هل نختار حلاً ديمقراطيّاً أم دينيّاً؟

بقلم عبد اللطيف الخياط

ألحّ مرة أخرى على الموضوع الذي يشغل بالي كثيراً من أجل الفترة القريبة القادمة، بعد سقوط هذا النظام الفاسد الغاشم، وكلّ ما يشغل بالي هو ضمن صفوف الإسلاميّين. إنّ بعض الإسلاميّين وأنا منهم يريدون دخول العالم الحديث دون فقدان شيء من دينهم، وإنّما بفهم جديد وأبجديّة جديدة حول مفهوم الشورى والعلاقة مع بعضنا بعضاً ضمن الصفوف الإسلاميّة والتنوّع الكبير في التوجّهات الإسلاميّة، وفي علاقاتنا مع الآخرين من غير المسلمين. سنحتاج هنا لقرارات مهمّة لا على الصعيد النظريّ فحسب، بل في السؤال الحاسم حول نوعية الحياة السياسيّة الجديدة التي سنواجهها بعد أمد قريب.

كنت أحضر مجلس الأستاذ علي الطنطاوي كثيراً، وكان التوجّه عند العلماء هو عموماً أنّ كلمات مثل حقوق الإنسان والديمقراطيّة هي لعب بالعقيدة، لأنّ مكان كلّ إنسان، مسلماً وغير مسلم، رجل وامرأة، يحدده الشرع الذي أوحاه الله تعالى، وليس للبشر أن يتحدّوه، وإلا كانت عقيدتهم زائغة. وأذكر يوماً أننا كنّا في مجلس الأستاذ علي الطنطاوي، وكنت أزوره كثيراً، فقال أحد الشباب من عائلة الأستاذ الطنطاوي: لماذا يصوّر علماؤنا الأمر أن علينا أحد خيارين فقط، إما الشريعة بصورتها التي كانت عليها في أيام الأمويين والعباسيين أو المبدأ الديمقراطي بمعنى إزاحة الشريعة؟ إنّ قبول المبدأ الديمقراطي بمعناه الإسلاميّ المنفتح لا يعني سوى قبول سماع كلّ فرد، وإيصال صوت كلّ فرد، وحقّ كلّ فرد في أن يختار من يشاء ويرشّح نفسه أو غيره لأيّ منصب. أليس هذا أفضل من الحكم الذي ساد منذ أيام الأمويين وهو أقرب إلى حكم الفرد وحكم الاستبداد؟ صحيح أنّ الديمقراطية الإسلاميّة تعني أنّنا لن نصوّت لصالح تحليل الحرام أو تحريم الحلال أو شيئاً من الشرك، ولكن لا تعني الديمقراطيّة أنّ بإمكان المتدين أن يمنع غير المسلم أن يمارس حياته كما يشاء طالما أنّه لا يتعرّض لغيره بالأذى، هذا حقّ للمسلم وغير المسلم. كلّ فليمارس عقيدته وما يشاء من عبادة بدون خوف أو تهديد. وحتى ضمن الفئات التي تريد أن تبقى تحت مظلّة الإسلام، كالعلوي والدرزي والإسماعيلي، فليعتقد المرء منهم ما يشاء وليمارس من حياته الدينية ما يشاء، طالما أنه لا يعتدي على غيره، ولا يعتدي على حريّته وحياته.

لا بأس أن بعض المتديّنين يريدون أن يبقى على خطى الأقدمين تماماً، يريدون النصّ كما هو، ولكن على  شرط أن يدرك أنّ من يريد فهماً على ضوء معطيات العالم الحديث، دون أن يتزعزع إيمانه وعقيدته، فإنّ فهم هذا الآخر محترم، ولا حاجة أن نتّهمه أنه خرج عن دائرة المتقين. منذ أول يوم في الإسلام كان هناك من يريد فهماً نصّياً حرفيّاً ومن يريد فهماً مقاصديّاً واقعيّاً. وقد قام عمر بن الخطّاب بخطوات مذهلة من الفهم الواقعي للنصوص، وكانوا يعلمون جميعاً أنّه ما فعلها إلا حرصاً على أن يكون الإسلام للحياة الواقعية الملموسة، وأنّنا في كلّ خطوة لا نجعل الإسلام مناسباً لواقع البشر فقد أسأنا للإسلام نفسه، وحينما نقول "مناسباً لواقع البشر" فلا يعني هذا أن يكون الإسلام على هوى البشر، فلا نحلّ الخمر ولا الميسر ولا الربا، ولا نحلّ ترك الصلاة ولا الزكاة. لا أحد منا يريد اللعب بالدين. ولكن لا بدّ أن يتسع صدرنا لفهم الآخر، فالقضية الآن صارت قضية مصيرية.

نحن الآن نخرج من عهد الاستبداد والطغيان والقمع والدكتاتورية، فلا نريد أن نفرض أنفسنا وكأنّنا صوت الله. لا ليس أحد منا صوت الله. أنا مؤمن بالله، مؤمن برسوله صلّى الله عليه وسلّم، مؤمن بكل حرف من كتابه وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. ولكن لا حقّ لي إلا أن أعبّر عن عقيدتي ومبادئي، وحينما يكون لي تصويت فإنّني أصوّت لصالح ما هو خير للأمّة، دون أن أصوّت لما فيه مصادمة لأمر الله الواضح. وفي أسوأ الأحوال حينما يكون هناك اتجاه قويّ يخالف الدين ولا أستطيع أن أعبر عما يخالفه، فإنّني أصمت ريثما تسنح فرصة مناسبة. أمّا أن أخالف مبدأ المساواة بين المواطنين، ومبدأ حرّيّة الرأي حريّة كاملة، طبعاً بدون ألفاظ مشينة بذيئة، وأما أن أفرض على المرأة أن تلبس الزيّ الذي أفضّله، فلا حقّ لي في ذلك.

طبعاً شعبنا أكثره يريد حياة طيّبة متوازنة وأخلاقيّة، ولن يقبل بأن يمشي الناس عراة أو شبه عراة، ومن ناحية ما يشربون فقد رأينا الولايات المتحدة بدون دافع ديني تفرض منع الخمور لمدة حوالي إحدى عشرة سنة في عقد العشرينات من القرن العشرين، ونرى الآن أوربا تفرض قوانين تحريم الدخان في أكثر الأماكن، ويتّجه الأوربيّون بدون قسر من أحد إلى الابتعاد عن الخمور بنسب مدهشة حتى في فرنسا أشهر بلد للخمور. فحينما يكون شعبنا على مستوى طيب من الوعي والفهم فإنّه سيقترب من الإسلام أكثر فأكثر، ونحن نعلم من الآن، وقد أثبتت لنا المظاهرات المدهشة كل يوم وكل جمعة، أن شعبنا يقوم على قاعدة صلبة من الكتاب وسنّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

فيا إخوتي لا تفرضوا على الناس فهمكم الخاصّ، ولا تخافوا من أن تكون الحرّيّة كاملة والمساواة كاملة، فهذا من صالح الإسلام.

ورغم المساواة الكاملة فلا ينفي هذا أن نحفظ للمرأة حياتها التي تناسبها، وأن تصدر تشريعات تيسر حياة المرأة كامرأة، وتيسّر حياة المسيحيّ كمسيحيّ، وتيسر لكلّ فئة حياتها التي تحبها وتقتنع بها.

لا بدّ من أن ننتقل نقلة كاملة إلى الحياة الحديثة والسياسة الحديثة، والحكم المدنيّ التعدّدي الديمقراطي، حياة حقّ البشر في حرّيتهم الكاملة، وفي جو من الاحترام، ليسمعنا أيّ شخص صوته إذا أحبّ، وإذا قال أحدهم أنا أريد أن أكون في منصب كذا، ولو كان أعلى المناصب، فليطرح نفسه على الأمّة، وهي تختار. أما تعلّمتم من شوارع كلّ بلدة في سورية في هذه الشهور الخمسة، أنّ الأمّة هي صاحبة الحقّ؟ فأيّ مخالفة للإسلام في هذا؟ طبعاً سيختار الناس أن يقتربوا من التديّن كل بحسب مشربه وبيئته وثقافته وعلاقاته، فهل علينا أن نفرض غير هذا؟ وقد أثبت لكم الإسلام من أقصى الأرض إلى أقصاها أنّه أقوى صوت في العالم، فلماذا هذا الخوف على الإسلام؟ لا تضيعوا في كلمة، فما كان يسمّى حكماً إسلاميّاً منذ ما بعد الخلفاء الراشدين ليس أقرب إلى الإسلام من الدول الحالية التي يتوفّر فيها مقدار جيد من العدل في مختلف مناطق العالم، وحيث يستطيع أصغر فرد أن يقاضي أكبر رأس في البلاد، وحيث الشفافيّة في القضاء، وحيث لا يمنع أحد من الكلام والتجمع والحديث والكتابة. لا ريب أنّ كثيراً من الغش والدعاية الخادعة موجود في كلّ البلاد الديمقراطيّة، ولكنّ هذه  الدول توفّر مقداراً كبيراً من الحريّة والمساواة في كثير من النواحي، وهو ما تسعى إليه الدول العربيّة التي استيقظت هذا العام. ولا ريب أنّه برغم الحكم الفردي في العصور الإسلاميّة السابقة فقد كان هناك علماء شجعان صادقون أتقياء ينطقون بالحقّ. كلّ هذا شيء صحيح. ولكن الماضي ماضِ، ليس مطلوباً منّا أن نرجع الحياة الأمويّة ولا العباسيّة ولا العثمانيّة. وإنّما المطلوب مبادئ الإسلام، مبادئ العدل وحقوق كلّ الفئات بإنصاف واحترام، وعلى ضوء فهم التاريخ والعالم الماضي والحاضر. هذا في نظري هو الأقرب إلى رضا الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. ومن كان على غير هذا الرأي فلا أريد أن أتّهمه بشيء، وأرجوه هو بدوره ألا يظنّ أنّني أبتعد عن دين اللّه أو أنّني لا أبالي بحكم الله.

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك