العلاقة مع الحاكم دائماً ما تكون محط موقفٍ في منطقة تماسٍ حسّاسة للغاية، فالحياد عنها يميناً يعني توثينه والانغماس في أحضانه، والتأمين على تصرفاته وأفعاله، والحياد عنها يساراً يعني جعل الفضائل في لعن الحاكم ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً.... وكلا البعدين خاطئ، وكلا العلاقتين فيهما خروج عن الموضوعية، فما العمل؟!
ولا أدري لماذا لا يتنبه المزايدون على حب ولاة الأمر بكثرة التذكير والثناء عليهم أن تلك المزايدات تزيد ازدراء الناس لحكامهم، ولا تزيد في احترامهم، وتستجلب بغضهم، ولا تستنطق حبهم.
إن هؤلاء المزايدين يأتوننا بالنصوص الشرعية يخلطون بعضها في بعض، ويؤولونها تأويلاً يجعلك أمام قديس لا يجوز لنا الاستدارك عليه، يحكم بما يريد، ولا معقّب لحكمه، لا يُسأل عما يفعل، والويل أو الثبور لمن يهمس بالتثريب في تذكيره بحقوق الناس عليه.
لقد أدّت تلك المزايدات إلى رفع الحاكم فوق بشريّته، بل إلى توثينه، وجعله أقرب إلى مقام الألوهيّة .
لقد صادروا حقوق الناس في الاعتراض على سياسته، وأسمَوْا ذلك خروجاً وافتئاتاً يوجب اللعن والطرد من رحم الوطنية.
إن هذا الادعاء المغشوش يقف صامتاً مشلولاً ينظر من طرف خفيّ أمام مواقف كبار الصحابة والتابعين وتابعيهم... في تعاملهم بشفافيّة تامة مع الولاة والحكام.
حدث ذلك مع عمر بن الخطاب في صلح الحديبية، وفي أسرى بدر وفي سورة عبس.
ووقف أحد المسلمين أمام عمر -رضي الله عنه- بعد أن ألقى خطبته المشهورة في ابتداء حكمه شاهراً سيفه يقول له- : والله لو رأينا فيك -يا ابن الخطاب- اعوجاحاً لقوّمناه بسيوفنا، فيقول عمر: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوّم اعوجاحه بسيفه. وقد رُويت القصة بسياق مشابه فقيل: إنه وقف يوماً على المنبر فقال: يا معشر المسلمين، ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا كذا (ومال برأسه). فقام إليه رجل فقال: كنا نقول بالسيف كذا (وأشار إلى القطع) فقال: إياي تعني بقولك؟ قال: نعم، إياك أعني بقولي. فقال عمر: رحمك الله، الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوّجت قوّمني.
وخرج رضي الله عنه ذات مرة من المسجد والجارود العبدي معه، فبينما هما خارجان إذ امرأة على ظهر الطريق، فسلّم عليها عمر، فردّت عليه السلام، ثم قالت: رويدك يا عمر حتى أكلمك كلمات قليلة. قال لها: قولي. قالت: يا عمر! عهدي بك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ تصارع الفتيان، فلم تذهب الأيام حتى سُمّيت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سُمّيت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت، فقال الجارود: هيه قد اجترأتِ على أمير المؤمنين. فقال عمر: دعها، أما تعرف هذه يا جارود؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سمائه، فعمر –والله- أحرى أن يسمع كلامها.
ووقف معاوية رضي الله عنه يوماً على المنبر يقول: اسمعوا وأطيعوا، فقام مسلم الخولاني فقال: لا سمع ولا طاعة، كيف تمنع العطاء؟ وإنه ليس من كدّك، ولا من كدّ أبيك، ولا من كدّ أمك، فغضب معاوية ونزل عن المنبر، ثم غاب برهة، ثم عاد، وقد اغتسل ثم قال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". وإني دخلت فاغتسلت، وصدق أبو مسلم، إنه ليس من كدّي، ولا من كدّ أبي، فهلمّوا إلى عطائكم.
وذكر ابن الجوزي أن عمرو بن العاص قال لرجل من المسلمين كان معه بمصر: يا منافق، فشكاه إلى عمر بن الخطاب، فكتب أمير المؤمنين إلى والي مصر يقول له: أما بعد، فإن فلاناُ ذكر أنك نفّقتـه، وإني أمرته إن أقام عليك شاهدين أن يضربك أربعين، فقام الرجل فقال: أنشد الله رجلاً سمع عمرواً نفّقني إلا قام، فقام عامة أهل المسجد( يشهدون ضد الحاكم ( [4])) فقال له حشم(حاشيته)عمرو: أتريد أن تضرب الأمير؟ قال: وعرض عليه الأرش (فدية مال) فرفض، فقال عمرو: اتركوه وأمكنه من السوط، وجلس بين يديه، فقال الرجل: أتقدر أن تُمنع مني لسلطانك؟ قال عمرو: لا، فقال الرجل: فامض لما أُمرت به فإني أدعـك للـه).
إن مجرّد ورود خاطر التذكير العلني يجعلك في خانة التصنيف، أما ذلك الصحابي الذي أشهر سيفه في وجه عمر فهو يستحق عند تجار الأقنعة أن يُرمى في ظلمات السجن سنوات على ذمة التحقيق حتى يعلن استسلامه للمليك ثم للمليك ثم للمليك ثم للوطن!!
وأمام تلك المواقف وغيرها لم يجد أتباع الأقنعة والسماسرة مسوّغاً سوى الاستعانة بأقوال بعض الأئمة ينسخون بها محكم الشواهد لأجل جلسة مقربة في ديوان الحاكم.
بينما ديننا وشرع ربنا يعطيك خيارات كثيرة أمام سياسة الحاكم في إطار محكم، لا يسمح لك بالخروج إلا في ظروف مشدّدة ومبرهنة بالقطعيات المحكمة.
فالنتيجة أن استعمال الخيارات الكثيرة يقلّص من اللجوء للخروج، ولا يسمح له بالظهور على عكس التضييق في خيارات الاستدراك؛ فإنه يفتح خيار الخروج ويستدعيه في كل منعطف. فهذه سنة الحياة فبقدر ما نُعطى من حقوق في محاسبة المقصرين والاحتساب على الولاة والحكام بقدر ما تلتئم الصفوف، وتتسع دائرة المواطنة الصادقة، والعكس صحيح.
إنني أرى أن هذا الوعظ المتطرف بحقوق ولي الأمر هو الذي أنتج الساخطين والساخطات، وأفرز أكثر المواقف المتطرفة ضد الحكام؛ لأنه لا يتوازى مع المناداة بحقوق الآدمية وكرامة الإنسان.
فهذه المعادلة العرجاء تصيب الناس بالإحباط، ففي الوقت الذي يشاهدون فيه العبث بحقوقهم وتضييع الأمانة وسوقهم وقهرهم وإجبارهم :على ما لا طاقة لهم في الصبر عليه يأتينا بعض المتطرفين والمزايدين في حقوق ولي الأمر ليمتحنوا الناس في ولائهم وحبهم.
وباختصار مختصر، فإن الولاء والحب يحتاج لمقابل، وما لم يشعر المواطن باحترام ولاته له فلا تنتظر منه احتراماً حقيقياً بل أحمد الله –تعالى- على بقائه إن بقي في منطقة رماديّة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فقانون الحب لا يُفرض بالقهر.
ولم تعد أنفسنا تتحمل هذا التوسع في ترحيل كل شيء والترهيب بطاعة ولي الأمر.
وأنا أدعو المزايدين في الدعوة لطاعة الحاكم أن يبذلوا جهداً في القيم التي تستجلب حب الحاكم إلى الناس، وتحبّب الناس إليه بدل جبرهم أو قسرهم ودفعهم إلى الطاعة دفعاً ثم ندّعي التلاحم بين القيادة والمواطن.
وأختم هذا القول بأننا نريد أن نحبّ حكامنا، ونتبادل وإياهم مشاعر الرحمة، ولكننا نشعر أن دون ذلك مسافات يسعى في تطويلها الذين يختزلون الشريعة، ويسحبون الحياة بأسرها إلى الولاء المطلق للحاكم!
إن لدينا قدرة على التكيف والانسجام مع ولي الأمر، حتى وإن جلد ظهرك، أو حكم بالسجن سنوات لأجل كلمة حملت أكثر مما تحتمل، ولدينا قدرة على التصبّر على إلغاء أحكام صدرت على من ينتهكون مظاهر التدين، وعلى عدم استقلالية القضاء، ولكن لدينا حيويّة وفاعليّة، وولاء فاعل لو تمكن حبهم في قلوبنا.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة | و لكنّ عين السخط تُبدي المعايبا |