بين الصديق والأسلمي
دارت بين أبي بكر الصديق وربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنهما
محمد السمان
الأمة دائماً ما تحتاج إلى تدبر سير العظام منها ، وهل أعظم قدراً وأعلى مكاناً من أصحاب رسول الله ، لقد سطرت كتب التاريخ والسنة صفحات خالدة لأولئك الرجال رضي الله عنهم وأرضاهم ،( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100) واليوم سنعطر هذا المجلس بقصة فيها كثير من العظات العبر، قصة حفظتها لنا كتب السنة ، أما أطراف القصة فصحابيين فاضلين أولهما الصديق أبو بكر رضي الله عنه ، أفضل رجل بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، الخليفة الراشد الأول رضي الله عنه ، والثاني خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي سأله مرافقته في الجنة فقال له النبي إذن أفعل فأعني على نفسك بكثرة السجود ، ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه ، فإليكم القصة أولاً كما رواها أحد أطرافها ثم نقف معها بإذن الله وقفات, فقد روى الإمام الحاكم في مستدركه وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قوله (وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً وأعطى أبا بكر أرضاً, فاختلفنا في عذق نخلة, قال وجاءت الدنيا فقال أبو بكر هذه في حدي, فقلت لا بل هي في حدي, قال فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها وندم عليها, قال فقال لي يا ربيعة قل لي مثل ما قلت لك حتى تكون قصاصا, قال فقلت لا والله ما أنا بقائل لك إلا خيرا, قال والله لتقولن لي كما قلت لك حتى تكون قصاصا وإلا استعديت عليك برسول الله صلى الله عليه وسلم, قال فقلت لا والله ما أنا بقائل لك إلا خيرا قال فرفض أبو بكر الأرض وأتى النبي صلى الله عليه وسلم جعلت أتلوه, فقال أناس من أسلم يرحم الله أبا بكر هو الذي قال ما قال ويستعدي عليك قال فقلت أتدرون من هذا هذا أبو بكر هذا ثاني اثنين هذا ذو شيبة المسلمين إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة, قال فرجعوا عني وانطلقت أتلوه حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقص عليه الذي كان, قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ربيعة ما لك والصديق قال فقلت مثل ما قال كان كذا وكذا, فقال لي قل مثل ما قال لك فأبيت أن أقول له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل فلا تقل له مثل ما قال لك ولكن قل يغفر الله لك يا أبا بكر قال فولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو يبكي ) .
إن هذه القصة العجيبة التي نقلتها لنا كتب السنة تحمل في طياتها جملة من الدروس والعبر ، ولا أدري بأيها أبدأ ، هل أبدأ برسول الله وكيف سمع من أبي بكر وربيعة رضي الله عنهما وكيف جعلهما يتجاوزا هذه المرحلة ، أم بالنفس الكبيرة للصديق رضي الله عنه ، أم أتحدث عن ربيعة رضي الله عنه وتوقيره للصديق رضي الله عنه .
إن المحور الذي تدور عليه هذه القصة هو ما دار بين الصحابيين الكريمين ونظرتهما لذلك العذق الذي سبب اختلافاً يسيراً بينهما ، لقد قال ربيعة رضي الله عنه أن السبب في حدوث هذا الأمر:
( وجاءت الدنيا ) يعني أن السبب الرئيس كان الإلتفات لهذه الدنيا وزهرتها ، وكأنه رضي الله عنه يقول لنا إن حقيقة الدنيا وزخرفها لا تدع لمثل هذا الخلاف والنزاع ، كأنه يقول لنا لماذا الاختلاف والتنازع والتقاطع بين الخلان والإخوان من أجل مال أو أرض أو ميراث ، كأنه يقول لنا إلى متى تشغلنا هذه الدنيا عن أهدافنا السامية .. عن علاقاتنا فيما بيننا ، اسمعوا إلى ربنا سبحانه وتعالى يصف لنا هذه الدنيا (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (الكهف:45)
ثم يلفت رضي الله عنه لفتة أخرى توجها رضي الله عنه بعدل مطلق حينما قال عن أبي بكر رضي الله عنه ( فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها وندم ) ، حاولت أن أعرف هذه الكلمة التي قالها أبو بكر رضي الله عنه فيما ورد من روايات لهذا الحديث لكنني لم أتوصل إليها مع يقيني الكبير أن هذه الكلمة لا تعدوا أن تكون سبق لسان تداركه الصديق رضي الله عنه بندمه على ما قال – وفي هذا عبرة وأي عبرة فحتى لو أخطأ الأكابر فالعودة إلى الحق تكاد أن تكون أسرع من الوقوع في الخطأ – ثم إن خفاء هذه الكلمة يثبت أن ربيعة رضي الله عنه لا يحمل شيئاً يريد أن تنسى هذه الكلمة وتمحى .
طلب أبو بكر رضي الله عنه من ربيعة رضي الله عنه أن يرد له تلك الكلمة ليقتص الصديق رضي الله عنه من نفسه ، لم تمنعه مكانته من رسول الله ولا مكانته في الإسلام أن يحقر أحداً من المسلمين ولا أن يتعدى عليه حتى بلفظ يسير – يقرر لنا الصديق رضي الله عنه بهذا الموقف العظيم مبدأ العدل والتواضع - وفي موقف كبير آخر مقابل لموقف الصديق رضي الله عنه ونفس سامية للمتربي في مدرسة النبوة على صحابها أفضل الصلاة والسلام تسمو عن مبادلة الكلمة المكروهة بمثلها ليقول ربيعة رضي الله عنه (لا والله ما أنا بقائل لك إلا خيراً ) وكأن ربيعة رضي الله عنه مرة أخرى يذكرنا بحقيقة أخرى فكأنه يقول بادل السيئة بالحسنة وكأنه يقول لا تدع للشيطان مدخلاً عليك في تعاملك مع إخوانك وخلانك ، وكأنه يقول لا تقل بلسانك إلا خيراً ، وكأنه يهمس في أذن من اتخذ من لسانه أداة للسب أو الشتم أو السخرية أو الغيبة أو الكذب لا تفعل .. لا تفعل ... فهذا ليس من الخير في شيء ، ثم هو رضي الله عنه يذكرنا بخلق آخر خلق فاضل ألا وهو خلق الحلم لم يرد رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه الكلمة بمثلها أو تجاوز ذلك – حاشاه – رضي الله عنه ، أليس في ذلك عبرة لنا أن نضبط أنفسنا ، ومشاعرنا ، يؤسفني أن بعض المسلمين يرد الكلمة بمثليها والجملة بأضعافها ، يستثيره أدنى أمر .. فتجده يزبد ويرعد .. يشتم ويلعن .. وينسى وصية حبيبه حينما أوصى صاحبه رضي الله عنه ( لا تغضب ) .
ثم إن أبا بكر رضي الله عنه وقد أثرت عليه الكلمة التي قالها ، عندما لم يلبي ربيعة رضي الله عنه طلبه ذهب إلى النبي ليرشده في أمره – وفي هذا فائدة جليلة بالعودة إلى المرجعية التي تتمثل في رسول الله في هذه القصة - وتبعه ربيعة رضي الله عنه وفي الطريق أراد قوم ربيعة رضي الله عنه أن يردوه عن إتباع أبي بكر رضي الله عنه وكأنهم يقولون له أنك أنت المخطأ عليك ومعك الحق فلماذا تذهب خلفه ، وتأتي الإجابة الكبيرة في مبناها ومعناها من ربيعة رضي الله عنه ( أتدرون من هذا هذا أبو بكر .. هذا ثاني اثنين هذا ذو شيبة المسلمين .. إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة ) إنه سمو في القول والفعل ... سمو في الأخلاق والتعامل .. سمو في الإحترام والتوقير .. فلله درك ورضي الله عنك حين تعطي للأمة درساً في إنزال الناس منازلهم ، لله درك ورضي الله عنك حين تعرف لأهل الفضل فضلهم ، لله درك ورضي الله عنك حين توقر الصديق رضي الله عنه وتحترمه ..
لله درك ورضي الله عنك حين تضبط الأمور بميزان الشرع ، انظروا رضي الله عنه علم مكانة أبي بكر رضي الله عنه من رسول الله خشي من غضبه لإنه سيترتب على ذلك غضب رسول الله ثم يترتب على ذلك غضب الله تعالى إنه ميزان الشرع الذي وزن فيه الأمر الذي غاب عن قومه رضي الله عنهم حينما وزنوا الأمر بعاطفتهم المجردة ، وفي هذا درس للأمة عظيم أن العاطفة التي لا تنضبط بضوابط الشرع تؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها ، أترون ما تمر به بلادنا حرسها الله في هذه الأيام من ظهور الأفكار التي حركتها العاطفة الغير منضبطة بضوابط الشرع ، فعاثت في الأرض فساداً تفجر وتدمر وتخرب وتكفر ، أيها المسلمون .. إن العلم الشرعي المبني على الأصول الصحيحة هو السبيل الأوحد إلى سلامة الأمة ونصرها ، نحن أمة منهجنا واضح وأساسه واضح ، ومبناه واضح ، لا يحركنا هوىً متبع أو عاطفة غير منضبطة أو حماس غير محسوب .
هذا ما دار بين الصحابيين رضي الله عنهما قبل وصولهما إلى رسول الله ، أما ما كان بينهما عند رسول الله . فقد التقى الصحابيان رضي الله عنهما أبو بكر الصديق وربيعة الأسلمي رضي الله عنهما عند رسول الله واستمع لهما ، هكذا رسولنا مع أصحابه رضي الله عنهم يستمع إليهم ويجلس معهم يشاوره فيشير عليهم يسألوه فيجيبهم ، سمع كلا الطرفين ولم يغفل طرفاً دون الآخر وفي هذا مضرب مثل لعدله ، وبعد أن استمع إليهما واتضح له الأمر أرشد ربيعة لما هو خير من رد الكلمة التي قال أبو بكر رضي الله عنه ، وأيده على عدم الرد بالمثل وقال له قل يغفر الله لك يا أبا بكر ) .
قالها ربيعة رضي الله عنه فأبت تلك النفس الكبيرة نفس أبي بكر رضي الله عنه التي تخشى الله وتتقه فسبقت عبراته عبارته وولى وهو يبكي رضي الله عنه وأرضاه .
يا لله .. ما أجملها من قصة تختم بهذا الأدب الجم والخلق خلق العفو والتسامح ، ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)(الشورى: من الآية40) .
الموقع: صيد الفوائد.