ترتيب بيت المسلمين في الغرب من الداخل

المطلوب ميثاق مشترك للتعامل البيني بقواعد مشتركة رغم التعدّد الانتمائي

أثار الإعلان المفاجئ لكثير من الجهات الإسلامية في أوروبا عن ميثاق يصدر باسم المسلمين، بمشاركة عدد كبير من المنظمات والمؤسسات الإسلامية، وغياب عدد كبير أيضا.. أثار ضجّة كبيرة، لم تتناول المضمون وهو موضع التلاقي النسبي بين الجميع، من الحاضرين والغائبين أو المغيّبين، قدر ما تناولت أسلوب الإعداد للنص، ثم نشره، وإغفال مشورة جهات لها أهميتها ودورها في المواضيع التي يطرحها الميثاق.
وليس المطلوب هنا الحديث عن مضمون الميثاق والجهات التي أقدمت على نشره، أو الجهات التي انتقدت أسلوب طرحه، إنّما هو الحديث عن كيفية الخروج من معضلة تحويل إنجازات مهمّة في حاضر المسلمين في الغرب ومستقبلهم، إلى نقيض الهدف منها. وصحيح أنّ الميثاق يخصّ المسلمين في أوروبا، ولكن ما يسري عليهم يمكن أن يسري بنسبة عالية على المسلمين في القارة الأمريكية أيضا. 

 

تنوّع نسيج المسلمين في أوروبا
واقع تنظيمي دون مستوى الواجب

احتياجات مشتركة وغياب أرضية مشتركة
شروط المبادرة المطلوبة

تنوّع نسيج المسلمين في أوروبا

ليست الكتلة الكبرى من المسلمين في أوروبا كتلة متجانسة، وهذا أمر طبيعي، ونعلم بالمقابل أن الغرب لا يشكل كتلة متجانسة. ولا يقتصر ذلك على أمور دون أخرى، فعدم التجانس -في الحالتين- يشمل فيما يشمل:
1- الانتماءات من حيث الانتساب القومي للوافدين والمتجنّسين والمسلمين من ذوي الأصول الأوروبية، ومن حيث الجنسيات، سواء بالنسبة إلى المتجنّسين وأهل البلاد الأصليين من المسلمين، فكل فريق يحمل جنسية بلده الأوروبي، أو بالنسبة إلى جاليات الوافدين جنسيات بلدانهم الأصلية التي احتفظوا بها، وقد باتت نسبة هذه الجاليات متدنية بالمقارنة مع مجموع المسلمين في الغرب أو في أوروبا.
2- التنوع اللغوي والثقافي، فاختلاف الألسنة وما يرتبط بذلك ثقافيا يسري على المسلمين وسواهم في البلدان الأوروبية، وهو جزء من الظواهر الطبيعية في الحياة البشرية، فليس في ذلك ما يثير مشكلة فيما يتجاوز الجوانب العملية للتعامل.
3- تعدّد الطوائف والمذاهب، بين سنة وشيعة، ومذاهب متعددة تحت هذين العنوانين، إضافة إلى من يعتبرون أنفسهم من المسلمين بالولادة أو الانتماء إلى بلد إسلامي، ولكنهم يرفضون الإسلام جملة وتفصيلا، وليس تطبيقا فقط، بل يتخذون مواقف عدائية له، فالانتساب إليه رغم ذلك ينطوي على تناقض لا يخفى عقلا ومنطقا، ورغم ذلك يستغلّ بعض الجهات الرسمية هذا "الانتساب" لأغراض عديدة. والجدير بالذكر هنا أيضا، أن تعدّد المذاهب والطوائف بين المسلمين في أوروبا، لا يبلغ إلا معدّلا طفيفا لا يقارن بتعدّد المذاهب والطوائف بين غير المسلمين من السكان، إلى درجة العداء والتكفير المتبادل.
4- حركات شاذة، ومعيار الشذوذ هنا هو ثوابت العقيدة وما يعرف من الدين بالضرورة، وهنا يلتقي علماء المسلمين بغالبيتهم العظمى على أنّ الأخذ بما تدعو إليه تلك الحركات ينطوي على الخروج على الإسلام نفسه، وإن حملت اسمه، ولكن جهات رسمية عديدة تحرص على مطالبة المسلمين بتجاوز ما يقول به علماؤهم، وإدراج هذه الحركات تحت عنوان الإسلام، لتأخذ المواقف والتشريعات والأنظمة ذات العلاقة طريقها إلى الواقع على مثل هذا الأساس رغم الخلل الواضح فيه.
5- انتماءات تنظيمية، وهي من موروث حقبة قديمة، فطبيعة حركة الوافدين قبل جيل أو جيلين، انطوت على جلب كثير منهم انتماءاتٍ تنظيمية قائمة في البلدان الإسلامية الأصل، فبقيت لفترة طويلة تفعل فعلها في حياة المسلمين، وتفاعلهم مع مجتمعاتهم الأوروبية، ومع قضايا البلدان الإسلامية التي أتوا منها، وجميع ذلك بدأ ينحسر بوضوح، لغلبة نسبة جيل الشبيبة من مواليد أوروبا، ووصول الضغوط على الوجود الإسلامي إلى مستوىً حوّل قضية الاندماج من دعوة عامة إلى محور حيوي في حياة المسلمين والمجتمعات الأوروبية نفسها. 

واقع تنظيمي دون مستوى الواجب

رغم الضغوط الكبيرة لم تنشأ حتى الآن تنظيمات للمسلمين تتجاوز الانتماءات المذكورة، مع ملاحظة أنّ هذا لا يتطلّب بالضرورة التخلي عن الانتماءات، بل المقصود وجود أرضية وقواسم مشتركة لها، تسمح بالتعامل مع الاحتياجات الإسلامية المشتركة بصورة متوازنة. ورغم ظهور مؤسسات وهيئات أصبحت لها مكانتها المعتبرة، مثل المجلس الأوروبي الأعلى للإفتاء، فإن تشكيلها لا يحمل صفة "تنظيمية" جامعة للمسلمين، بل يملأ ثغرات بالغة الأهمية على أرض الواقع -كالإفتاء بما يتلاءم مع احتياجاتهم في البلدان الأوروبية- ومن الأصل لم يكن الغرض من إنشائها تجاوز المشكلات التنظيمية.
كما ظهرت اتحادات وتنظيمات جامعة لمنظمات الأصغر، مثل المجلس الأعلى للمسلمين في أوروبا، أو في ألمانيا، ولكنها بقيت في الحصيلة تنظيمات إلى جانب أخرى تماثلها، كما أنّها تشكلت من تنظيمات ومراكز قامت من قبل، وكان مفعول تعدد الانتماءات التنظيمية وغيرها غالبا عليها، فتسرّب مفعوله إلى التنظيمات الأكبر.
ونرصد منذ سنوات في إطار الدعوات المتبادلة إلى الاندماج كيف تتحرّك هذه التنظيمات، على المستوى الوطني، أو على المستوى الأوروبي المشترك، فتتناقض حصيلة تحركها مع بعضها بعضا، وتؤدّي إلى ظهور مزيد من الثغرات التي يستغلّها "فريق" من المسؤولين الأوروبيين، أو الأحزاب الأوروبية، ممّن لا يرغب في أن يمضي طريق الاندماج إلى تحقيق أهدافه الإيجابية، فيسعى لاستغلال التناقضات إمّا للتشكيك في تلك الدعوات، أو لضرب بعضها ببعضها الآخر، أو للتحريض اعتمادا على أسلوب انتقائي لما يصدر عنها، ويصلح لإثارة أصداء سلبية لدى "الآخر" في البلد الأوروبي المعني.
إن كثيرا من الإنجازات الإيجابية يتحوّل وفق ما سبق إلى عقبات وعراقيل إضافية على طريق تثبيت صيغ أفضل لوجود الإسلام والمسلمين في أوروبا، بما يحقق مصالحهم ولا يتناقض مع مصالح الدول الأوروبية نفسها.
من هنا يمكن التأكيد أنّ أحد المصادر الرئيسية للصعوبات التي يواجهها المسلمون في أوروبا إنّما يعود -دون تبرئة جهات عدائية أو مغرضة- إلى الواقع التنظيمي والاختلافات الانتمائية للمسلمين أنفسهم، وعدم نضوج العمل التنظيمي القائم إلى مستوى مناسب، بحيث تتجاوز التنظيمات المتعددة نفسها، وتنطلق من الاحتياجات المشتركة للإسلام والمسلمين، وليس من الاعتبارات الانتمائية المتعدّدة. 

