العلاقات الحضارية في الأندلس

كان تداخل المسلمين والمسيحيين مستمراً في إسبانيا في عصر الإمارة والعصور الإسلامية الأخرى اللاحقة، سواء كان ذلك داخل الأندلس ذاتها أم في خارجها مع الإمارات الشمالية. ولم يقتصر هذا التداخل والاحتكاك على فترات السلم فقط، بل شمل فترات الحروب أيضاً. فعندما يتصل شعبان أحدهما بالآخر، فإن الشعب ذو الحضارة الأرقى هو الذي يؤثر على الآخر. وهكذا كانت الحالة بالنسبة للعرب في إسبانيا، فلقد انتقلت حضارتهم إلى النصارى في الأندلس وفي الإمارات الشمالية بطرق شتى، منها الزيارات المتبادلة التي كانت تتم بين الطرفين بقصد الاطلاع أو المتاجرة، ومنها بواسطة العبيد الذين كانوا يهربون من الشمال لضمان حرياتهم، وعندما يعودون إلى بلادهم كانوا يجلبون معهم كثيراً من العادات ومظاهر الحضارة بل إن بعضهم كان يعود وهو يحمل أسماء عربية أيضاً.

وكان لوقوع المناطق الإسلامية بيد الإمارات النصرانية أثر كبير في الاتصال والاحتكاك بين الطرفين؛  فعندما كانت تقع إحدى هذه المناطق بأيدي المسيحيين لم يكن ذلك يعني توقف وجود المسلمين فيها، بل على العكس كان الكثير منهم يبقون في هذه المناطق محتفظين بعاداتهم وتقاليدهم ويمارسون طقوسهم الدينية، ومن هؤلاء العديد من أصحاب الحرف والمثقفين الذين لعبوا دوراً هاماً في نقل العلوم والفلسفة الإسلامية إلى النصارى في الشمال، ومنها إلى أوروبا. وكان ملوك وأمراء هذه الإمارات النصرانية يضطرون إلى الاحتفاظ بهؤلاء المسلمين بسبب أهميتهم الاقتصادية للبلاد. وهؤلاء المسلمين الذين استمروا في البقاء في أماكنهم بعد سيطرة النصارى عليها عرفوا باسم المُدجَّنين Mudéjares.

كان موقف المدجنين شبيه بموقف أهل الذمة تحت ظل الحكم العربي الإسلامي. وكانوا أحراراً في اتباع عقيدتهم الإسلامية، وممارسة حرفهم وتجارتهم، وعليهم مقابل ذلك دفع ضريبة الرأس أو الجزية. ومثلوا ظاهرة تاريخية مهمة جداً في حياة إسبانيا النصرانية، أدت إلى خلق بنية اقتصادية وحضارة مادية وعلمية مشتركة بين المسيحيين والمسلمين، بلغت أوجها في العهود التي أعقبت عهد الإمارة، وبشكل خاص في القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد/ السابع والثامن للهجرة.

ومن الجدير بالذكر أن المستعربين وهم النصارى الإسبان الذين عاشوا مع العرب في الأندلس، ساهموا أيضاً في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى إسبانيا النصرانية، لأن هؤلاء المستعربين بحكم معرفتهم للغتين العربية والإسبانية القديمة كانوا ينتقلون بحرية من الأراضي الإسلامية إلى الإمارات النصرانية وهكذا انتقلت العلوم والفلسفة وكثير من مظاهر الحياة العامة الإسلامية إلى الشمال.

وبالإضافة إلى انتقال هذه التأثيرات، فقد انتقلت أيضاً كثير من التنظيمات القانونية والحربية من الأندلس إلى إسبانيا النصرانية. وهذا يوضح لماذا اضطر المسيحيون إلى الإبقاء على التنظيمات القائمة في المناطق المسكونة بالمسلمين والتي أعادوا السيطرة عليها. بينما وضعوا أنظمة أخرى لتنظيم الحياة لرعاياهم في هذه المناطق.

ومن التأثيرات الأخرى التي تبودلت بين الطرفين، التأثيرات اللغوية، فلقد كانت المصطلحات العربية شائعة في كل من ليون وقشتالة ونافار، وبقية المناطق الأخرى في الشمال، كما دخل في اللغة الرومانسية Romance وهي اللغة الإسبانية القديمة الناتجة عن اللهجة اللاتينية ـ الآيبيرية، التي كانت في طور التكوين في ذلك الوقت، الكثير من الكلمات والمصطلحات العربية، وكان هناك العديد من العرب الذين يفهمون هذه اللغة ويتكلمون بها، وبشكل خاص في مناطق الثغور والحدود. ويوجد في مصادرنا العربية إشارات واضحة تدل على أن الأمراء والقضاة وكبار القوم والشعراء كانوا يتكلمون هذه اللغة الإسبانية القديمة أو الرومانسية إلى جانب اللغة العربية. وذلك على كل مستويات المجتمع وحتى في قصور الأمراء الأندلسيين. وفي الوقت نفسه كان هناك العديد من المسيحيين الذين لهم إلمام ومعرفة باللغة العربية.

ويبدو الأثر العميق الذي مارسته الثقافة العربية الأندلسية على السكان المسيحيين في كل شبه الجزيرة الآيبيرية من ملاحظة الاستعارات اللغوية التي أخذتها اللغة الإسبانية من العربية. فلقد وجدت اللغة الإسبانية نفسها كما يقول المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال "مضطرة طيلة مرحلة نموها، وحتى القرن الحادي عشر الميلادي (السابع الهجري)، على الأقل، أن تأخذ من العربية كل ما ينقصها حتى ذلك الوقت للتعبير عن المفاهيم الجديدة وبخاصة في مضمار المؤسسات والحياة الخاصة". وهناك أمثلة لا حصر لها تشمل مئات الكلمات والمفردات ذات الأصل العربي في مجال التنظيم المدني أو العسكري لدى إسبانيا في العصور الوسطى أو في العصر الحديث. يضاف إلى ذلك مصطلحات أخرى تشمل أسماء الأمكنة والأنهار والظواهر الجغرافية، وطرق وأساليب الري، وأسماء الفاكهة والأزهار والألوان والملابس. وتعد هذه الاستعارات اللغوية أفضل من جميع الوثائق التاريخية لأنها تبرز الإشعاع الحضاري الحقيقي الذي سلكته الأندلس على إسبانيا المسيحية. وهي أكثر من جميع الأدلة إفصاحاً على سيادة العرب الثقافية، سيادة لا جدال فيها عمَّت شمال شبه الجزيرة الآيبيرية.

ولم يقتصر أثر العرب الحضاري على الإمارات النصرانية في الشمال على النواحي الثقافية وللغوية فحسب، بل شمل مجالات أخرى، منها الفنون، وخاصة فن العمارة والبناء الذي نقله المدجنون، وظهر في إسبانيا النصرانية منذ بداية القرن التاسع الميلادي/ الثالث الهجري، وظل فيها بصورة نهائية تقريباً. ويتميز هذا الفن، وبشكل خاص في الكنائس، بوجود القباب التي ترتفع فوق أقواس على شكل حدوة حصان، ومن جملة الأبنية الأخرى غير الدينية التي تأثرت بالفن العربي، الجسور والأقنية المائية المعلقة، ونواعير المياه وغيرها. كذلك يظهر تأثير المسلمين على إسبانيا النصرانية في تطور الفنون الأخرى الصغرى، مثل صناعة العاج، والمصنوعات الذهبية والزجاجية الخزفية والتطريز. وظلت هذه الصناعات مستمرة في المدن التي استعادها الإسبان وإلى وقت لاحق بعد عصر الإمارة، بل حتى خروج العرب من الأندلس، وذلك لأن إشعاع الحضارة الأندلسية الذي بلغ أقصى اندفاعه في القرن العاشر الميلادي/ الرابع الهجري، لم يتلاشَ بل امتد حتى سقوط الأندلس، شاملاً جميع أجزاء شبه الجزيرة. ولم يقف ملوك وأمراء النصارى ضد هذا التيار، بل شجعوه، وتبنوا هم أنفسهم شتى المبتكرات المستقاة من مظاهر الحضارة العربية الإسلامية المجاورة. وإن قيام بعض ملوك الإسبان في وقت لاحق بضرب عملاتهم وهي تتضمن وجهين، عربي وقشتالي وارتدائهم الملابس على الطريقة الإسلامية، ليدل على مدى العمق الذي تغلغلت فيه الحضارة العربية الإسلامية في نفوس الإسبان النصارى.

 

دراسات أندلسية، بتصرف، عبد الواحد ذنون طه.

المصدر: http://www.andalusite.ma/index.php?option=com_content&view=article&id=32...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك