إقصاء الإسلام
تجدّد دعوة مشبوهة في مرحلة خطيرة
نبيل شبيب
مَن يطرح هذه الأيام مطلب إقصاء الإسلام عن السياسة، بل وعن المناهج التربيوية والتعليمية والثقافية وغيرها، ويعتبر ذلك مطلبا جديرا بأن تتضافر على تحقيقه الجهود، ومخرجا ممّا نحن فيه من انهيار على كلّ صعيد، إنّما يتحدّث بلغةٍ أكل عليها القرن الميلادي العشرون وشرب، ولم يخلّف سوى النكبات والتخلّف في كل ميدان من الميادين.
مطلب شاذّ غريب بمعنى الكلمة، ومن المفروض أن يعلم أصحابه بذلك إذا ألقوا حولهم نظرة موضوعية منصفة، إذ ما الذي يريدون إبعاده، بعد أن أصبح غير موجود في صناعة القرار منطلقا أو هدفا أو وسيلة، أو تأثيرا إلاّ باستثناءات محدودة؟..
إقصاء ما سبق إقصاؤه! - ما صنعت السياسة دون الإسلام - أرضية الاستبداد وتغييب الإسلام - دعوة تجاوزها الواقع - الإسلام المطلوب
إنّ صناعة القرار في بلادنا العربية والإسلامية إجمالا، لا تنطلق منذ عشرات السنين من الإسلام كما أنزله الله، ولا تراعي جلّ أحكامه ومقاصده التشريعية ووسائله التوجيهية في الميادين السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمالية، ولا تضع مناهج تنبثق عنها، لحفظ الحقوق والحريات، ولتكافؤ الفرص والمساواة، ولطلب العلم والبحث، ولتأمين العمل والعمال ومصادر الرزق، ولبناء الأخلاق مع النهوض، وصيانة الأسرة والمجتمع، ولتكريم الإنسان، جنس الإنسان.
حتى عندما يُطرح موضوع مراجعة القوانين ومدى تطابقها أو تناقضها مع الشريعة الإسلامية، كان ذلك وما يزال يتحوّل إلى معارك نيابية وشبه نيابية، وهمية وحقيقية، طويلة الأمد، ضعيفة النتائج، بل كثيرا ما تحارب المناهج المتغرّبة الموضوعة والمفروضة الإسلامَ حربا معلنة أو مستترة، وتساهم في العمل على إقصائه عبر الحرص على إبراز صور منحرفة مستهجنة أو ناقصة ضارّة، تضع لها عنوان "الإسلام" زورا، ولا تتفق مع ثوابته الكبرى، لا سيّما عندما يؤخذ بعض جزئيات الإسلام، كما في قطاع العقوبات، فيفرض تطبيقها دون توفير الشروط المحكمة المرتبطة بها تشريعا، وبوسائل تستدعي التنفير من الإسلام لا الترغيب فيه والالتزام به، فتتحوّل "مزاعم التطبيق" في كثير من الأحيان إلى أدوات للإقصاء، بعيدا عمّا يحقّقه الإسلام الشامل المتكامل المتوازن، والوسطي القائم على الحق والعدل والإحسان والخير، للفرد والمجتمع وللأسرة البشرية بما يحقّق تحرّرها وتقدّمها.
دعوة شاذة يلقى بها وسط ما ينتشر من الكتابات والكلمات في المرحلة الراهنة من تاريخنا المنكوب بإقصاء الإسلام عن واقعنا، فالجميع يبحث عن مخرج ممّا نحن فيه، وإذا بمثل تلك الدعوات العتيقة، تتحدّث وكأنّ ما نحن فيه ناجم عن الإسلام والالتزام به في السياسات المتبعة من جانب الحكومات والأحزاب، وفي توجيه قضايانا الكبيرة والصغيرة.