احتياجات مشتركة وغياب أرضية مشتركة

المرحلة الراهنة لا تحتمل الانتظار طويلا، فالوجود البشري الإسلامي في أوروبا وجود كبير، والتركيز على مستقبل الإسلام والمسلمين أكبر من أي وقت مضى، والميادين التي ينبغي أن يكون للمسلمين فيها تصوّرات مستقبلية مشتركة ميادين متعدّدة، منها على سبيل المثال دون الحصر:
1- الأطفال المسلمون في المدارس، الذين يشكلون بسبب التطوّر السكاني المعروف نسبة أعلى من عموم نسبة المسلمين السكانية، ولم تعد قضايا تدريس الإسلام مطروحة على الهامش، بل أصبحت جزءا أساسيا من الاهتمامات الرسمية واهتمامات المسلمين.
2- الناشئة من المسلمين، الذين يعانون من البطالة (مثلا) بمعدلات أعلى من أقرانهم من غير المسلمين، ويحتاجون إلى رعاية أكبر أضعافا مضاعفة ممّا كان عليه الوضع قبل جيل أو جيلين، وعلى مختلف الأصعدة، كالإعداد المهني، والاحتياجات الاجتماعية، واستيعاب المعطيات القانونية، وحتى قواعد العمل السياسي، فضلا عن مواجهة المشكلات المنتشرة في الدول الغربية كالإدمان بأنواعه، وغير ذلك ممّا يمكن تحقيقه من خلال المنطلق الإسلامي في تحقيق هذه الأهداف، أكثر من أي منطلق آخر.
3- المسلمات في أوروبا، بدءا بسن الطفولة كما في مدارس فرنسا، وإلى سن متقدمة، يواجهن مشكلات مضاعفة، سواء من حيث استغلال أوضاعهن الاجتماعية والأسروية، أو من حيث مواجهة انتشار الصحوة بين الجيل الناشئ منهنّ أكثر مما مضى، ومن المعروف أن قسطا من هذه المشكلات بات يجد طريقه إلى التشريعات التقنينية، ممّا يضعهنّ أمام معضلات قانونية وليس معضلات اجتماعية فقط.
4- التشريعات الاستثنائية التي انتشرت في البلدان الغربية على حساب حقوق المسلمين إلى حدّ بعيد وحرياتهم، لا يمكن التعامل معها ومع آثارها من منطلق تنظيمات متفرقة، أو ظروف متباينة، أو آراء متعدّدة، فهي قضية جماعية بامتياز، وتحتاج إلى جهود جماعية منسقة، بما يتجاوز فئة المسلمين إلى من يتلاقى معهم من فئات المجتمع الأخرى.
5- المشكلات التقليدية الأخرى، أو التي أصبحت تقليدية، وهي من صميم الاحتياجات الخاصة بالمسلمين، كبناء المساجد والمصليات، ومراعاة العبادات والعطل.
جميع ذلك يبيّن أنّ الحاجة إلى أرضية وقواسم مشتركة حاجة ملحّة، وضرورة لها الأولوية على ما عداها، بل يمكن القول إنّها هي الأهمّ من الحاجة إلى مواثيق ومنطلقات مناسبة للتعامل مع الفئات الأخرى من المجتمعات ومع الجهات الرسمية في الدول الأوروبية، دون التهوين من شأنها، ولا يخفى أنّ أي جهد يبذل لهذا الغرض، لا يتحقق مفعوله على الوجه الأمثل، إذا بقي مفتقرا إلى أرضية مشتركة بين المسلمين، فهي ممّا تسري عليه قاعدة "ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب". 

شروط المبادرة المطلوبة

الدعوة إلى ميثاق للمسلمين في أوروبا (أو في الغرب) لا تتنافى مع الدعوة إلى ما يشابه ذلك مع غيرهم وفق المثال المذكور في بداية هذا الموضوع. والدعوة إلى ميثاق للمسلمين في أوروبا (أو في الغرب) لا تعني الدعوة إلى إذابة التعدّدية القائمة بحكم المعطيات والانتماءات المتعددة، فهذا طلب يتناقض مع الفطرة البشرية والواقع القائم، ولا توجد من الأصل حاجة إليه، مع عدم إنكار حق أحد في الدعوة إلى ما يراه حقا.
وليس المطلوب عبر الميثاق المرجو إنشاء تنظيم موحد جامع للمسلمين في أوروبا (أو في الغرب) جميعا، ولا ينفي ذلك أنّ وجود هيئة تنسيقية عليا هدف مستقبلي يستحقّ العمل من أجله، ولكنّ المطلوب هو الانطلاق من واقع قائم، للتوصل أوّلا إلى اتفاق على جملة من الأسس والقواعد للتعامل بين المسلمين، وتنظيماتهم، بما يراعي حقيقة تعدّدهم، والتعددية القائمة في المجتمعات الغربية، وما يحفظ من خلال ذلك حقوقهم وحرياتهم، ويساعد على تحقيق مطالبهم المشروعة من خلال اكتساب قوّة إضافية لها حين طرحها في هذا البلد أو ذاك أو على مستوى أوروبي أو غربي جامع.
إنّ الجهة التي يمكن أن تبادر إلى خطوة في هذا الاتجاه مطالَبة بمراعاة أن تكون دعوتها جامعة مدروسة، تتجنّب أخطاء سابقة، وتنطلق من الاعتبارات الضرورية للتلاقي على أسس وقواعد مشتركة، وليس من التصوّرات والتطلعات المتعددة الصادرة عن تعدّد الانتماءات في النسيج المشترك بين عامة المسلمين. وأوّل ما يفرضه ذلك:
1- الشمول، بمعنى شمول المبادرة الأولى لجميع التنظيمات والمؤسسات والهيئات ذات الصلة، التي تسري عليها صفة الانتماء إلى الإسلام دون استثناء.
2- طرح أهداف المبادرة طرحا يتجنّب وضع الطرف المدعو أمام صيغة نهائية للأسس المطلوبة والقواعد المشتركة للتعامل، ممّا يعني تفريغ النقاش حولها من مضمونه قبل أن يبدأ.
3- اقتصار الأهداف على "الجانب العملي" للأسس والقواعد المطلوبة، وتجنّب ما يمسّ تصوّرات الجهات الأخرى وما تعتبره من المسلّمات في إطار انتمائها الإسلامي.
4- التركيز على محور علاقات فئة المسلمين ببعضهم بعضا في المجتمعات الغربية التي يوجدون فيها، بغض النظر عن صلة بعضهم بسوى ذلك من القضايا ومواقفهم من قضايا الإسلام والمسلمين عالميا، فهذه مكفولة بطبيعة الحال دستوريا، كحقوق أساسية، لكل مواطن، سواء انطلق مَن يريد التعبير عن رأي أو موقف من اقتناعات سياسية أو اعتبارات إنسانية.
5- تجنّب الدعوة إلى ما بات يعرف بميثاق شرف للتعامل، وغالبا ما يقتصر على تحديد جملة من الأخلاقيات، يتفاوت الالتزام بها عند التطبيق العملي، فالمطلوب هو جوهر ما يمسّ العلاقات التطبيقية العملية، وهو ما يفرض صياغة واضحة للأسس التي تحدد طبيعة الأرضية الجامعة للمسلمين على تعدد انتماءاتهم، وصياغة واضحة لقواعد التعامل المطلوبة مثل واجب التشاور المسبق قبل الإقدام على خطوة تتجاوز آثارها الطرف الذي تصدر عنه، بحيث تكون الصياغة بحدّ ذاتها دافعا إلى الالتزام بالميثاق المرجو، انطلاقا من ظهور المصلحة الذاتية في أن يلتزم الجميع به.
6- تثبيت الغاية الأبعد لمثل هذا الميثاق للمسلمين في أوروبا (أو في الغرب) من حيث إيجاد تصوّرات مشتركة لضمان مستقبل أفضل لوجود الإسلام ووجود المسلمين في المجتمعات الغربية وتأثيرهم المشروع على صناعة القرار فيها في مختلف الميادين المشتركة بين السكان، فضلا عن تأثيرهم المفروض على صناعة القرار في الميادين المتعلّقة بهم أولا.
إنّ للتأخّر في أداء واجب من هذا القبيل عواقب وخيمة، ومهما كانت طبيعة النظرة إلى التصوّرات الذاتية والانتماءات الذاتية، فإنّ الحصيلة الناجمة عن بقاء الأولوية لها من دون وجود أرضية مشتركة، حصيلة تعود بالأضرار الجسيمة في نهاية المطاف، على المسلمين في الوقت الحاضر وأجيالهم القادمة دون تمييز بين تصوّراتهم وانتماءاتهم.

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك