على الحق وأن الكفار على الباطل.
وهكذا غدَتْ كلمةُ الكفر من الكلماتِ النابيةِ البذيئةِ لدى هؤلاء المنهزمين، فهم يتحامون وصفَ الكفَّار بها، وبخاصّةٍ ما يسمى بـ"النخبة المثقَّفَة"، فاستبدلوا بهذا الوصف الشرعي للكفَّار وصفاً مُحدَثاً ينفي الإسلام لكنَّه لا يُثبتُ الكفر بمنطوقه، فسَمَّوا الكفارَ بـ"غير المسلمين"، ثم انتشرت هذه التسمية بين العامَّة، وكاد يُهجرُ المصطلح الشرعي "الكفار".
إن تسمية أتباع الملل الأخرى بـ"الكفار" تتضمن في دلالتها الحكمَ على دياناتهم بالبطلان وعدم الاعتبار، في حين أن تسميتهم بـ"غير المسلمين" لا تتضمن هذه الدلالة الشرعية المهمة، فهي لا تزيد على أن تكون نفي نسبة، ويبقى ما يقتضيه هذا النفي من الحكم عليهم بالضلال وبطلان الدين مستفاداً من دلالة الشرع لا من اللفظ ذاته.
وهذا الاستبدالُ وإنْ كان لا يُخلُّ بعقيدة البراء، بل ولا يبلغ حتى درجة التحريم، لكنَّه استبدالٌ له دلالاتُه وإيحاءاتُه على الحالة النفسية للمتلفظ بها، لا سيما أولئك الذين يَعُوْنَ دلالات الألفاظ من أهل الفكر والأدب، فهم لا يستبدلون هذا بذاك عبثاً ولا سهواً، ولكن لحرجٍ يجدونه في أنفسهم.
إنَّ كلمةَ "غير المسلمين" ليست هي الأصلَ في وصف الكفار، فلا ينبغي أن يُجعلَ الاستثناء أصلاً والأصل استثناءً، والأولى أَلاَّ تُستعملَ إلاّ حيثُ يَحسُنُ استعمالها، وذلك حين يتوجه الخطابُ للكفار في مناظرةٍ أو دعوةٍ؛ لأنَّ الحالَ تقتضي اللينَ والترفُّقَ تأليفاً وترغيباً.
أمّا ما عدا ذلك؛ فينبغي الإبقاءُ على الأصل، وهو وصفُهم بما وصفَهم اللهُ به، لا يمنعه خجلٌ ولا وجل.
على أن الأمر بتكفير الكفار يقتضينا التذكير بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن كوننا نعتقد كفر اليهودي أو النصراني أو الوثني فهذا لا يعني أنه مستلبُ الحقوق مهضومُ الكرامةِ الإنسانية، إنما معناه أن نعتقد أننا على الحق وهو على الباطل بيقين لا يداخله شك. وأعظم حقٍّ له علينا أن ندعوه إلى هذا الحق الذي هُدينا إليه.
الأمر الثاني: لا يلزم من اعتقادنا كفرَ الكافر أننا نحكم عليه بالنار بإطلاق، فالكفار على حالين:
كافرٌ بلغته دعوة الإسلام وقامت عليه الحجة، فهذا إذا مات على كفره كان مصيره إلى النار خالداً مخلداً فيها أبداً.
وكافرٌ لم تبلغْهُ دعوةُ الإسلام، أو سمع بها لكن لم تقم عليه الحجةُ، فهذا في حكم أهل الفترة، وأمره إلى الله ولا نحكم عليه بالنار؛ لأن الله قال: (وما كنا معذبين حتى نبعثَ رسولاً)، لكنه يظل في اعتقادنا كافراً ضالاً، تجب البراءة منه، ولا يجوز الترحم عليه، ولا الاستغفار له، ولا احترام معتقدِه.
الأمر الثالث: في تكفير أهل الملل الأخرى يكفي مجرد اعتقاد كفرِهم، أما إطلاقُ الكفر عليهم باللسان؛ فغير واجب، ولو مات المسلم ولم يقل لكافرٍ: "يا كافر" لما سُئل عن ذلك في قبره، ولما عُوقب عليها عند بعثه.
ويتحصّل مما سبق: أن موضع خطورة التكفير إنما هو في تكفير من نشأَ في بلاد الإسلام، أو وُلد من أبوين مسلمين، أو أحدهما مسلم، فالأصل في هذا أنه مسلمٌ، ولا يُنتقل من هذا اليقين إلا بيقين، فلا يجوز تكفيره ولو بلغت ذنوبه عنان السماء، ولو قتل مسلماً، أو أتى شيئاً من أفعال الحرابة، فهي كبائرُ لا تبلغ حدَّ الكفر.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعتْ عليه" متفق عليه.
فإذا كنا نأمر بالتثبُّتِ في تكفير من أتى كفراً لاحتمال شبهة تعتور حالَه، فكيف بمن لم يرتكب إلا كبيرةً لا يكفر بها بالإجماع ولو لم يكن له فيها عذر أو شبهة؟
إن الحرابةَ بالسعي في الأرض بالفساد وترويعِ الناس كبيرةٌ يستحق به فاعله حدَّ الحرابة، ومن رمى الناس بالكفر من غير بينةٍ فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، غير أنّ ذلك كلَّه لا يسوِّغ لنا أن نكفِّره لأجل أنه يكفِّر الناسَ، أو لأنه يسعى في الأرض فساداً، فهذا تراشق بالاتهامات يربأ عنه العقلاء.
أحياناً تبلغُ بنا سَورةُ الغضب إلى أن نحاربَ التكفير بالتكفير وليس بالحث على التأني والتفكير، فنكون قد سعينا في نشرِ فكر التكفيرِ من حيث لا نشعر. واذا بنا نمارس تبادلَ الأدوار مع أولئك التكفيريين، فنقع فيما حذرْنا منه، وهذا من أقبح الخصال التي ينأى عنها الكرام
لا تنه عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه | عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ |
إن في وسعنا أن نقول عن أولئك الذين سعوا في الأرض فساداً، وقتلوا الأبرياء، وروَّعوا الآمنين: إنهم مجرمون، مفسدون، باغون، معتدون، غير أنه ليس في وسعنا أن نكفِّرهم.
وبشاعةُ جُرمهم لا تضطرُّنا إلى أن نستظهرها بالتكفير، فهي ظاهرة يستبشعُها كلُّ سَوِيٍّ.
لا أقول هذا دفاعاً عن هؤلاء، فهم لا يحتاجون دفاعاً من أحد، وتكفيرهم لا يضرُّهم، فقد أفضوا إلى ما قدموا، إنما أمرهم إلى الله.
بل أقوله صيانةً لألسنتنا أن تزلّ في هُوة التكفير، فتحتقب الإثم العظيم، وأذكّر به عملاً بمنهج الحق الذي أُمرنا أن نلتزِمَه في شأنِنا كلِّه: في الغضب والرضا، ومع الأقربين والأعداء، ومع المظلومين والظالمين.
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرِضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً)
وقد يكون الشخصُ فقيراً، فتتحرك مشاعرُ الشفقةِ والرحمةِ في قلب المرء وتدفعه إلى أن يشهد له بإطلاق ـ سواء كان ظالماً أو مظلوماً ـ معاونةً لضعفه، أو يشفقَ أن يشهد ضدَّه لأجل أنه فقيرٌ، أو لأن خصمه غني.
ولكن الآية تَردّ هذه الشفقة، فليست هذه من مواطنها التي تُمدح فيها: (إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)، ولذا لا يجوز أن تدفعَنا الرحمةُ والحزن على قتيل مظلومٍ إلى أن نكفِّرَ القاتل الظالم.
هذا ما كان من شأن التكفير، واتصاله برسالة الإسلام.
وأما الحوار فسيأتي الكلام عنه لاحقاً إن شاء الله .
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
2
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
كلمة: "كفر...كافر...كفار" وصفٌ شرعيٌ جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وليست كلمةً نابيةً بذيئةً يستخرجها السفهاء من قاموس الهجاء.
ومنـزع خطورة إطلاقها من جهة كونها وصفاً شرعياً يقتضي أحكاماً شرعيةً، فإذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه.
فلولا أنها وصفٌ شرعيٌ لما جاوزتْ في خطورتها ألفاظَ السِّبابِ والهجاء.
وإذا تقرَّرَ أن كلمةَ (الكفر) هي من مصطلحات هذا الدين، لم يكن لنا سبيلٌ إلى أن نُسقطَها من (مفرداته)، أو نجردَ منها خطاباتِه، فها هو القرآنُ لا يكاد يخلو من هذه الكلمة ومشتقاتِها في سورة من طوال سوره، أو جزءٍ من أجزائه.
إنّ الذين يحاولون أن يُلغوا أمرَ التكفير من شريعة الإسلام إنما يحاولون عبثاً، ويستنزفون جهداً في غير طائل.
أما نحن فممنوعون من هذا العبث، لا لأنّه عبثٌ لا جدوى منه، ولكنْ لأنَّه يمسُّ أمراً من منهج الإسلام لا ينفك عنه.
وليفطِنْ من يحاول هذا العبث إلى أنّ إثمَ إلغاءِ مبدأ التكفير من شريعة الإسلام أعظمُ بكثير من إثم الخطأ في التكفير، فالأول كفرٌ مبينٌ يحاكي فعل اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وأمّا الخطأ في التكفير فكبيرة لا تُخرج من الملة.
وكل ما هنالك مما يتعين علينا فعله تُجاه قضية التكفير هو أن نضبطَ إطلاقاتهِ، ونحددَ الطوائفَ التي لا يسعنا إلا تكفيرها، مع ضرورة التحذير من إطلاق التكفير من غير تثبت.
فأما الذي لا يجوز التورعُ في تكفيرِه فهو الكافرُ الأصلي، الذي وُلد على الكفر ولم يدخل في الإسلام، فهذا كافرٌ لا شكَّ في كفره بإجماع العلماء، كاليهود والنصارى والمجوسِ والذين أشركوا.
فهؤلاء لا يُذم من كفّرهم، ولا يُمدح من تورَّع عن تكفيرهم.
وإذا بلغ بنا التحذيرُ من التكفير إلى أن نتردد أو نشك في كفر هؤلاء، فهذا إفراط في تحاذر التكفير لا يُقِرُّه الشرع، فضلاً عن أن يثني عليه.
لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، ونزل الإسلام ناسخاً للشرائع، وجعله الله الدينَ الذي لا يُقبل غيرُه، ولا يسع أحداً الخروج عنه، ولو كان ديناً سماويـاً، (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). [ آل عمران:85 ].
وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌ ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"، وقال: "والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيَّاً ما وسعه إلا اتِّباعي".
هذه المسألة أَدخلُ في باب البدهيات من أن تحتاجَ إلى إفاضةٍ، أو تحتمل إسهاباً، لولا أننا سمعنا من يجادل فيها ويبثُّ حولها الشُّبه.
وكم هو مؤسفٌ أن تجد من المسلمين من يشكّ في كفر اليهود والنصارى، ومدخل هذا الشكِ من شُبهةٍ يروِّجها بعض الملتاثين بلوثات الفلسفة، وهي: أن الحقّ أمر نسبيٌ، فقد تعتقد الحق في شيء غيرُك لا يعتقده.
ومؤدى هذه الشبهة: أن أحداً لا يملك الحقيقةَ المطلقة، لا المسلمُ ولا غيرُه، فإذا كنت تعتقد أنك على الحق، فغيرك من الملل الأخرى يعتقد أنه كذلك، فبأي حق ـ في زعمهم ـ تحتكر أنت الحقيقة ؟.
ولا يتشرَّب هذه الشبهة إلا مَن يعامل القرآن مجرَّداً من قدسيته، لا يعدو أن يكون في نظره كتاباً من تلك الكتب التي تقبل الرد وتخضع للنقد.
وتصل هذه الشبهة بصاحبها إلى أن يشكَّ في كفر غير المسلم، وتبدأ تضعف في نفسه القناعةُ، ويتزعزع يقينه بأنه على الحق وأن الكفار على الباطل.
وهكذا غدَتْ كلمةُ الكفر من الكلماتِ النابيةِ البذيئةِ لدى هؤلاء المنهزمين، فهم يتحامون وصفَ الكفَّار بها، وبخاصّةٍ ما يسمى بـ"النخبة المثقَّفَة"، فاستبدلوا بهذا الوصف الشرعي للكفَّار وصفاً مُحدَثاً ينفي الإسلام لكنَّه لا يُثبتُ الكفر بمنطوقه، فسَمَّوا الكفارَ بـ"غير المسلمين"، ثم انتشرت هذه التسمية بين العامَّة، وكاد يُهجرُ المصطلح الشرعي "الكفار".
إن تسمية أتباع الملل الأخرى بـ"الكفار" تتضمن في دلالتها الحكمَ على دياناتهم بالبطلان وعدم الاعتبار، في حين أن تسميتهم بـ"غير المسلمين" لا تتضمن هذه الدلالة الشرعية المهمة، فهي لا تزيد على أن تكون نفي نسبة، ويبقى ما يقتضيه هذا النفي من الحكم عليهم بالضلال وبطلان الدين مستفاداً من دلالة الشرع لا من اللفظ ذاته.
وهذا الاستبدالُ وإنْ كان لا يُخلُّ بعقيدة البراء، بل ولا يبلغ حتى درجة التحريم، لكنَّه استبدالٌ له دلالاتُه وإيحاءاتُه على الحالة النفسية للمتلفظ بها، لا سيما أولئك الذين يَعُوْنَ دلالات الألفاظ من أهل الفكر والأدب، فهم لا يستبدلون هذا بذاك عبثاً ولا سهواً، ولكن لحرجٍ يجدونه في أنفسهم.
إنَّ كلمةَ "غير المسلمين" ليست هي الأصلَ في وصف الكفار، فلا ينبغي أن يُجعلَ الاستثناء أصلاً والأصل استثناءً، والأولى أَلاَّ تُستعملَ إلاّ حيثُ يَحسُنُ استعمالها، وذلك حين يتوجه الخطابُ للكفار في مناظرةٍ أو دعوةٍ؛ لأنَّ الحالَ تقتضي اللينَ والترفُّقَ تأليفاً وترغيباً.
أمّا ما عدا ذلك؛ فينبغي الإبقاءُ على الأصل، وهو وصفُهم بما وصفَهم اللهُ به، لا يمنعه خجلٌ ولا وجل.
على أن الأمر بتكفير الكفار يقتضينا التذكير بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن كوننا نعتقد كفر اليهودي أو النصراني أو الوثني فهذا لا يعني أنه مستلبُ الحقوق مهضومُ الكرامةِ الإنسانية، إنما معناه أن نعتقد أننا على الحق وهو على الباطل بيقين لا يداخله شك. وأعظم حقٍّ له علينا أن ندعوه إلى هذا الحق الذي هُدينا إليه.
الأمر الثاني: لا يلزم من اعتقادنا كفرَ الكافر أننا نحكم عليه بالنار بإطلاق، فالكفار على حالين:
كافرٌ بلغته دعوة الإسلام وقامت عليه الحجة، فهذا إذا مات على كفره كان مصيره إلى النار خالداً مخلداً فيها أبداً.
وكافرٌ لم تبلغْهُ دعوةُ الإسلام، أو سمع بها لكن لم تقم عليه الحجةُ، فهذا في حكم أهل الفترة، وأمره إلى الله ولا نحكم عليه بالنار؛ لأن الله قال: (وما كنا معذبين حتى نبعثَ رسولاً)، لكنه يظل في اعتقادنا كافراً ضالاً، تجب البراءة منه، ولا يجوز الترحم عليه، ولا الاستغفار له، ولا احترام معتقدِه.
الأمر الثالث: في تكفير أهل الملل الأخرى يكفي مجرد اعتقاد كفرِهم، أما إطلاقُ الكفر عليهم باللسان؛ فغير واجب، ولو مات المسلم ولم يقل لكافرٍ: "يا كافر" لما سُئل عن ذلك في قبره، ولما عُوقب عليها عند بعثه.
ويتحصّل مما سبق: أن موضع خطورة التكفير إنما هو في تكفير من نشأَ في بلاد الإسلام، أو وُلد من أبوين مسلمين، أو أحدهما مسلم، فالأصل في هذا أنه مسلمٌ، ولا يُنتقل من هذا اليقين إلا بيقين، فلا يجوز تكفيره ولو بلغت ذنوبه عنان السماء، ولو قتل مسلماً، أو أتى شيئاً من أفعال الحرابة، فهي كبائرُ لا تبلغ حدَّ الكفر.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعتْ عليه" متفق عليه.
فإذا كنا نأمر بالتثبُّتِ في تكفير من أتى كفراً لاحتمال شبهة تعتور حالَه، فكيف بمن لم يرتكب إلا كبيرةً لا يكفر بها بالإجماع ولو لم يكن له فيها عذر أو شبهة؟
إن الحرابةَ بالسعي في الأرض بالفساد وترويعِ الناس كبيرةٌ يستحق به فاعله حدَّ الحرابة، ومن رمى الناس بالكفر من غير بينةٍ فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، غير أنّ ذلك كلَّه لا يسوِّغ لنا أن نكفِّره لأجل أنه يكفِّر الناسَ، أو لأنه يسعى في الأرض فساداً، فهذا تراشق بالاتهامات يربأ عنه العقلاء.
أحياناً تبلغُ بنا سَورةُ الغضب إلى أن نحاربَ التكفير بالتكفير وليس بالحث على التأني والتفكير، فنكون قد سعينا في نشرِ فكر التكفيرِ من حيث لا نشعر. واذا بنا نمارس تبادلَ الأدوار مع أولئك التكفيريين، فنقع فيما حذرْنا منه، وهذا من أقبح الخصال التي ينأى عنها الكرام
لا تنه عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه | عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ |
إن في وسعنا أن نقول عن أولئك الذين سعوا في الأرض فساداً، وقتلوا الأبرياء، وروَّعوا الآمنين: إنهم مجرمون، مفسدون، باغون، معتدون، غير أنه ليس في وسعنا أن نكفِّرهم.
وبشاعةُ جُرمهم لا تضطرُّنا إلى أن نستظهرها بالتكفير، فهي ظاهرة يستبشعُها كلُّ سَوِيٍّ.
لا أقول هذا دفاعاً عن هؤلاء، فهم لا يحتاجون دفاعاً من أحد، وتكفيرهم لا يضرُّهم، فقد أفضوا إلى ما قدموا، إنما أمرهم إلى الله.
بل أقوله صيانةً لألسنتنا أن تزلّ في هُوة التكفير، فتحتقب الإثم العظيم، وأذكّر به عملاً بمنهج الحق الذي أُمرنا أن نلتزِمَه في شأنِنا كلِّه: في الغضب والرضا، ومع الأقربين والأعداء، ومع المظلومين والظالمين.
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرِضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً)
وقد يكون الشخصُ فقيراً، فتتحرك مشاعرُ الشفقةِ والرحمةِ في قلب المرء وتدفعه إلى أن يشهد له بإطلاق ـ سواء كان ظالماً أو مظلوماً ـ معاونةً لضعفه، أو يشفقَ أن يشهد ضدَّه لأجل أنه فقيرٌ، أو لأن خصمه غني.
ولكن الآية تَردّ هذه الشفقة، فليست هذه من مواطنها التي تُمدح فيها: (إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)، ولذا لا يجوز أن تدفعَنا الرحمةُ والحزن على قتيل مظلومٍ إلى أن نكفِّرَ القاتل الظالم.
هذا ما كان من شأن التكفير، واتصاله برسالة الإسلام.
وأما الحوار فسيأتي الكلام عنه لاحقاً إن شاء الله .
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-42-2481.htmالمصدر: