ثغرة في جدار الدعوة
خالد رُوشه
أزمة تربوية مؤثرة تواجه الدعاة والمربين دائما تقيدهم وتعيق عملهم ، وتؤثر على حركتهم إن لم ينتبهوا لها ويحاولوا أن يتفادوها , ألا وهي تعلقالمدعوين بهم وارتباط الناس بأشخاصهم .. بل والدوران في فلكهم .
فما حقيقة هذه الأزمة ، وما هي دوافعها وكيف يمكن التخلص منها ؟
إنها أزمة يعيشها كثير من الناس.. فمنهم من هو متأثر برجل معين ومعجب به ويقلده في أفكاره وتصوراته وتصرفاته , وهو في ذلك يتبعه في قراراته وميوله كما يتبعه في توجهاته وسلوكه .. بل قد يصل الحال به أن يتبعه في عداواته ومحباته , وولاءاته وبراءاته , مما يتسبب عنه مشكلات جمة ليس أقلها صورة التحزب المقيت لفرد مهما خالف الصواب أو صورة التصغير من شأن المخالف مهما كان خلافه معتبرا ..
روى أصحاب السير أنه قد قيل لخالد بن الوليد يوما بعد ما أسلم متأخرا - وهو الحري بعقله وفطنته أن يسارع للإسلام فور سماعه - قيل له " أين كان عقلك يا خالد فلم تر نور النبوة بين ظهرانيكم ؟ قال : كان أمامنا رجال كنا نرى أحلامهم كالجبال "
نعم فتأثره ببعض الشخصيات وتقليده لهم ألهاه عن رؤية الحق لفترة ليست بالقصيرة قد سبقه فيها آخرون من أصحابه ، وتلك آفة كل عقل أسلم قياده غيره بغير تدبر أو بصيرة ولو لفترة من الزمان ..
إنها الأزمة التي لازمت الدعاة ولابد لهم أن يفقهوها جيدا ثم يعملوا على أن يتخلصوا منها ويخلصوا أتباعهم من أسرها ..
كيف نفهم الموقف ؟
ولسنا نقصد من حديثنا هنا أن الارتباط بالدعاة والعلماء كله مذمة دائما وأنه مرفوض بالكلية , فإن ذلك التعلق أمر طبيعي يحدث بين قلوب المدعوين وشخصية الداعية الناجح ذي الشخصية الآسرة , فكل من عاصر نبيا وآمن به واتبعه تعلق قلبه بحبه وأعظم من تعلقت به القلوب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال أنس بن مالك " لما قدم علينا رسول الله المدينة أضاء منها كل شيء ، ولما مات أظلم منها كل شيء " , وقد تبارى الصحابة في إظهار هذا الحب لشخص النبي صلى الله عليه وسلم .
وقس على ذلك - ولا مقارنة - " قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكرنا أنفسنا "
وقد أدرك أبو بكر رضي الله عنه هذه النقطة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أن عمرا استل سيفه و أعلن أنه قاتل من يدعي وفاة النبي عليه السلام لكن أبا بكر رضي الله عنه كان قد أدرك أن الأمر لا يتعلق بشخص النبي إنما يتعلق بالإسلام فصعد المنبر وقال كلمته المشهورة : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا قوله تعالى :
" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين(144) آل عمران
كل الدعوات بدأت بشخص يدعو لفكرته، ومن تعلق الناس بذلك الشخص يقتنعون معه بفكرته وعلى قدر تأثيره في الناس تبلغ دعوته .. وليس في هذا ضرر
إنما الضرر والخطر يكون في استمرار التعلق به إذا خالف النهج الرباني الأصيل , والضرركذلك في التعصب له والتحزب على أفكاره , كما أن الضرر إذا تعلق به في الطاعة والمعصية فلا يطيع إلا بتقليده وإذا عصاه أو غفل قلده في عصيانه أو في غفلته ..!!
والواجب على الداعيةأن يخلص أتباعه من التعلق والارتباط به ونقلهم إلى مرحلة أخرى ألا وهي التعلق والارتباط بالمنهج الذي يحمله الداعية ، وقمة النجاح للداعية أن يتعلق الناس بمنهجه وتستمر الدعوة بعد رحيله أو سجنه أو حتى نكوصه عن دعوته ، وقمة فشل الداعية تكون في استمرار أتباعه في السير خلفه وإن خالف ما كان ينادي به أولا .
إن من أهم سمات هذه الدعوة الخالدة هو ارتباطها بالحي الذي لا يموت لا بالمخلوقين الفانين , بل إن كل مخلوق مهما بلغ مقامه هو مطالب أن يدعو ربه أن يثبت قلبه على الإيمان والتقى حيث كان سيد البشر صلى الله عليه وسلم يدعو " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" , إنها دعوة لله، وإلى الله، فهي ليست دعوة أرضية نفعية وليست دعوة لتمكين أشخاص مهما كانوا وقدموا لها، وقد أبان القرآن في عهد مبكر من عمر الدعوة أن هذا الدين لا يرتبط وجوده وقيامه بأشخاص حتى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن حظ الداعية من الدعوة إكرام الله له إن كان عمله خالصا صوابا، ومن تركها فقد حرم نفسه الخير الكبير , وبهذا يقضى على حظوظ النفس , وتسلم الدعوة وتبقى ولا تتأثر بموت فلان، أو انقطاع علان ..
إن الارتباط بالأشخاص والتعلق بهم دون ضابط وتقييد أدى إلى مشاكل كبيرة , و تراجعات أكثر في العمل الإسلامي ومن ذلك ظهور العصبيات الدينية والتحزبات التي تتحزب على قول عالم أو اجتهاده أو اختياره الفقهي أو الدعوى , ما دعي إلى فتح الباب للشيطان لينشىء العداوة و البغضاء بين أصحاب تلك التحزبات على الرغم من اتفاقهم على شتى الأصول وجميع المبادىء .. وللأسف فإننا قد وجدنا كثيرا من الفضلاء قد سقطوا في هذه الهوة السحيقة وصاروا طرفا في ذلك النزاع !!.
ومن ذلك أيضا أن تعود الناس انتظار الشخص الذي يدفعهم دائما للعمل وإذا هم فقدوه أو افتقدوه يضطرب عملهم بل وينقطع سبيلهم وكأنهم اقتنعوا بفكرة المخلص التي كانت سببا كبيرا في ضلال كثير من الفرق , وكذلك احتكامهم في الدين لسكوت شخص أو رضاه أو إقراره , وعدهم ذلك دليلا شرعيا على صحة الفعل أو السلوك ونسوا أن ذلك لا يمكن أن يعد دليلا شرعيا مهما كان ذلك الشخص الساكت أو المقر , وكذلك ومن أكثر ما يؤلم أن ينسى الأتباع الأخلاق الإسلامية والقيم الرفيعة العالية التي أمر بها الإسلام وسط زحمة الخلاف وعمى التعصب , فتراهم يغضبون ويتنازعون وربما يتصارعون ويقعون في كبائر الإثم والسوء كالغيبة والنميمة والسخرية وامتهان أهل العلم وربما ما هو أكثر ..!!
ما أصعب الفطام
علاقة الأتباع بالداعية في بداية الطريق أشبه بعلاقة الأطفال بمن تربيهم تماما ، وجودها الأمان من كل مكروه وفي غيابها الضياع والتيه , فلابد لكل مدعو من لحظة فطام ، وصاحب قرار الفطام هو الداعية الذي يحدد وقته وكيفيته . إنها لحظة صعبة عسيرة على النفس ، ليست على نفس المدعو فقط بل على نفس الداعية أصعب , حينما يقرر الداعية أن يتخلص من الهالة التي أحاطه أتباعه بها ، أن يتخلص من سيرهم خلف ركابه يلتمسون منه رأيا أو كلمة ، يتخلص من التصديق التام لكل ما يقول ، يتخلص من تقديس الأتباع برأيه واتهام مخالفه بالجهل أو سوء الأدب .
إنها لحظة فارقة أن يكون رأي الداعية عند أتباعه كرأي رجل منهم قابل للنقاش والنقد.. قابلا للموافقة - إن كان موافقا لمنهج اتفقوا عليه - أو قابلا للنقد والرفض لو خالف المنهج .
خطوات لازمة :
ويحتاج ذاك الموقف من الداعية إلى التجرد الشديد والإخلاص العظيم لمنهجه كما يحتاج إلى إنكار الذات ، فلا وجود للذات مع المنهج , تموت الذات وكل ذات ولا يمس المنهج بسوء . لحظة يسأل فيها الداعية ويحتاج إلى إجابة واضحة تماما لا لبس فيها على أسئلة ملحة: لماذا أفنيت عمري ؟ ولماذا أسهرت ليلي ؟ ولماذا كابدت كل هذه المشاق ؟هل من أجلالدعوة لمنهجي أم من أجل الدعوة لشخصي ؟ فإذا كانت الإجابة الأولى فيجب على كل داعية أن يخلص الناس من أسر هواه ويدخلهم في أسر لا فكاك منه للمنهج ، وليبذل كل جهده في إعلاء منهجه ووضع نفسه ، ليعلو عندهم المنهج فيكون حاكما لكل فعل أو قول ، وتخضع للمنهج كل الأقوال والأفعال حتى أقوال وأفعال الداعية المؤسس نفسه .
ويحتاج الداعية إلى التدرج الشديد مع التأكيد المستمر على أنه بشر يصيب ويخطئ وأنه ليس معصوما ، وعليه أن يكثر من ترديد الكلمات التي تربط أتباعه بمنهجهم وأنه تابع لهذا المنهج .
ولا يتشبث الداعية بقوله إن رده أحد عنه إلى منهجه ، فلا يلوى أعناق النصوص ليثبت صحة ما يقول.
ولا يكون همه غلبة منافسه بل يعلم الناس أن مبتغاه هو الحق مهما كان وأنه يود أن لو غلبه منافسه بالحق ويشرح لهم تطبيقيا معنى مقولة الشافعي : " ما ناظرت أحدا إلا دعوت الله أن يجري الحق على لسانه"
ولا يتأفف من قول : "أخطأت" في موطنها , فإن الاعتراف بالأخطاء مكرمة والإصرار على الخطأ بعدما تبين نذالة ودناءة خلق وحب للسمعة وداء خبيث في القلب منشؤه الكبر .
وكذلك لا يستنكف عن الاستماع إلى تلاميذه ويعلمهم أن الله قد يفتح على رجل بمسألة لا يفقهها من هو أعلم منه وأكبر.
وأخيرا على الداعية دوما أن يعلم الناس ويذكرهم دائما بأفعال الصالحين وأقوالهم ومبادئهم في هذا المجال , فيذكرهم :
بموقف { أبي بكر} يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " ,
وبقول { عمر بن الخطاب } حين عزل { خالدا بن الوليد } بغير عجز ولا خيانة "لأنزعن خالدا حتى يُعلم أن الله ينصر دينه " أي بغير خالد فلا تتعلق القلوب به . , وبموقف { أنس بن النضر} يوم أحد عند شائعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم " إن كان قد مات فقد بلغ ، قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله " ,
وبقول { ميمون بن مهران } لما قال له رجل " يا أبا أيوب ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم " فلم يفرح بذلك وينتفخ تعاظماً وكبرياءً بل قال " على شأنك ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم " ,
بقول { نور الدين محمود } قال له قائل " بالله لا تخاطر بنفسك فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف " فقال محمود " ومن محمود حتى يقال هذا حفظ الله الإسلام قبلي، لا إله إلا هو" ,
بقول { أبي حنيفة } إذا صح الحديث فهو مذهبي ,بقول { مالك } إنما أنا بشر أخطأ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه , و قال أيضا " ليس أحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم " , بقول { الشافعي لأحمد } " لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعية ولا الأوزاعية ولا الثورية ، وخذ من حيث أخذوا " , بقول أحمد " لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذلك فاطلبوا "
وهكذا إخواني على كل منا – دعاة ومدعوين – كلنا مطالبون بعدم الارتباط بأي شخص ، وليكن ارتباطنا بمنهجنا ، بديننا القويم , فمن سار على نهجه والتزم بأحكامه فله منا الحب والولاء ومن حاد عنه فلسنا معه ، نكون على الحق وندور معه حيث دار , ونعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال , ونحرص على أن نقتدي بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أسأل الله أن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
المصدر: متابعات.