أين هو الإسلام الذي يراد إقصاؤه من سياسات التبعية الأجنبية، لشرق انهار أو غرب يعربد، ومن سياسات الرضوخ المهين لهيمنة أمريكية، في المجالات العسكرية والأمنية، الاقتصادية والمالية، وحتى كثير من جوانب حياتنا الفكرية والاجتماعية والأدبية والثقافية؟..
أين هو الإسلام الذي يراد إقصاؤه من سياسات التخاذل والتراجع والتسليم مرحلة بعد مرحلة، ونكبة بعد نكبة، أمام الهجمة الصهيونية الشرسة؟..
أم كان الالتزام بالإسلام هو الذي أوصل صانعي القرار إلى محطات كامب ديفيد ومدريد وأوسلو، وما قبلها وما بينها وما بعدها، وإلى محطات الهبوط بقضية فلسطين المحورية المصيرية، من قضية مشتركة كبرى، إلى قضية قومية اشتراكية، فإلى قضية دولٍ مجابهة وأخرى مساندة، لتصل أخيرا إلى حضيض نشهده، يسمّونه صراعا إسرائيليا-فلسطينيا، تسيل فيه الدماء، ومشاريع شرق أوسطية، تقوم على الأشلاء، فلا تتحرّك "السياسات" التي أقصي الإسلام عنها، إلا بمقدار ما يساهم في خنق المقاومة، وفتح أبواب "التطبيع" بين المغتصب والضحية؟..
لقد سبق وبُذلت جهود كبرى، خارجية وداخلية، محورها تلك الدعوة لإقصاء الإسلام عن السياسة وعن كثير من جوانب الحياة، الفردية والجماعية، في معظم بلادنا العربية والإسلامية أو جميعها، ليس لأنّ الإسلام "عقبة" في وجه التحرّر والوحدة والتقدّم، بل لأنه هو "العقبة الأكبر" في وجه ترسيخ أهداف الطعنات الموجّهة إلى تحرّرنا ووحدتنا وتقدّمنا.
بُذلت جهود كبرى في حقبةٍ معيّنة، كان أبرز ما فيها أنّ السياسات التي أقصت الإسلام، سياسات مفروضة فرضا، عبر أنظمة استبدادية، متعدّدة الأشكال والمسمّيات، لم تبق في السلطة إلاّ من خلال قهر إرادة الشعوب، وفرض وصايات عليها، بما يشمل صناعة قرارها السياسي وغير السياسي، حتى أصبح منطلق صناعة القرار ومرجعيّته في التشريع والتقنين، ما هو معروف من "حالات الطوارئ"، وقد أصبحت تمثل أوضاعا موبوءة مزمنة، فضلا عن أوضاع تسري فيها ممارسات لا تختلف بجوهرها عن ممارسات حالات الطوارئ "الرسمية" إلاّ قليلا، فلم يعد يظهر الإسلام في ميادين صناعة المناهج والبرامج التربيوية والتعليمية والثقافية والفنية والإعلامية، إلاّ فيما يتمرّد تمرّدا على السياسات المفروضة وعلى قهرها، على مستوى الفرد.. لا الدولة فقط، وداخل الأسرة.. وليس في الحكومات فحسب، وعن طريق المدارس ووسائل الإعلام ومراكز الفكر والثقافة والفنّ والأدب.. وليس عن طريق المؤسسات والشركات والدوائر الرسمية وشبه الرسمية وحدها، وباتت تُعطى الأولوية لكلّ ما يشذّ عن الإسلام ويتهجّم عليه باسم حرية الإبداع، فأصبح الالتزام بالإسلام يتّخذ صور التحدّي لإقصائه وليس التعبير عن الأخذ به، والدليل على أنّ تلك الدعوة المشبوهة لا يمكن أن تجد مكانا لها إلاّ مع البندقية والسجّان، وليس عبر إرادة الشعوب ووجدان الأمة.
ما هو إذن مضمون الدعوات المتجدّدة الآن تحت عنوان "إقصاء الإسلام"؟..
هل يراد بها المضي خطوات أبعد وأخطر بأساليب القهر تماشيا مع الحملة العدوانية الخارجية الشرسة ضدّ الأمّة تحت عنوان "تبديل مناهجها"؟..
هل يتصوّر أصحاب تلك الدعوة إمكانية هدم وجود الإسلام داخل الصدور والعقول، للقضاء على الأمل المتبقي من وراء إيقاد شعلة الصمود والمقاومة ضدّ الهجمات العسكرية وغير العسكرية التي وصلت إلى مرحلة تقويض البنية الهيكلية للأمة؟.
هل هي المشاركة في توجيه الضربات الراهنة للأمّة بمختلف تيّاراتها وفئاتها شعوبا وحكومات وسائر ما بقي من ارتباطات بحضارتها التاريخية وتطلّعاتها المستقبلية؟. أليست هي خنجرا مسموما يواكب مفعول السهام الصهيوأمريكية؟..
أمّا أن يزعم أصحاب هذه الدعوة أنّ إقصاء الإسلام هو المخرج من الأزمات الراهنة فزعم يتناقض مع كل منطق.
إنّ أزمة الإنسان الفرد حرمانا، وأزمة الحريات والحقوق انتهاكا، وأزمة الأوضاع العلمية والتقنية والاقتصادية تخلّفا وتأخّرا، وأنظمة النكبات والكوارث وانهيار البقية الباقية من الأمن المشترك تمزّقا وفرقة وتبعية أجنبية.. جميع هذه الأزمات، كانت من نتائج إقصاء الإسلام، وفي حقبة تغييبه، فمن يزيد في الدعوة إلى ذلك، إنما يضيف بلاءً إلى البلاء القائم المستشري، وسيّان ما هو المعتقد الذي ينتمي إليه أيّ إنسان في بلادنا، يبقى من المفروض منطقيا أن يقول، إنّ هذه البلاد التي اكتسبت وجودها عبر ارتباطها العقدي أو الحضاري بالإسلام قرونا عديدة من الزمن، ثم فقدت وجودها بين الأمم لعقود عديدة بعد تغييبه، تحتاج أوّل ما تحتاج إليه، دينا ومنهجا لمن يعتنقه، أو منهجا لمن عاش في ظل حضارته ويحرص على مستقبل بلاده.
ويبرز مدى شذوذ تلك الدعوة المشبوهة وتجدّدها في هذا الوقت بالذات، عندما نتأمّل في بعض الحقائق المشهودة:
1- المنصفون في التيار القومي الذين شهدوا نتائج مرحلة سابقة تخلّى فيها أسلافهم عن الدين الإسلامي أو ناصبوه العداء، يدعون اليوم إلى فكر قومي لا يعادي الإسلام، ويسعى للتعايش مع تيّار الدعوة إليه وإلى تمكينه في الحياة والحكم، ويتلاقون مع الإسلاميين على هذه الأرضية.
2- العلمانيّون في أوروبا الذين يتحرّكون على طريق توحيدها وتوسيع الاتحاد الأوروبي ليصلوا به إلى مستوى قوّة دولية فاعلة، تثبت وجودها عالميا، لا يحاولون أن يعطوا مسيرتهم أيّ صيغة من الصيغ التي تناصب الدين العداء، أو تمارس تجاهه أسلوب الإقصاء، بل تبقى لديهم الأرضية "الحضارية" الدينية، ملزمة روحا، أو روحا ونصا.
3- الموجة الجديدة لمسيرة الهيمنة الأمريكية عالميا تستغلّ أوّل ما تستغلّ الدين بصورة خاصة، فيما يسمّى "المسيحية-الصهيونية" لتبرير تحرّكها، وإعطائه قوة دافعة، بعد أن وصل أساطين هذه الحركة الدينية إلى مفاصل صناعة القرار السياسي والعسكري والاقتصادي والإعلامي داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
4- الكيان الإسرائيلي الذي يزعم لنفسه "العلمانية" في مواطن، ويتمسّك بيهوديته وفق التفسيرات الصهيونية لليهودية، كان وما يزال يستغلّ عنصر الدين من قبل نشأته إلى يومنا هذا، ويسعى لفرض نفسه إقليميا وعالميا.
إلاّ المسلمون.. ومن يعيش في بلادهم معهم في وطن مشترك، المطلوب منهم "إقصاء الإسلام"، وكأنّه لم يوصل العرب والمسلمين إلى مشارق الارض ومغاربها من قبل، أو كأنّ تغييبه لم ينحدر بهم إلى حضيض الخارطة الدولية المعاصرة، أو كأنّه لم يكن هو حاضنة الحضارة البشرية على امتداد القرون، أو كأنّ تغييبه لم يجعل بلاده تنحدر بنفسها إلى مؤخّرة ركب الحضارة البشرية.
هذا مع ما هو معروف عن الفارق الكبير بين دعوات تحمل عنوانا دينيا ما وبين الإسلام، على صعيد الحريّات والحقوق، والعمل والإنتاج، وطلب العلم وتطبيقه، والأسرة واستقرارها، ومبادئ العدالة والشورى، وآداب السلم والحرب والتعامل الدولي.
ومن الغريب المستهجن في تلك الدعوة، محاولة تعزيزها بالنظرية القائلة إنّ الدين أمر شخصي بين الإنسان وربّه، وكأنّ باستطاعة الإنسان السوي أن يعيش منفصم الشخصية، رغما عنه، فلا يكون لإيمانه بالله وصفاته واليوم الآخر وحسابه ولالتزامه بأخلاق دينه وقيمه، أثر مباشر على سلوكه اليومي في تعامله مع بني وطنه، حاكما أو محكوما، ومع بقية البشر، مسالما أو معاديا، وبالتالي على صناعة القرار الذي يشارك في صناعته في أيّ موقع كان داخل نطاق مجتمعه.
إنّ صناعة الإنسان الفرد على وجه التخصيص، هي المدخل الأهم من سواه للخروج من أزماتنا المتراكمة فوق بعضها بعضا، وليس مثل الإسلام منهج يصنع:
1- مواطنا سويا.. في ممارسة واجباته والدفاع عن حقوقه.
2- ومفكّرا سويا.. يساهم في بناء مجتمعه.
3- وحاكما سويا.. يجعل العدل والشورى منهجه ومحاسبة الشعب له قانونا يضبطه.
4- ومجتمعا سويا.. يعلم أفراده وتعلم فئاته المتعددة، أنّ طريق التقدّم هو طريق العلم والإنجاز، لا الاستهلاك والاستيراد، وأنّ طريق الأمن والسلام هو بالقوة الذاتية لا التبعيات الأجنبية.
إنّ كلّ مَن يدعو إلى إقصاء الإسلام بدلا من المطالبة بالتزامه بعد إقصائه، إنّما يدعو بذلك إلى مزيد من الكوارث في بلادنا على كل صعيد، ولهذا يتلاقى مضمون هذه الدعوة في هذه الأيام، مع جوهر ما تعمل له الحملة الصهيوأمريكية، للتخلّص من البقية الباقية من أثر الإسلام على صناعة الإنسان، في البلدان العربية والإسلامية.
على أنّ الإسلام الذي يضع حدّا للكوارث هو الإسلام كما أنزله الله، لا الذي تزيّفه الأهواء من مختلف المواقع، وهو الذي تتكامل جوانبه العقدية والخلقية والعملية، على أسس متينة من الوسطية التي تأبى التنطّع والتطرّف كما تأبى التزييف والتسييب، وتجعل من استقامة الفرد حاكما ومحكوما العمود الفقري لبناء المجتمع والدولة على كل صعيد. وذاك هو الإسلام الذي يجب أن ندعو إليه ما استطعنا، والذي نتطلّع أن يكون جيل الصحوة من الشبيبة هم حملة لوائه لتحقيق الخير في بلادنا وعالمنا وعصرنا.. والله غالب على أمره والعاقبة للمتقين.
المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...