بين علم النحو وعلوم الشريعة
د. رمضان فوزي بديني
تُعد علوم العربية - وعلى رأسها علم النحو - من العلوم المهمة والفاتحة لفهم النصوص الدينية؛ حيث إن اختلاف دلالات الألفاظ وتراكيب الجمل واختلاف أواخر الكلمات.. كل هذا يؤدي إلى توالد معان ودلالات متنوعة، يتوقف عليها فهم النصوص الدينية؛ ولذلك فالعلم بالعربية وأسرارها شرط أساسي من شروط الاجتهاد في علوم الشريعة، كما أنه مهم بالدرجة نفسها في فهم كل العلوم العربية. لكن علوم العربية ليست كلها سواء في أهميتها؛ حيث يرى ابن خلدون أنها «تتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفِيَة بمقصود الكلام»، وبناء على ذلك فإن علم النحو يعد هو العلم الأكثر أهمية بين هذه العلوم؛ «إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة؛ فيُعرف الفاعل من المفعول، والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجُهل أصل الإفادة» (انظر: المقدمة لابن خلدون: 3/1128).
ونظراً لتشعب الموضوع وتفرعه سأقتصر في هذه السلسلة على علاقة علم النحو ببعض علوم الشريعة. علم النحو.. تعريفه وأهميته: تعددت تعريفات علم النحو، وهي كلها تدور في فلك متقارب؛ حيث عرفه الجرجاني بأنه «علم بقوانين يعرف بها أحوال التراكيب العربية من الإعراب والبناء وغيرها. وقيل: علم بأصول يعرف بها صحيح الكلام وفساده» (التعريفات للجرجاني: 259، 260). وعرفه ابن حزم بأنه «معرفة تنقل هجاء اللفظ، وتنقل حركاته الذي يدل كل ذلك على اختلاف المعاني» (مراتب العلوم: 4/66)، وعرفه في سياق آخر بأنه «علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني» (الإحكام: 5/126).
بناء على التعريفات السابقة، فإن علم النحو هو قوانين وأصول لإفهام المعنى وتوصيله للمستقبل دون لبس أو إبهام؛ ومن هنا يأتي تعريف الإعراب - الذي يعد الوظيفة الأولى لعلم النحو - بأنه «الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ألا ترى أنَّكَ إذا سمعت «أكرمَ سعيدٌ أباه»، و«شكرَ سعيداً أبوه»؛ علمْتَ - برفعِ أحدهما ونصبِ الآخر - الفاعلَ من المفعول، ولو كان الكلام شرجاً واحداً؛ لاستبهمَ أحدُهما من صاحبِهِ» (الخصائص لابن جني: 1/35 )؛ فالإعراب فرع المعنى، واختلاف الإعراب وتعدد أوجهه دليل تعدد المعاني وتوالدها في الجملة الواحدة؛ يقول ابن جني: «ألا ترى أن موضوع الإعراب - على مخالفة بعضه من حيث كان - إنما جيء به دالاً على اختلاف المعاني» (الخصائص: 1/35). وجعل السكاكي الإعراب مرتبطاً في كل وجوهه بالمعنى وتعدده؛ حيث يقول: «إنَّ كلَّ واحدٍ من وجوه الإعراب دالٌّ على معنى، كما تشهد لذلك قوانينُ علمِ النحو» (مفتاح العلوم: 251).
ونظراً للعلاقة الوثيقة بين الإعراب والمعنى يؤكد ابن هشام أهمية مراعاة المُعرب للمعنى، وحذر من أن يطغى الاهتمام بالصنعة وظاهرها على المعنى ودلالات الجمل، وجعل ذلك مزلة للأقدام؛ حيث ذكر أنه من الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها أن يراعيَ ما يقتضيه ظاهرُ الصّناعة، ولا يراعي المعنى؛ إذ كثيراً ما تزلُّ الأقدام بسبب ذلك، وذكر أن أول واجب على المعرب أن يفهم معنى ما يعربه، مفرداً أو مركباً؛ ولهذا لا يجوز إعراب فواتح السور على القول بأنها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري: 684).
وساق عدة أمثلة مما يمكن أن يحدث فيه فساد في المعنى متى ما بُني فيه الإعراب على ظاهر اللفظ فقط، أكتفي منها بما ذكره حول الاضطراب الذي يمكن أن يحدث في فهم قول الله تعالى: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء (هود:87)؛ حيث قال: «فإنه يتبادر إلى الذهن عطف «أن نفعل» على «أن نترك»، وذلك باطل لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون، وإنما هو عطف على «ما»؛ فهو معمول للترك. والمعنى: أن نترك أن نفعل... فالعطف على «أن نترك»، وموجب الوهم المذكور أن المعرب يرى «أن» والفعل مرتين، وبينهما حرف العطف» (مغني اللبيب: 686). ويذكر ابن حزم أن الهدف من نشأة علم النحو - في الأصل - كان رفع الإشكال في فهم العلوم المختلفة؛ وهو ما يوضح علاقة علم النحو بالعلوم الأخرى، خاصة علوم الشريعة؛ حيث يقول: «لما فشا جهل الناس باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة العربية؛ وضع العلماء كتب النحو، فرفعوا إشكالاً عظيماً، وكان ذلك معيناً على الفهم لكلام الله عز وجل، وكلام نبيه ، وكان مَن جَهِل ذلك ناقص الفهم عن ربه تعالى؛ فكان هذا من فعل العلماء حسناً وموجباً لهم أجراً» (رسائل ابن حزم: 4/94، 95).
المصدر: مجلة المجتمع.