القبليّات، والتوقّعات، لمفسّري الوحي... معطيات فهم النّصوص

ترجمة: أحمد القبانجي

بقلم: محمد مجتهد الشبستري

إنّ الفهم هو نوع من المعرفة، وقراءة نص معيّن أو سماع خطاب يختلف عن فهمه، فربّما يسمع شخص كلاماً معيّناً أو يقرأ نصّاً، ولكنّه لا يفهمه، وبعد مواجهة الإنسان لنصّ أو كلام معيّن يمكنه أن يتّخذ موقفين منه، الموقف الأوّل: تبيين (تعليل) ذلك النّص أو الكلام بوصفه ظاهرة، وفي منهج التّبيين يتمّ توضيح نوع إرتباط الظّاهرة مع "القواعد المرتبطة بها"، النّاشئة منها، ويتبيّن كيف تحدث هذه الظاهرة.

الموقف الآخر، تفسير النصّ أو الكلام وفهمه من خلال عمليّة تفسير النصّ أو الكلام من موقع الشفّافية بحيث يتجلّى معنى ذلك النص أو الكلام، وهذا التّفسير يبتني على هذه القبليّة، وهي أنّ قراءة النص أو سماع الكلام، رغم أنّه يملك مدلولات واضحة ومعان جلية للكلمات والعبارات، ولكنّه لا يبيّن مضمون النص أو الكلام المخفي في مطاويه وثناياه، وهذا الأمر الخفي لا يمكن استجلاءه وتوضيحه إلاّ من خلال التّفسير.

إنّ بحث موضوع "الفهم" والذي يعتبر نمطا من المعرفة المنهجيّة والتنظيريّة، بدأ من القرن التّاسع عشر، فإلى ذلك الوقت كان العلماء يتحدّثون عن قواعد التّفسير للنّصوص الدينيّة والفلسفيّة والفنيّة والحقوقيّة، وثمّة بحوث ومقولات عديدة في هذا المجال، وهذه القواعد عبارة عن لزوم التعرّف على لسان النّص والقواعد الدستوريّة له، ولزوم التّدقيق في كيفيّة استخدام المفردات والمصطلحات التي يستخدمها مؤلف النص ولزوم التأمل والتدقيق في اُسلوب استخدامها في كل مقطع من النص، وكذلك يحتمل لزوم الالتفات إلى الموقع الذي يتّخذه مؤلف النص حين صناعة النص، ولم تتوفّر لحدّ ذلك الوقت دراسة دقيقة ومتعمقة في هذا الموضوع، وأي: ما هو "الفهم"، بوصفه معرفة مستقلة في مقابل المعرفة التبيينية؟ ومضافاً إلى الفلسفة الاستعلائية لـ "كانت" التي كان لها دور مهم في ظهور هذه الدراسات، فإنّ دراسات متعمقة ظهرت في موضوع الألسنيات ومدلول الكلمات، وتبيّن شيئاً فشيئاً كما أنّ اللغة عبارة عن ظاهرة تاريخية تملك شروط وإمكانات "البيان"، وكونها تاريخية ومتحوّلة، فإنّ الفهم أيضاً يعتبر مسألة تاريخية ويملك شروطاً وإمكانات متغيّرة ومتحرّكة، وما يتبيّن في اُفق تاريخي من الفهم "التجربة البشرية لموقع معيّن من الزمان والمكان" يحتاج لفهمه في اُفق تاريخي آخر إلى نمط من "الترجمة المضمونية" و"البيان الجديد"، وتبيّن أيضاً عدم كفاية فهم عدّة قواعد لإدراك مسألة فهم النصوص، وهذا يستدعي أن يخضع الفهم، بوصفه نمطاً من المعرفة، إلى مزيد من البحث والدراسة الدقيقة، بحيث يتمّ الكشف عن المعرفة من الدرجة الاُولى من خلال المعرفة من الدرجة الثانية.

ومن جهة أخرى يمكن القول إنّ غفلة القدماء عن المباني والقبليّات لـ "فهم النصوص" وما يقع في مجاري الفهم، كان يتّصل بهذه الحقيقة، وهي أنّ الاُفق التاريخي لمؤلف النصوص لا يختلف كثيراً عن الاُفق التاريخي لمفسّري هذه النصوص، وبما أنّ التجارب والكلمات المستخدمة كانت مشتركة وقريبة الاُفق فلم يكن من الضروري القيام بترجمة مضمونية للنصوص من اُفق تاريخي معيّن إلى اُفق تاريخي آخر، وكذلك يمكن القول إنّ اختلاف الاُفق التاريخي بين صانع النصوص وبين المفسّرين له كانت إلى درجة من القلّة والضعف بحيث إنّ الفاصلة التاريخية الموجودة بين مؤلف النص والمفسّرين له لم تكن واضحة، وفي هذا الموقع فإنّ المفسّرين عندما يواجهون النصوص التي يراد تفسيرها لا يشعرون بوجود غموض وإبهام في تلكم النصوص، إذ يتبيّن لهم ما خفي من النص بأدنى التفات.

بيدَ أنّ هذه الحالة تغيّرت في القرون المتأخرة بعد أن فتحت آفاق معرفية جديدة للمجتمعات الغربية، فكانت النصوص الفلسفيّة والدينيّة والفنيّة في القرون الوسطى وما قبلها غارقة في مطاوي الإبهام والغموض للشعوب الغربية التي عاشت عصر النهضة وباُفق تاريخي جديد، وبذلك تبيّن وجود تفاوت في الاُفق التاريخي بين العصر الجديد والعصور السّابقة، وهذه الحالة أدّت إلى ظهور دراسات وتأمّلات معقدة ودقيقة في مجال تفسير وفهم النصوص القديمة، وهذه الدّراسات تسبّبت في تسليط الضوء بشكل كامل ومستقل على مسألة التفسير وفهم النّصوص بوصفها نمطاً خاصّاً من المعرفة، إنّ الفهم يتعلّق بمعرفة مستقلة، وبذلك ظهر علم المعرفة، وهذه الدّراسات أفرزت بحوثاً عميقة فيما يتّصل بمسألة الفهم وأنتجت تدريجياً ما سمّى اليوم بالهرمنيوطيقا الفلسفيّة.

فهم النصّ يتوقّف على تفسيره

إنّ معنى كلّ نصّ يعتبر حقيقة خفيّة ينبغي استجلاؤها وكشفها بواسطة التفسير، ودلالة النص على المعنى يحصل من خلال عملية التفسير، وفي الواقع أنّ النص يتحدّث وينطق بواسطة التفسير ويكشف عمّا في داخله، وصحيح أنّ دلالة النص على المعنى يرتبط بآليّة قواعد الدلالة "Semantik" ولكن تلك العملية التي تصنع الدلالة وتنتج الثمرة هي عمل التفسير الناشيء من عمل المفسّر، فقواعد الدلالة ترتبط باللسان واللغة، ولكن التفسير يرتبط بفهم النص، ومن خلاله تؤثّر الدلالة، فلو لم يتحقّق تفسير للنصّ فلا يستطيع أي نص إظهار معناه والكشف عمّا بداخله، وبالتالي لا أحد يستطيع فهم أيّ معنى من النص دون تفسير، بل لا يمكن فهم أي كلام وسلوك عاديين للآخرين دون تفسير، وما يحدث من سوء الفهم في المكالمات ناشيء من خطأ في تفسيرها، ونحن في مقام فهم كلمات الآخرين، نضع في الواقع كلّ كلام في موقعه المناسب الذي ينسجم مع ذلك الكلام، وعلى هذا النّحو نقوم بعمليّة التفسير، فيكون فهم كلام الآخرين عبارة عن فهم لحياتهم، وتفسير كلامهم هو تفسير لحياتهم، وعندما لا نجد حسب الفرض أي اختلاف في فهم معنى "نص معيّن" فإنّ هذا الموضوع لا يعود إلى دلالة النص نفسه على المعنى وعدم الحاجة للتّفسير، بل بسبب أنّ جميع الأفراد يفسّرون هذا الكلام على نحو واحد.

التّفسير ينشأ من رؤية نقديّة

إنّ تفسير النص، ولغرض فهمه، يعتمد على ثلاث رؤى نقديّة:

1. أنّ الفهم الصّحيح للنص ممكن فقط بتفسيره.

2. يمكن تقديم تفاسير متعدّدة لكلّ نص، ولكلّ نص وجودات متعددة، وأنّ فهم معنى النص ليست مسألة بديهيّة.

3. يجب تشخيص المعنى الصّحيح للنصّ واختياره وتقديم معنى معقول له وطرح التّفاسير غير الصّحيحة والمعاني غير المناسبة.

إنّ الاعتقاد بحاجة النصّ للتّفسير يرتكز على رؤيتين انتقاديّتين: الأولى، أنّ المتن نفسه يختلف عن معناه، وأنّ المعنى لا يكون جليّاً وواضحاً، والأخرى: أنّ المعنى لا يمكنه الانفصال عن النص ولا يكون أجنبياً عنه، وأنّ المتن يمثّل فقط أساساً للمعنى مورد النظر، وهاتان الرؤيتان تمنعان التوقف على اُفق النص من جهة، وكذلك تكشفان عن سذاجة مقولة أنّ المعنى يمكن استخلاصه من النص دون تفسير وبمجرّد الاقتباس العقلي من جهة أخرى.

أمّا رؤية النص بعدّة أوجه وعدم تصور البداهة في استخلاص المعنى فإنّه يبتني أيضاً على هذه الرؤية الانتقادية، وهي أنّ مواجهة النص بشكل ساذج يمكنه أن يقود الباحث لإرتكاب هذا الخطأ، وهو وجود تفسير معين واحد للنص بوصفه التفسير الوحيد الممكن، أو توهمّ أنّ القبليّات الذهنية للمفسّر عن موضوع معين هي المعنى الوحيد الممكن استخلاصه من النص، وهذه الرؤية الانتقاديّة من جهة مانعة من تورط المفسّر في الجزمية القبليّة، ومن جهة أخرى تقود المفسّر إلى تجاوز الشكاكية والنسبية وتمنع بالتالي تصور أنّ كلّ شخص يستطيع أن يفهم النص كيف ما كان، إنّ تشخيص وانتخاب معنى معين بوصفه معنى صحيحاً وطرح التفاسير الأخرى جانباً يعتمد على هذه الرؤية الانتقادية أيضاً، وهي أنّ المفسّر ربّما يلتفت فقط إلى المفاهيم ويبتلي حينئذ بالاطلاق في دائرة المفاهيم "راسيونالسيم المفاهيم" ويغفل عن المعنى الخاص للمتن بوصفه ظاهرة "في المنهج الظاهراتي" وكذلك يمكن أن يغض المفسّر النظر عن تشخيص المعنى الواقعي للنص بسبب وجود عدّة أوجه للمعنى ويبتلي بالنسبية في المعنى، وهذه الرؤى تمنع من الابتلاء بالاطلاق في المفاهيم أو التورط في مقولة النسبية للمعنى، وتدعو المفسّر لتشخيص وانتخاب المعنى الواقعي للنص والدفاع عنه.

مقدّمات ومقوّمات تفسير النصوص

لقد طرح علماء الهرمنيوطيقا من خلال تحقيقاتهم الدقيقة في مجال تفسير النصوص وفهمها بحوثاً وموضوعات مهمّة، ونستعرض باختصار خمس مسائل أساسية تمثّل مقدّمات ومقوّمات تفسير وفهم النصوص، وهذه المسائل الخمس عبارة عن:

1. القبليّات أو المسبقات الذهنية للمفسّر (الدور الهرمنيوطيقي).

2. توقعات وميول المفسّر التي تدفعه لفهم معين للنص.

3. أسئلة المفسّر من التاريخ.

4. تشخيص بؤرة معنى النص وتفسير النص بوصفه "أمراً واحداً" يدور حول محور ذلك المركز.

5. ترجمة النص في الاُفق التاريخي للمفسّر.

1. القبليّات أو المسبقات الذهنية للمفسّر والدور الهرمنيوطيقي

إنّ المحقق في مجال تحقيق موضوع معين، ليس فقط في تفسير النصوص بل يشمل كل مسعى علمي آخر، يملك "قبليّات" أو"مسبقات فكرية" في ذهنه، واكتساب معرفة جديد، سواءً كانت نمطاً من الفهم أو نمطاً من التدوين، تقوم دوماً على أساس قبليّات ومسبقات فكرية، ويبدأ المفسّر أو المحقق باستخدامها في عمله ولا يمكنه أن يستغني عنها أبداً، وفهم هذا الموضوع يملك أهميّة كبيرة جدّاً في توضيح كيفية فهم النصوص.

إنّ أي عالم أو مفسّر أو كاتب لا يستطيع أن يخلق أفكاره ومعارفه من العدم ويصوغ آراءه ونظرياته من الصفر، فكلّ شخص إذا أراد الحصول على معرفة أكثر فإنّه يملك ـ مسبقاً ـ معرفة مجملة لهذا الموضوع، فلو لم يكن لديه أي معرفة بموضوع معين فإنّه لا توجد في نفسه أي علاقة ورغبة في فهم أو تبيين ذلك الموضوع بوصفه عمل إرادي، وبالتالي لا يتحقق أي فهم وتبيين (تعليل)، فلا توجد أي نسبة مع المجهول المطلق، ولا توجد أي رغبة وعلاقة لفهم وتبيين ذلك الموضوع، فالفهم والتبيين إنّما يكون لهما معنى فيما إذا كنّا نعرف من هذه الجهة شيئاً عن ذلك الموضوع، ونعلم من جهة أخرى أننا لا نعرف كلّ شيء ذلك الموضوع، وهذه المعرفة المركبة تمثّل نقطة البداية في عملنا، وحياتنا المعرفية تقوم على أساس مثل هذه المعارف المركبة، ويمكن توضيح هذا المعنى ببعض الأمثلة البسيطة ومثال معقد آخر:

لنفترض أنّ شخصاً أراد السفر من طهران إلى شيراز ولا يعلم في أي ساعة وفي أي يوم توجد طائرة تقوم برحلة من طهران إلى شيراز، ولكنّه يعلم بوجود خط جوي فماذا ينبغي عمله لهذا الشخص؟ إنّه يستفيد من هذه المعرفة الاجمالية ويتحرك مثلاً باتجاه محل اطلاعات الطيران في مطار طهران، أو يتصل بالخطوط الجوية في منطقته في طهران ويستعلم بشكل تفصيلي عن يوم وساعة الرحلة من طهران إلى شيراز ثمّ يسافر إلى شيراز، ولنفرض شخصاً آخر يعيش في طهران ويريد السفر إلى قرية معيّنة ولا يعلم بأي وسيلة نقلية يمكنه السفر، ولكنه يعلم إجمالاً بوجود مرآب السيارات في المدينة وبإمكانه أن يتحرك ويركب إحدى السيارات ويسافر بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تلك القرية، فماذا يعمل هذا الشخص؟ إنّه على أساس معرفته السابقة بوجود ذلك المرآب للسيارات يتصل تلفونياً ويستعلم عن وقت حركة السيارة أو الباص إلى تلك القرية، وهل توجد سيارة نقل عامة إلى تلك القرية أو توجد سيارات صغيرة لهذه الرحلة، أو يستفهم عن الطريق إلى تلك القرية وهل أنّ السيارة تصل إليها أو يجب الترجل منها وركوب الدواب والبغال فيما إذا كان الطريق وعراً وجبلياً، وبعد كسب هذه المعلومات يسافر إلى ذلك المقصد.

وبالإمكان استبدال هذه الأمثلة وطرح مثال معقد، مثلاً في تأليف كتاب علمي وكيف يتحرك المؤلف في مساعيه العلمية من المعلومات الاجمالية السابقة نحو المعلومات التفصيلية، وبذلك تتشكّل في ذهنه مجموعة منسجمة ومتسقة من المعارف والمعلومات، وعلى هذا الأساس فإنّ المعرفة الإجمالية والتفصيلية السابقة واللاحقة تمثّل حركة دورية وتسلسلية لتكميل هذه المنظومة المتسقة، وبهذا المثال يتبيّن بوضوح مسألة الدور الهرمنيوطيقي.

إنّ تأليف كتاب علمي يمرّ عادة بثلاث مراحل: 1. تهيئة المواد والمنابع العلمية اللازمة، 2. تقييم المواد والمنابع، 3. تأليف الكتاب، ولكن هذه المراحل لا تقع دوماً في طول أحدها الآخر ولا تكون متسلسلة، بل توجد نسبة تسلسلية فيما بينها وفي ذات الوقت تكون دورية وتعتمد أحدها على الأخرى.

ولنفترض أنّ عالماً يريد تأليف كتاب عن موضوع معيّن، فهو عادة يوفّر قبل كلّ شيء المصادر والمواد الأوليّة لدراستها ومطالعتها، ومن أجل هذا العمل يمكنه مثلاً اتباع أحد طرق ثلاث: يستطيع أوّلاً الرجوع إلى دائرة المعارف العلمية الشاملة والمفصّلة ويستخرج منها المقالات التي ترتبط بموضوعه، ويستطيع ثانياً الرجوع إلى مكتبة تحتوي فهرست موضوعي ويطالع هذا الفهرست الموضوعي ويختار من بين الكتب والمجلات العلمية في تلك المكتبة الكتب والمقالات التي ترتبط بذلك الموضوع، وكذلك يستطيع ثالثاً الذهاب إلى مكتبة فيها كتب ومجالات مرتبة على أساس الموضوعات ويختار منها الكتب والمقالات المفيدة لعمله، وبعد أن يطوي هذه المراحل الابتدائية تبدأ إحدى المراحل الهرمنيوطيقية في تأليفه لذلك الكتاب وتمثّل المرحلة الاُولى من الدور الهرمنيوطيقي، وذلك أن يقوم هذا العالِم بقراءة تلك الكتب والمجلات المختارة عن ذلك الموضوع ويطلع أكثر على تفاصيل ذلك الموضوع ويحصل على معارف جديدة، ثمّ ومن خلال هذه الحصيلة العلمية، التي تعتبر بمثابة قبليّات معرفية، يقوم بمطالعة كتب أخرى والاطلاع على معارف جديدة من شأنها الإجابة عن الأسئلة التي اُثيرت أمامه بسبب المطالعات الأوليّة عن ذلك الموضوع، وهكذا يستمر في مطالعة الكتب الجديدة التي يحصل عليها إلى أن يحيط نسبياً بكافة جوانب الموضوع وأبعاده المختلفة، وربّما يفتح هذا الشخص وفي أثناء بحثه وتحقيقه، هذا الموضوع مع علماء آخرين ويحصل على معلومات أخرى، وهكذا تتراكم المعلومات لدى هذا الشخص، ففي البداية يملك حصيلة إجمالية عن الموضوع مورد البحث ويتحرك أوّلاً على مستوى مراجعة الكتب والمقالات المختصة ويحصل منها على معلومات جديدة، وبهذه المعلومات تتسع وتتكامل معارفه وقبليّاته الذهنيّة، ثم يتحرك بهذه المجموعة الجديدة من المعلومات لمطالعة مصادر جديدة ويضيفها إلى معلوماته المسبقة ويستمر بهذه الطريقة إلى أن يصل إلى مرحلة من المعرفة الكافية وتكون له احاطة نسبية بجميع جوانب الموضوع، ومعلوم أنّ هذه الطريقة تتضمن حالة "دورية" وتتحرك من خلال "الذهاب والإياب" في عملية الدور الهرمنيوطيقي لهذه المرحلة.

المرحلة التالية لعمل هذا العالِم: التقييم والانتخاب، وأحياناً اختزال تلك المجموعة المتراكمة وتلخيصها، وفي هذا المرحلة يوجد أيضاً دور هرمنيوطيقي، فهذا العالِم وبعد أن يستوحي نتيجة أوليّة من مجموعة المنابع الموجودة لديه، يحصل له تصوّر تفصيلي عن الموضوع الذي يريد تأليفه، وعادة يعود مرّة أخرى إلى تلك المنابع ويقرأها بدقة ويختار منها عناوين محددة ترتبط تماماً بالموضوع الذي يريد كتابته، وهكذا يركز عمله عليها لغرض تكميل معلوماته عن ذلك الموضوع وبعناوين خاصة ويراجع في ذلك منابع جديدة، وربّما تستمر هذه الحركة من الذهاب والإياب عدّة مرّات ويتحرك في هذا الشأن من دائرة أصغر إلى دائرة أكبر وبالعكس.

وفي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة كتابة الكتاب، يكون قد انتهى من الدور الهرمنيوطيقي، وهكذا نرى أنّ تأليف كتاب معيّن يتضمّن عادة عدّة مراحل، ففي المرحلة الاُولى يوفّر الكاتب في ذهنه مجموعة من الخطوط العريضة واُطروحة كليّة للكتاب، وفي المرحلة الثانية يكتب مسودة لذلك الكتاب، وبلا شك أنّ هذه المرحلة تعدّ أهم وأصعب مراحل تأليف الكتاب، ولهذه المسودة مقدمات أيضاً، والمؤلف عادة لا يكتب الفصل الأوّل من الكتاب بصيغته النهائية ويكتب الفصول اللاحقة كذلك، بل إنّه يكتب كلّ فصل من الكتاب والفصول اللاحقة له في مراحل متعددة، وعادة تكتب المسودة مرّة واحدة ويعاد النظر لها مرّة أخرى ويضيف المؤلف إضافات عليها أو يحذف منها بعض الأمور، وفي المرحلة الثالثة من تأليف الكتاب يدقق الكاتب مثلاً في التواريخ والنصوص التي يستشهد بها ومصادر الكتاب التي استفاد منها، وفي المرحلة الرابعة يتحرك على مستوى رؤية الانسجام المنطقي والصياغة البلاغية لمجموع الكتاب، وبذلك يتمّ تأليف الكتاب في عدّة مراحل من الذهاب والإياب.

ومع قليل من التأمّل يتبيّن أنّ هذا الذهاب والإياب يعود إلى أنّ كلّ فصل من الكتاب إنّما يكون له معنىً مقبولاً فيما إذا اتسق مع مجموع مضامين الكتاب ويؤخذ كل فصل منه بما ينسجم مع ذلك المجموع الكلي، وبالرغم من أنّ تأليف الكتاب يبدأ عادة من الفصول الاُولى وينتهي بالفصل الأخيرة ولكن مضمونه وشكله النهائي يرتبط بالفصول الأولى وبما ينسجم مع مجموع الكتاب، وتتجلى هذه الحقيقة أكثر من أي وقت آخر عند كتابة مقدمة الكتاب، فلا أحد من الكتّاب المنهجيين بإمكانه أن يكتب مقدمة لكتاب قبل إتمام تأليفه، فالمقدّمة رغم أنّها تقع في بداية الكتاب ويقرأها القارىء قبل مواضيع الكتاب إلاّ أنّ هذه المقدمة ترشده إلى مضامين الكتاب، وهذا يعني أنّ كتابة المقدّمة تتوقّف على كتابة ذلك الكتاب بشكل نهائي، والعلّة في كلّ هذا الذهاب والإياب في عمليّة تأليف كتاب معيّن هو أنّ تأليف كتاب، رغم أنّه يمثّل إبداعاً وخلقاً لعمل معيّن، ولكن هذا الإبداع في الحقيقة عبارة عن الفهم التّدريجي لـ "اُطروحة" الذي يتزامن مع وجودها بشكل تدريجي في الواقع الموضوعي.

وما يقع في تأليف كتاب معيّن يقع أيضاً في عمليّة فهم النّصوص، فلا يوجد نص من شأنه أن يفهم "مرّة واحدة" ودون مقدّمة، أودون التحرّك من مرحلة إلى مرحلة أخرى وتكميل الفهم السابق والانتقال إلى فهم جديد في المرحلة التالية وذهاب وإياب وطي مراحل مختلفة في عملية فهم النص، فهناك دوماً قبليّات ومفروضات ذهنية في ذهن قارىء النص، ومن شأن قراءة النص إضافة معلومات جديدة إلى تلك القبليّات، وهكذا تتسع المعلومات وتتراكم وتتضخم، وتكون هذه المعلومات مقدمة لمفاهيم لاحقة، ومن أجل فهم نص معقد يحتاج الإنسان إلى ذهاب وإياب أكثر، ومن هذه الجهة فإنّ هذا النص مورد المطالعة والتحقيق مرّات عديدة، وفي كل مرّة من هذه المطالعات تختلف القبليّات والمفروضات الذهنية عن السّابق ويتحرك الباحث باستمرار من دائرة إلى دائرة أخرى.

الحقيقة الأخرى التي تستدعي وجود "القبليّات في الفهم" لغرض فهم جديد للنص أنّ كلّ فهم يبدأ من سؤال، والسؤال لا يمكن أن ينشأ من فراغ ودون "قبليّات ذهنية"، فالشّخص الذي يريد أن يفهم نصاً معيّناً فإنّه في الواقع يبحث عن شيء، ويبحث عن ضالة، والشخص الذي يروم التحقيق فإنّه في الواقع يسأل، والشخص الذي يسأل ينبغي أن يعرف عمّ يسأل، فلو لم يملك قبليّات عن هذا السّؤال فلا يكون للسّؤال معنى ولا يكون للسؤال وجود، فلا أحد يسأل عن المجهول المطلق، وفي الحقيقة أنّ نقطة البداية للمعرفة لا تكمن في السؤال بل في القبليّات الذهنية الموجودة عن ذلك السؤال، وهذا القبليّات لا تنحصر في السؤال بل في "المسؤول" أيضاً، فالسائل يجب أن يعلم أنّ الشخص أو النص مورد السؤال يملك أجوبة عن ذلك السؤال، وهذا بذاته يمثّل قبلية أخرى.

وأيضاً فالسائل إنّما يمكنه طرح السّؤال فيما لو قبل بـ "نظريات لسانية" معيّنة، والأسئلة لا تطرح في فراغ، فهي تملك بنية دلالية لسانية يستفاد منها في تعيين السؤال، والسائل إنّما يستطيع طرح سؤاله فيما لو امتلك نظرية لسانية معيّنة وامتلك قبليّات وفرضيّات ذهنية معيّنة، ومن هذه الجهة يجب أن يكون لسؤاله معنى، وهذا المعنى لا يمكن دون توفّر نظرية لسانيّة.

إذن فالسؤال يجب على الأقل أن يكون مسبوقاً بعدّة قبليّات في الفهم: أحدها: ما يتعلق بذات السّؤال، والقبليّة الأخرى، تتعلق بالشّخص أو النص مورد السّؤال، وقبليّة تتعلق بلغة السّؤال، أضف إلى كلّ ذلك فإنّ السّائل يجب أن يعلم من أي منطلق معرفي ينطلق في طرح سؤاله، وما هي حدود تلك المعرفة التي يدور السّؤال في دائرتها؟ وما هي الأمور التي يمكن السّؤال عنها، وما هي الأمور التي لا يمكن السّؤال عنها؟ وإجمالاً ما هي الأمور الخارجة عن دائرة ذلك العلم حتى لا يسأل عنها، وهنا يوجد توقّع ضمن السؤال، التوقّع الذي ينتظر السائل الجواب في دائرة ذلك العلم المنظور.

وقد نرى من اللازم إلفات النظر إلى هذه النقطة المهمّة، وهي أنّه على الرغم من عدم إمكانية حصول فهم دون قبليّات ومسبقات ذهنية، ولكن المفسّر ربّما يتصوّر أنّ قبليّاته ليست فقط مقوّمة للفهم بل يعتبرها "مركز معنى النص" وبالتالي لا يكون عمله التفسيري صحيحاً، ويتوقف عند اُفق المتن أو يقوم بتحريف معناه، فالوقاية من هذه الآفة يرتبط بمقدار خلوص التفسير وكماله.

 

2. التوقّعات المرشدة للمفسّر

إنّ توقّعات المفسّر، التي تدفعه للسّؤال عن النّص وفهمه، تعتبر من مقدّمات ومقوّمات فهم النّص، والظاهر أنّ الإنسان يندفع لطرح السّؤال وتتبادر إلى ذهنه دوماً سلسلة من الأسئلة، ففي المرتبة الاُولى تطرح أسئلة أمام الإنسان تكون حياته مرتبطة بالجواب عنها، أي الأسئلة المتعلقة بالمعيشة "من قبيل الأسئلة عن الحكومة، والسّياسة، والاقتصاد" وفي مرتبة ثانية فيما لو أراد الإنسان أن يعيش حرّاً فينبغي طرح أسئلة عن معنى الوجود والمصير، بالإمكان طرح نموذجين من هذه الأسئلة: النّموذج الأوّل: من أين أتيت؟ وإلى أين أتوجّه؟ ولأي غرض أعيش؟ النموذج الآخر: ماذا يمكنني أن أصير؟ ماذا ينبغي أن أصنع؟ بماذا يمكنني أن أعلق أملي؟ ما هو الإنسان؟ "ويرى كانط أنّ هذه الأسئلة الأربعة تمثّل الأسئلة الرئيسيّة للإنسان".

إنّ الإنسان عندما يطرح أيّ سؤال فإنّ هذا السؤال ناشيء عن توقّع خاص وعلاقة معيّنة، وهذه العلاقة والتوقّع تتناسب حتماً مع قبليّات تمثّل مقوّمات ذلك السّؤال، إذن فالسّؤال مسبوق دوماً بعلاقة معيّنة وتوقّع خاص.

فلو لم يكن للإنسان علاقة بفهم نص معيّن فإنّه لا يتحرّك على مستوى تفسيره وفهمه، فتفسير النّص، حاله حال أيّ عمل إرادي آخر، ناشيء من علاقة معيّنة ويهدف لتحقيق منظور خاص، وهذا الهدف لا يمكن أن يكون مجهولاً مطلقاً، ويجب أن يملك للإنسان على الأقل تصوّراً إجمالياً عنه، فهدف الشّخص الذي يريد تفسير نص فلسفي يختلف عن هدف الشّخص الذي يريد فهم نصّ تاريخي، فالأوّل يتحرّك لتحصيل أجوبة عن أسئلته الفلسفيّة الكليّة، والثّاني بصدد العثور على أجوبة عن أسئلته الجزئيّة والتي تتعلق بحادثة تاريخيّة معيّنة، وهذان نمطان من الأهداف مختلفان، فلو كان هدف الشّخص من تفسير نصّ فلسفي الحصول على جواب تاريخي، فإنّ هذا الهدف غير صحيح، وبالتّالي لا يحصل هذا الشّخص من ذلك النّص الفلسفي على أي فهم، وهكذا فيما لو كان هدف الشّخص من فهم النّص التّاريخي الحصول على جواب فلسفي، وهذا الموضوع حاله حال جميع الأعمال الإرادية الأخرى، فالمتوقّع في تفسير النصوص هو الوصول إلى هدف موجود في ذهن الشخص، ويتوقّع الحصول على جواب له، والنقطة المهمّة أنّ هذا التوقّع لا يمثّل حالة نفسانية فقط، بل يعتبر من مقدّمات ومقوّمات عملية التفسير والفهم، بمعنى أنّ المفسّر إنّما يحصل على أجوبة من النص فيما لو كان يتوقّع الحصول عليها منه، وهذا التوقّع المعيّن للمفسّر من شأنه أن يرسم مسيرة السؤال بحيث لا يطلب من نص فلسفي جواباً تاريخياً، أو يطلب من نص تاريخي جواباً فلسفياً.

إذا تحرّكنا على مستوى إقصاء وإبعاد هذه السّلسلة المترابطة من التوقّعات والقبليّات ولم نهتم بتنقيحها لغرض الحصول على تفسير وفهم صحيح، فمن الممكن حينئذ أن يطلب من نصّ فلسفي جواباً تاريخياً، ولا يبعد أن يطلب هذا الشّخص جواباً فلسفياً من نصّ تاريخيّ، والكثير من الأشخاص أرادوا إقتباس أجوبة من النّصوص الدينيّة تتّصل بالعلوم التجريبيّة وألفوا كتباً ضخمة في تفسير هذه النّصوص بهذه المنهجيّة، ومن هذه الجهة فإنّ تفسير "الجواهر" للطنطاوي لم يحظ بالقبول في العالم الإسلامي، فالمتاهة التي يعيشها المفسّر في تفسير النص القرآني ناتجة عن المتاهة في القبليّات والتوقّعات للمفسر الناشئة من هذا الخلط والخطأ في طرح الأسئلة، فعندما يطرح سؤال غير صحيح لابدّ أن نتوقّع جواباً غير صحيح، وينتهي الأمر إلى تفسير غير صحيح.

إنّ أهميّة تنقيح القبليّات والتوقّعات والأسئلة للحصول على تفسير صحيح للنّصوص الدينيّة يحظى بأهميّة أكبر من تفسير النّصوص الأخرى، فالنّصوص الدينيّة تتحدّث عن معنى الوجود ومصير الإنسان، وتنقيح القبليّات والأسئلة والتوقّعات المتعلقة بتفسير هذه الأسرار والتّعقيدات الكامنة في النّصوص صعبة جدّاً وتحتاج إلى قابليّة خاصة.

أن يصير الشخص مفسّراً للنصوص الدينية أصعب بكثير من أن يصير فيلسوفاً ومتألهاً، والغالبيّة السّاحقة للمخاطبين للنّصوص الدينيّة لا يستطيعون استلام الرّسالة في هذه النصوص إلاّ من خلال وساطة المفسّرين، والذين ينبغي أن يكونوا من النّخبة وأهل الخبرة، وأصعب عمل لهؤلاء المفسّرين وهؤلاء الوسطاء في نقل الرّسالة المعنويّة "لا الحكّام على الأرض" يتمثّل في تنقيح المقدّمات والمقوّمات في عملية التّفسير.

إنّ دور التوقّعات والقبليّات للمفسّر في عمليّة التّفسير لا يقبل الإنكار، ولكن المعضلة فيما يتّصل بهذا الموضوع تتمثّل في كيفيّة تحصيل الاطمئنان بتطابق علاقة المفسّر وتوقّعاته مع علاقة وتوقّعات الخالق للنص والموجد له؟ كيف يمكن تحصيل الأسئلة التي يطرحها المفسّر في مقابل النص؟ وهل أنّ هذه الأسئلة متطابقة مع رغبة الموجد للنص والذي يريد الإجابة عنها؟ الظاهر أنّ الانطباق في الجملة بين هاتين الطائفتين من التوقّعات ضروري لحصول الفهم، وتشخيص هذا الموضوع إنّما يكون مشكلاً فيما لو كان النص قد كتب في زمان بعيد جدّاً، فكيف يمكن تشخيص التوقّعات والأسئلة لأفراد البشر الذين عاشوا قبل آلاف السنين وأبدعوا النصوص مورد البحث؟ أضف إلى ذلك كيف يمكن للمفسّر الاطلاع على جميع التوقّعات والقبليّات الظاهرة والخفيّة والتي تصوغ أسئلته حيال النص؟ وعلى أيّة حال فإنّ المفسّر هو الذي يجب عليه في كل مورد ومن خلال "فن التفسير" أن يتغلب على هذه المشكلات ويتحرك باتجاه حلّها.

3. أسئلة عن التّاريخ

إنّ القبليّات والتوقّعات والأسئلة وأحياناً الاطلاع على تفاسير الآخرين للنّص، تدعو المفسّر للبحث عن "ماذا يقول النص"؟ وفي هذه المرحلة يجب على المفسّر أن يتحرّك للبحث عن "سؤال من التّاريخ" ويمكن التعبير عنه بـ "الإصغاء للتّاريخ" أيضاً، وهذا العمل عبارة عن البحث عمّا يريده صاحب النص وما يريد إفهامه للمخاطبين، وفي هذه المرحلة يجب توضيح عدّة مسائل من خلال تحقيق تاريخي، وهي: أيٍّ من التوقّعات تدفع المؤلف لإبداع النص؟ وما هي الظروف التاريخيّة التي نشأ فيها النص؟ وما هي الظروف التاريخيّة للمخاطبين في ذلك الوقت؟ وما هي القضايا والإمكانات اللسانيّة التي استخدمت لخلق النص وتدوينه؟ مثل هذه الأسئلة إنّما يمكن الإجابة عنها من خلال تحليل تاريخي، التحليل الذي ينبغي أن يتمّ دون تدخل من المفسّر، والاستفادة من قواعد وقوانين اللغة والمحاورة والتي يطلق عليها القدماء أحياناً بـ "قواعد التفسير"، تنفع في هذه المرحلة، كما أنّ جميع مباحث الألفاظ في علم الأصول الإسلامي تتعلق بهذه المرحلة، والتحقيقات الجديدة المتعلقة بمنهجيّة النّقد التاريخي فتحت أبواباً واسعة فيما يتصل بهذه المواضيع وبيّنت بوضوح التعقيدات المطروحة عن الأسئلة التاريخية.

وهنا نشير إلى عدّة أمور أساسية فيما يتّصل بموضوع "ماذا يقول النص؟" والذي يجب على كلّ مفسّر أن يطلع عليها:

1. دراسة المعنى الحرفي للكلمات والعبارات.

2. دراسة دور "الرّسالة" أو "المضمون" للنّص، وهذا يعني تأثير النّص في صياغته الخاصّة وفيما يتعلق بظروفه ووقعه الخاص على المخاطبين.

3. المراد الجدي للمتكلّم: فماذا يقصد المتكلّم أو الكاتب من إيجاد النص؟ وما هو الهدف الذي يرومه من إيجاد النص؟

4. التأثير الذي يوجده النص مورد البحث على الأشخاص الآخرين بغض النّظر عن موجد النص.

ومن بين هذه المواضيع الأربعة فإنّ الموضوع الثاني يرتبط أكثر ببحثنا في هذه المقالة ويعتبر مفتاحاً أساسياً لفهم النصوص، وهذا ما نروم توضيحه.

إنّ "الإظهارات اللسانيّة" التي تمثّل النّصوص المدوّنة قسماً منها، هي الأثر الناشيء من "الخطاب" في نفس المخاطبين ودور "الدّعوة" ترتبط بهذه المسألة، وهذه الإظهارات تطلب من المخاطبين استجابة معيّنة، ويمكن تقسيمها إلى قسمين أساسيين:

1. معرفة الحقيقة أو الواقع.

2. القيام بعمل معيّن أو ترك عمل معيّن.

ونطلق على النّمط الأوّل "الدّعوة للمعرفة" ونطلق على النّمط الثّاني "الدّعوة للعمل".

وأهمّ أنماط الدّعوة للمعرفة عبارة عن "الاستفهام التقريري" وفيه يطلب من المخاطب الإقرار والإذعان لحقيقة معيّنة، و"الاستفهام الاستدلالي" والغاية منه إعطاء رؤية خاصة للمخاطب، و"الاستفهام الإخباري" والغاية الإخبار عن حقيقة معيّنة، و"الإخطاري" والغاية منه لفت نظر "المخاطب" لظاهرة معيّنة ومورد خاص، و«الإيضاحي» الغاية منه إيصال المخاطب لفهم ظاهرة معيّنة، و"الإيجابي"والغاية منه تصديق المخاطب بحقيقة معيّنة.

إنّ الدّعوة للعمل أيضاً، والتي تهدف إلى تحريك المخاطب باتّجاه القيام بعمل أو منعه عنه، يمكنها أن تكون بصيغة الإيجاب أو التّحريم، الإيجاب والتّحريم القانوني أو الايجاب والتّحريم القيمي.

وما تقدّم بيانه يعتبر آليات لفهم المعنى الذي يريده موجد النص، أمّا الاستفادة من هذه الآليات فلا يتيسر إلاّ من خلال سلسلة من الأحكام و"اتخاذ المواضع"، والمسألة المهمّة جدّاً، دراسة "المحك" لهذه الأحكام والقاعدة التي ينطلق منها اتخاذ المواضع، فصحيح أنّ النص يفيد معنىً، ولكن إفادة المعنى إنّما تتيسر فيما إذا كان المفسّر يعلم مسبقاً ماذا يقصد الموجد للنص من المعنى الذي يريد إيصاله للمخاطب، وماذا لا يريد من معنى؟ وتشخيص هذه المسألة يحتاج إلى تحكيم ومحك، والبحوث المتعلقة بهذا المحك أو التّحكيم لم تتضح لحدّ الآن بشكل مقبول ومرضي، ومن هذه الجهة تطرح أسئلة من هذا القبيل: هل أنّ المفسّر يستطيع أن يصوغ مثل هذا المحك دون الارتباط بظروف تاريخية خاصّة؟ وهل يستطيع أن يصغي للتاريخ بهذه الصورة بحيث إنّ النص ينطلق في الحديث عمّا في باطنه ويعكس المعنى المقصود لموجد النص بعينه؟ وهل أنّ توقّعات المفسّر في اُفقه التاريخي تمثّل مانعاً وعائقاً في هذا الطريق؟ ومع وجود هذه الأسئلة الأساسية فإنّ المفسّر يجب عليه أن يبذل جهده لتنقيح هذه المواضيع الأربعة، وإلاّ فإنّه بدلاً من تفسير النص، يتحرك على مستوى إسقاط آرائه وميوله على النص.

4. كشف مركز معنى النّص

المقصود من "مركز معنى النص" هو "الرّؤية الأصليّة" التي تدور حولها جميع المعاني الموجودة في النص، ويجب الكشف عن هذه الرؤية الأصلية، وبذلك يتمّ فهم جميع النص على فرض ابتنائها على هذه الرؤية، وهذا المركز للمعنى لا يمكن الكشف عنه بآليات اعتباطية وغير منهجية ودون محك ومعيار، إنّ منهجيّة الكشف عنه تتمثّل في"السّؤال من التّاريخ" أو الإصغاء للتّاريخ، والذي تقدّم الكلام عنه في البحث السّابق.

الشّخص الوحيد الذي يستطيع تفسير نصّ معيّن هو الذي يرى وجود "وحدة" للنّص، ويعتقد بأنّ النّص، مضافاً إلى معاني كلّ كلمة وجملة في النّص، يملك "وحدة" متّسقة ومتناسبة وتفيد معنى "واحداً"، وبعبارة أخرى، لا يمكن فهم أي شيء من النّص إلاّ «معنى واحد»، وربّما يكون معنى النّص في نظر المفسّر وآخرين مهمّاً أو غير مهمّ، مقبولاً أو غير مقبول، ولكن وحدة المعنى غير هذه الصفات، وكلّ معنى فقط بقيد «الواحدية» قابل للفهم، وكلّ نص مدين لهذه الوحدة في مركز معناه، وذلك المركز هو الذي يمنح المعنى وحدته، ولا يمكن فهم جميع مضمون النص إلاّ بالكشف عن مركز المعنى، ومركز المعنى هذا يمنح جميع أجزاء النص الحياة والمعنى، لأنّ هذه الأجزاء إنّما يتيسر فهمها فيما يتصل بذلك المركز.

ومع هذه الأهميّة الرئيسيّة للكشف عن مركز معنى المتن لغرض التفسير وفهم المعنى فسوف يطرح في هذا الموضوع أيضاً سؤال مثير، وهو أنّ المفسّر بإعمال هذا المنهج في السؤال من التاريخ إلى أي حدّ يتوصل إلى مركز المعنى، كما هو الواقع؟ هل أنّ المفسّر يستطيع في مقام التفسير أن يجرّد نفسه كلياً عن تجاربه التي عاشها في ظلّ الظروف التاريخيّة له ومن ثم برزت أمامه أسئلة حيويّة ومهمّة بسبب هذه التجارب، أو أنّ هذا العمل غير ممكن أساساً، وعليه فإنّ الكشف عن مركز المعنى، قليلاً أو كثيراً، يقع تحت تأثير تجارب وأسئلة المفسّر؟ وفي هذه الصورة من الممكن أن يقع كلّ مفسّر تحت تأثير تجارب وأسئلة متفاوتة ويحصلون على مركز لمعنى النص بشكل متفاوت نسبياً عن المعنى الذي يحصل عليه الآخرون ويستنبط من النص فهماً خاصاً وبالتالي تتحصل فهوم متفاوتة من جميع النص، وهل باستطاعتنا اجتناب هذه المؤثرات بحيث يمكننا أن نتصل بمركز المعنى ونستنطق النص ويكشف لنا النص عن مضمونه وباطنه تماماً وبدون نقيصة وزيادة؟ هل أنّ هذا العمل ممكن؟

لا شك أنّ هذا السّؤال يعدّ سؤالاً أساسياً لاستنطاق وفهم النصوص والذي يجد علماء الهرمنيوطيقا الطريق طويلاً أمامهم في مجال العثور على جواب واضح لهذا السؤال، واللافت أنّ أهميّة هذا السؤال فيما يتصل بتفسير النصوص الدينية تتضاعف مرات عديدة، لأنّه، كما ألمحنا إليه آنفاً، أنّ النصوص الدينية ترتبط بمسائل رمزية ومعقدة وقضايا سهلة وممتنعة والكشف عن مركز المعنى لهذه النصوص يواجه صعوبة خاصة ويستدعي قابلية خاصة وتجربة فنيّة لعملية التفسير تختلف كلياً عن غيرها.

5. ترجمة معنى النّص في الاُفق التّاريخي للمفسّر

إنّ ضرورة هذا العمل التفسيري المهم إنّما تتضح تماماً فيما إذا كان موجد النص والمفسّر له يعيشان في عصرين مختلفين، فعندما يعيش المفسّر في اُفق تاريخي متفاوت عن الاُفق التاريخي لموجد النص، وتكون تجارب كل واحد منهما عن نفسه وعن العالم مختلفة، فينبغي، للعثور على معنى النص في الاُفق التاريخي للمفسر، القيام بترجمة خاصة، ومن المعلوم أنّ هذه الترجمة، ليست ترجمة من لغة إلى لغة أخرى، بل هي ترجمة تجارب إلى تجارب أخرى، وبعبارة أخرى أنّ فهم تجارب الماضين يتحقق من خلال طرح الأسئلة الناشئة من تجارب الحاضرين، وهذا التفاوت في التجارب معلول تاريخيّة حياة الإنسان، وفي أعماق الثقافات والحضارات المختلفة والرؤى والأديان المتفاوتة ثمة تجارب متفاوتة أيضاً، فتجربة الإنسان عن نفسه وعن العالم في عصر تبعية الإنسان المطلقة لقوى الطبيعة وعدم إمكانية التصرف فيها تختلف قطعاً عن تجربته عن نفسه وعن العالم في هذا العصر الذي سيطر فيه الإنسان على قوى الطبيعة واستخدمها لصالحه، واليوم أيضاً نرى أنّ تجارب الغربيين عن أنفسهم وعن العالم تختلف عن تجارب سكان الشرق، ومفتاح فهم نصوص العصور الماضية يكمن في فهم تجارب البشر في ذلك العصر.

وهنا قد يكون من اللازم الإشارة إلى نقطتين مهمتين:

الاُولى: أنّ السّعي لفهم تجارب الماضين لا يعني الموافقة على تجاربهم، فالمفسّر بإمكانه مواجهة تلك التجارب بروح النقد.

والأخرى: أنّ المفسّر عندما يسعى لتفسير نصوص العصور القديمة، فربّما يبتلي بنوعين من الانحراف، الانحراف الأوّل: أن يتحرك في عملية تفسير النص وتقديمه للمخاطبين بحفظ هيكلية نسق ذلك النص القديم الذي لا يصلح للفهم من قِبل المخاطبين للمفسّر، بنحو من صياغة البيان الأصلي للنص بشكله وهيكليته القديمة، والانحراف الثاني أن يقوم بترجمة نسق النص في اُفقه التاريخي المعاصر، وبدلاً من أن يستنطق النص نفسه فإنّه يسعى لإسقاط أسئلته ومقبولاته على النص لكسب تأييده وتطبيق آرائه على النص، وفي كلتا هاتين الصورتين لا يستطيع تفسير النص بشكل صحيح ولا يحصل على الفهم المطلوب منه، والتفسير الصحيح للنص إنّما يكون ممكناً ويحصل المفسّر على فهم سليم فيما لو كان المفسّر والمخاطبون له يعيشون مع النص في حال «مواجهة» وحينئذ تتجلى هذه الحقيقة وأنّ المعنى الخفي للنص في حال ظهور، وتطبيق ذلك المعنى على الأسئلة والقبليّات للمفسّر لا تستدعي مثل هذه المواجهة وبالتالي لا يتمّ الكشف عن المعنى الخفي، وهذا المعنى لا يعني أنّه من الممكن أو يجب في مقام التفسير أن يكون ذهن المفسّر فارغاً من أي سؤال ومعرفة، وسبق أن ألمحنا إلى أنّ هذا الأمر ليس فقط غير ممكن، بل إنّ القبليّات ونمط الأسئلة تعتبر من المقدّمات والمقوّمات المهمة لفهم النص، أمّا ما ننفيه هنا هو تطبيق النص على قبليّات وأسئلة المفسّر، لا أنّ بداية الفهم لا ترتبط بالمقدّمات التي تعيّن وترسم اتجاه الأسئلة، وهنا يمكن إضافة هذه الحقيقة، وهي أنّ شخص المفسّر بحركته وطيه لجميع هذه المراحل والاستفادة من هذه المقدّمات والمقوّمات فإنّه يستخدم النص ليثير فيه الحيوية والنطق «يستنطق النص» ويجعل المفسّر مخاطباً له، لكي يتحرك على صعيد تفسيره، وفي هذه المرحلة تتحرك عملية التفسير بواسطة استنطاق النص.

المشتركات البشريّة تيسّر فهم النّص للعصور المختلفة

إنّ جميع ما تقدّم عن المعضلات والتعقيدات في عملية التفسير وفهم النصوص قد يثير أمامنا هذا السؤال الأساسي، وهو أنّ أفراد البشر يرتبطون بآفاق تاريخية مختلفة، فكيف يفهم أحدهم الآخر؟ مثلاً في هذا العصر نرى أنّ الغربيين يعيشون باُفق تاريخي يختلف عن أهل الشرق، فالغربيون كيف يفهمون الشرقيين وبالعكس؟

إذا كانت التحوّلات التاريخية تستدعي تغييراً كلياً لظروف الحياة وآفاق التجارب لأفراد البشر على إمتداد التاريخ فإنّ الناس الذين يعيشون بآفاق تاريخية خاصة سوف لا يفهمون الآخرين الذين يعيشون باُفق تاريخي آخر، وبالتالي من البديهي أنّ النصوص المتبقية من العصور القديمة سوف لا تكون مفهومة للبشر في هذا العصر، ولا يتبيّن ما هو الهدف لمؤلفي تلك النصوص، وماذا يريدون قوله وإفهامه؟ وفي هذه الصورة فالأشخاص في هذا العصر الذين يعيشون تجارب خاصة عن أنفسهم وعن العالم سوف يكونون مسجونين في عالمهم الخاص وليس لهم طريق لمعرفة شخصية القدماء فيما تتحدّث عنه هذه النصوص، وفي هذه الصورة فإنّ تفسير تلك النصوص يعني أنّ المفسّر يختار لها معنىً ويضعه على النص، وطبعاً فإنّ هذا يعني عدم فهم النص بل هو تطبيق معلوماته على النص.

ومن أجل نتمكن من فهم النصوص القديمة بشكل واقعي ونعلم بكونها ذات معنى، وهي كذلك، فيجب القبول بهذه المقدّمة، وهي أننا نشترك مع الناس الذين يعيشون في الماضي في الإنسانية، وينبغي علينا القبول بهذه الحقيقة، وهي أنّه بالرغم من وجود كلّ هذه المتغيرات والتحوّلات التاريخية العظيمة التي جعلت من تجاربنا تختلف كثيراً عن تجارب الشعوب القديمة، فثمة تجارب ثابتة ترتبط بأساس الإنسانية وهي مشتركة بيننا وبينهم، وفي ظلّ هذه المشتركات فإننا نتعرف على أسئلتنا في ضمن أسئلتهم ونعيد انتاجها وصياغتها ونستطيع الاجابة عنها ونعتقد أنّ تلك الأسئلة ترتبط بأسئلتنا، وطبعاً فنحن لا نستطيع لإثبات أنّ هذه التجارب مشتركة وأنّ هذه العلاقة موجودة، إقامة دليل تجريبي حاسم، لأنّ هذا العمل إنّما يكون ممكنناً فيما لو استطعنا السفر بشكل واقعي إلى العصور القديمة، وحينئذ لابدّ من القناعة بالتجارب والتحقيقات النسبية والمحدودة التي تؤيد هذه الحقيقة، وفي مثل هذه الحالة يجب علينا القبول بأننا نشترك معهم في مثل هذه التجارب، وفي الحقيقة نحن في مواجهة «اعتماد» في هذا المجال، أي الاعتماد على هذه الحقيقة، وهي أنّ ارتباط أفراد البشر في العصور والحقب الزمنية المختلفة ممكن وقابل للفهم.

وبما أنّ مسألة ارتباط أفراد البشر فيما بينهم، وكذلك فهم النصوص، وبخاصة النصوص القديمة، تملك هذه الحالة، وتختلف باختلاف المعرفة التعليلية للظواهر، فقد يطرح هذا السّؤال ـ لكي نعلم أننا فهمنا النص واقعاً ـ ما هي العلامات النهائية القابلة للاعتماد لهذا الفهم؟ وفي مقابل الجواب عن هذا السّؤال يمكن القول بأنّ تفسير نص معين إنّما يكشف عن معناه من خلال المجابهة الحية والجادة للمفسّر ومخاطبيه مع النص مورد التفسير، وهذه المجابهة قد تكون علامة على هذه الحقيقة، وهي أنّ النص في اُفق تجارب الموجدين له يتحدّث عن نفسه ويحصل منه الفهم، ولكن هذه العلامة لا تكون دليلاً على صحة الفهم دوماً، وربّما يكون المعنى المحرّف بواسطة المفسّر يقود إلى مثل هذه المواجهة.

 

 

المصدر: http://alawan.org/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D9%84%D9%8A%D9%91%D8%A7%D8%AA...

http://alawan.org/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D9%84%D9%8A%D9%91%D8%A7%D8%AA...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك