العرب و الحداثة

يعتبر د, محمد سبيلا، المولود عام 1943 بمدينة الدار البيضاء المغربية، من الوجوه الفلسفية و الفكرية المرموقة في العالم العربي، ليس فقط لغزارة كتاباته و تنوعها، بل لكونه أحد أعلام الفكر الحداثي العربي. درس الفلسفة الحديثة و المعاصرة بجامعة فاس و جامعة الرباط و هو رئيس الجمعية الفلسفية المغربية و مدير تحرير مجلة: "مدارات فلسفية" و مسؤول عن سلسلة: دفاتر فلسفية:. من مؤلفاته الأساسية: "الترعات الأصولية والحداثة"، المغرب في مواجهة الحداثة"، الحداثة و ما بعد الحداثة".
ليس من الضروري التعريف أكثر بالدكتور المغربي محمد سبيلا، لأن صدى فكره و تحليلاته قد جابت العالم العربي من الشرق إلى الغرب، سواء على شكل دراسات ي مختلف المنابر العربية أو على شكل كتب متخصصة أو محاضرات و ندوات في مختلف الكليات و الجامعات من المحيط إلى الخليج. ما يجب التذكير به هو أنه من طينة أولائك المفكرين العرب الذي يعملون في هدوء و تروٍ من أجل غد عربي منير. فلم يعودنا لا على شطحات فلسفية و لا على رقصات فكرية، بل على نصوص من النار والبارود تنير ساحتنا الفكرية و تطعمها يوما بعد يوم بما هو حديث. والميزة الأساسية لفكر سبيلا هو أنه بقي وفيا للفكر و البحث العلمي الرزين، و لم يسقط في الشباك التي تنصب للكثير من مثقفينا، ألا و هي مغادرة عالم البحث للوقوع في عالم الترويج لمدرسة بعينها أو لاتجاه في حد ذاته. والتعامل الحذر مع مختلف التيارات الفكرية هو، في نظرنا، أهم ميزة لطريقة طرح سبيلا قضاياه و أطروحاته.
لا داعي للتذكير كذلك بمختلف مؤلفاته و اجتهاداته الفلسفية من أجل بناء فلسفة عربية معاصرة نقدية ـ متنورة، بل ما يجب الإشارة إليه هو إيمانه بالحوار سواء الداخلي أو القطري أو الأممي و هو من بين مؤسسي "مركز حوار الحضارات و الثقافات" بالأكاديمية العالمية للفلسفة بإمارة الليكتنشطاين. يجوب العالم العربي و الدول الغربية في إطار مشاريع حوار على شكل محاضرات و مناظرات و أيام دراسية.
س: د. سبيلا، تزورون العالم الجرماني لأول مرة. ما هو الانطباع الذي خلفته هذه الزيارة لديكم؟(1)
ج: لا شك أن للعالم الجرماني سمات تميزه ضمن العالم اللاتيني والأنجلوساكسوني، سواء من الناحية الاجتماعية أو الثقافية و ذلك داخل الفضاء الواحد الذي تشكله الثقافة الغربية ذات الجذور الإغريقية الرومانية.فالعالم الجرماني ذو ملامح بروتستانتية واضحة، و البروتستانتية المشار إليها هنا ليس فقط تلك النحلة الدينية المتمردة على البيروقراطية الكاثوليكية منذ أطروحات مارتن لوثر، بل الأرضية الثقافية التي ولدتها هذه الثورة الدينية و المتمثلة ي "عبادة العمل" باعتباره شكلا من أشكال نيل رضى الخالق، و كذا الإتقان، و الجدية في العمل. صحيح أن المظاهر الزهدية التي حللها ماكس فيبر، و التي اعتبرها أساس تحقيق التراكم الرأسماليين لم تعد قائمة. فالقيم و السلوكات الاستهلاكية التي تفرضها الرأسمالية الحالية بقسط من العنف اللذيذ على كل فرد أصبحت حاسمة. ولكن هناك تبذير كما هو الأمر عند الفئات الميسورة و الميسرة في مجتمعنا.
نعم كان العالم الجرماني في القرنين الثامن و التاسع عشر متأخرا بالقياس إلى انجلترا و فرنسا، و هو التأخر الذي شهد به ماركس مشيرا أكثر من مرة إلى أن الفلسفة  المثالية الألمانية هي من جهة تعبير عن هذا التأخر ومن جهة ثانية تعويض عنه، و محاولة لاستدراكه عبر الفكر. فالمثالية الألمانية هي بالنسبة لماركس الرد الألماني الخاص على الثورة السياسية في فرنسا، و الثورة الصناعية في إنجلترا. و ستستدرك ألمانيا "تأخرها" التاريخي هذا مع بداية القرن الحالي. إلا أن هذا الاستدراك التاريخي ظل مصحوبا بعنف قوي شهدت عليه الحرب العالمية الأولى و الحرب العالمية الثانية. إذ لم يكبح جماح إرادة التفوق الألمانية القوية التي غمرت أوربا ابتداء من أول القرن على الهزيمة التي لحقت بالترعة العسكرية و العرقية الألمانية التي مثلتها النازية إلا تحالف دولي عريض شمل أمريكا و أوربا ومستلحقاتها المستعمرة.
الآن تعود ألمانيا إلى رشدها بعد أن ضمدت جراحها و رأبت صدعها بتحطيم جدار العار في برلين. و هي اليوم تخطو في جميع الميادين خطوات عملاقة جارة معها فضاءها التاريخي المتمثل في النمسا و سويسرا
س: اقتصرنا في علاقتنا بالآخر، و أعني هنا الغرب الأوروبي، على الجناح الفرانكفوني و الأنجلوساكسوني، و لم نهتم بالدول الناطقة بالألمانية إلا من خلال الترجمات الفرنسية أو الإنجليزية، ماذا يمكن للجناح الجرماني إضافته لنا لفهم أحسن للآخر؟
ج: خسارتنا من زاوية الفكر خسارة لا تعوض. ذلك أن أسس الفكر الفلسفي و العلم الإنساني الحديث كلها جرمانوفونية، لدرجة تسمح بالقول بأن الفكر الأوربي، وبخاصة الإنجليزي و الفرنسي هو في جزء كبير منه تحشية وشرح و تأويل وحوار مع الفكر الألماني. فقد سجلت ألمانيا تفوقها الفكري منذ مطلع العصور الحديثة والمعلم الضخم لهذا الفكر هو نسق كانط الذي لم يكف عن إمداد الفكر الحديث و تغذيته لدرجة أنه خلال كل 50 سنة تظهر مدرسة كنطية جديدة، آخرها المدرسة الفرنسية الشابة التي يتزعمها لوك فيري و التي ترفع اليوم شعار لها "العودة إلى كنط".
أسس الفكر الحديث كلها ألمانية: الكنطية ـ الهيجلية ـ النتشوية ـ الفرويدية ـ الماركسية الهيدجرية ـ الوضعية المنطقية.
الفكر الأوربي الحديث ألماني في عمقه و في أصوله.
تجربتنا العربية المحدودة أثبتت أننا عانينا من نقص لا يعوض، خاصة بعد أن اكتشفنا أن الفكر الفلسفي الفرنسي الحديث و المعاصر هو حوار مع الفكر الفلسفي الألماني: كنطية فرنسية، و هيجلية فرنسية (كوجيق هييوليت) و ماركسية فرنسية (ألتوسير) و نيتشوية فرنسية (دولوز) وهيدجرية فرنسية (ديريدا سارتر) و فينومينولوجيا فرنسية (ميرلو بونتي) و فرويدية فرنسية (لاكان).. فلكل مكر فرنسي شيخه الألماني.
و السبب في وجود هذه "الثغرة السوداء" في الفكر العربي المعاصر ليس هو فقط نوع الاستعمار، بل أن النخب السياسية و الثقافية التي تولت دفة السلطة في جل الدول العربية هي نخب نشأت ثقافيا في كنف ثقافة و لغة الدول الأوروبية المسيطرة. هذا ناهيك عن غياب استرتيجيات ثقافية بسبب سيطرة الصراع السياسي من أجل السلطة و من أجل الكسب و الامتلاك على كافة الاهتمامات الأخرى. لذلك ظل المجال الثقافي الفكري في سياسات الدول العربية المستقلة هامشيا و ثانويا إلى حد كبير مع استثناءات قليلة كما حدث في مصر قبل الثورة. و لهذا فإن علينا أن ندفع الثمن باهضا اليوم بالانفتاح على الفكر الألماني الذي هو فكر عميق و دقيق في المجال الذي أعرفه أكثر من غيره: مجال الفلسفة و العلوم الإنسانية.
س: إنكم من بين الفلاسفة العرب القليلين الذين اهتموا بالحداثة، و هنا في الغرب من يتحدث عن ما بعد الحداثة و آخرون، كالفيلسوف الألماني لوبا Luebbe ، ممن يؤكدون على أننا مازلنا لم نتجاوز الحداثة بعد، أين نحن إذن في العالم العربي من الحداثة أو ما بعد الحداثة؟
ج: أتاحت لي هذه الفرصة القصيرة التعرف عن كثب على بعض الكتابات و الأسماء التي لم تترجم لحد الآن إلى الفرنسية ذاتها ـ التي هي لحد الآن العين التي نطل بها على العالم الجرماني ـ مثل كتابات لوبا النقدية للمجتمع التكنولوجي المعاصر وإرادته الحديدية، و كتابات سايفرت في مجالات فلسفية متنوعة من زاوية الفينومينولوجيا الواقعية التي تزدهر اليوم بشكل واسع، الفلسفة السياسية عند كشلر و غيرهم...و المنظور الفينومينولوجي عند راينر تورنهير.
و قد بدا لي من خلال الشذرات التي ترجمت لي، و من خلال الحوارات المتميزة التي تتفضل بإجرائها مع أبرز الوجوه الفلسفية في العالم الجرماني أن الفكر الجرماني بعافية و حيوية على طريق رواده الكبار. صحيح أن ظاهرة هيدجر لم تكرر لحد الآن، لكن النشاط الفكري و الفلسفي خاصة لم يعد نشاطا مستقطبا، فهو الآن موزع بين العديد من الجامعات و مراكز البحث و الدراسة. وهمه اليوم هو الحوار مع العالم الأنجلوساكسوني أكثر من أي هم آخر. نعم يشكو العديد من المثقفين الألمان من غياب مدرسة استعرابية أو استشراقية قوية و من غياب حوار ثقافي عربي ألماني. ولكن لابد من الإشارة إلى بعض المنارات الاستشراقية الحية اليوم في الثقافة الألمانية: آن ماري شميل و المستشرقون قون آيس الذي أنجز الآن عملا استشراقيا لا يضاهي أي ما لا يقل عن ست مجلدات ضخمة في دراسة الفكر العربي الإسلامي، باعتباره إيديولوجيا يعبر عن تطور المجتمع العربي الإسلامي نفسه. و قد كان الأستاذ محمد أركون هو أول من نبه الباحثين العرب إلى وجود هذه المعلمة الفكرية الضخمة التي لم تترجم بهذا إلى أية لغة أوروبية أخرى و بالأحرى إلى العربية.
أعود إلى سؤالك حول الحداثة لأقول بأن إشكالية الحداثة و ما بعد الحداثة ما تزال تشكل صلب النقاش الفلسفي الألماني. نفحن نعلم أن تحليل ميتافزيقا الحداثة قد شغل الفكر الألماني منذ نيتشه و هيجل، و ماركس إلى وهيدجر و هابرماس.
فهذا الأخير يدافع عن الحداثة باعتبارها مشروعا واعدا لم يقدم كل إمكاناته، و لم يكتمل بعد ردا بذلك على اليسار الفكري الفرنسي الذي يعطي العطلة للحداثة و يبشر بما بعد الحداثة. و في هذا الإطار نتدرج كتابات Lubbe ، الذي يرى أن بعد الحداثة ليس إلا لحظة من لحظات الحداثة نفسها. إنه نفس النقاس الذي شهدته ألمانيا منذ القرن الحالي حول الحداثة والتقنية، و الذي أسهم فيه بونغر و تسنجلر و هوسرل وهيدجر.
و هذا النقاش يفيدنا في الساحة الثقافية العربية بسبب الانزلاقات التي تحدث نحو ما بعد الحداثة معبرة عن سوء فهم و سوء هضم، بالإضافة إلى إختلالات الذاكرة التاريخية و الخلط المتسرع بين الحقب
س: اعتنيتم عناية خاصة بالأيديولوجيا في جميع جوانبها، و قد تحدث المرء عن نهاية الإيديولوجيا، ألا يجب أن نفهم مصطلح النهاية هذا في المعنى اللاتيني للكلمة، بعني La fin ، أي الغاية؟
ج: في المرحلة السابقة اهتممت بموضوع الإيديولوجيا، و سرعان ما قذف بي هذا الموضوع إلى الموضوع الأثير لدي الآن: موضوع الحداثة و الذي يبدو أنه يستجمع روح و كافة اهتماماتي الفكرية السابقة. ما العمل؟ إن المرء في مجال الفكر ينتقل من فتنة إلى أخرى. و قد وجدت ضالتي في التفكير في الحداثة. لكن الإيديولوجيا لم تغرب أبدا عن ذهني فأنا أتابع هذا الموضوع لكن من زاوية أخرى هي علاقتها بالحداثة.
و هذه العلاقة هي التي ستمكنني من محاولة الإجابة على سؤالك. تتميز العصور الحديثة بطغيان عقلانية صورية و بعقل أداتي يلغي كل القيم والغائبات الكبرى القديمة. المجتمع الحديث مجتمع ناف بمعنى أنه ينفي ويلغي القيم القديمة الروحية و المعنوية، و يحل محلها قيما مادية و آلية وتنظيمية. المجتمع الحديث، و خاصة في الغرب، يحل الاهتمام بالجسم محل الاهتمام بالروح أو بالنفس؛ و يحل العلاقات الاقتصادية محل علاقات القرابة، و قيم الحساب الأناني  الفردي محل قيم التواد و التعاضد و التدافؤ الكلاسيكية؛ يحل العائلة النووية المشذبة محل العائلة التتقليدية الممتدة والحاضنة. إضافة إلى تحولات أخرى مماثلة على كافة الأصعدة. و هذه التحولات تولد الحاجة إلى مثال. إلى معتقد. فالأشكال السلعية و الضمنية لملئ الحاجة إلى الاعتقاد لا تكفي إنها تملأ لكنها لا تشبع. لذلك تظل الحاجات الإيديولوجية في الاعتقاد حاجات قوية. إلا أن العصر الحديث، في الغرب، أحل الإيديولوجية الدهرية، الدنيوية (النزعات المادية المختلفة، الاشتراكية الرأسمالية ذاتها، الديمقراطية..) محل المنظومات الروحية المتعالية مستبدلا بالمقدس الديني مقدسات دنيوية مشتتة
فالذي يحصل إذن هو الانتقال من إيديولوجيا أخرى و ليس من "أل" إيديولوجيا عامة إلى اللإيديولوجيا. موت الاشتراكية يعني الانتقال إلى الليبرالية كإيديولوجيا أو إلى الإسلام السياسي أو إلى حركات التطرف المسيحية و اليهودية التي يختلط فيها ما هو ديني و روحي بما هو دنيوي ومادي. و هذا هو ما يبرر فكرتك بأن مفهوم La fin ، هو الغاية و ليس النهاية. إن الإيديولوجيا فعلا غاية و حاجة تاريخية ضرورية و ليست نشازا. و يجب ألا تظلنا الفكرة الجنائزية القائلة بنهاية الإيديولوجيا (التي هي جزء من إيديولوجيا النهايات: نهاية التاريخ، نهاية المقدس، نهاية الإنسان...) فالإيديولوجيا لحد الآن، و لغاية التاريخ المنظور، هي اللحمة الأساسية للمجتمعات الحديثة لأنها تقدم لها رؤية، و أخلاقا و معنى للحياة وللتاريخ هي في حاجة ماسة إليه بسبب نضوب المعاني في العالم المعاصر. الإيديولوجيا سواء كانت دهرا نية المنابع أو روحانية المشارب هي الهواء الأساسي للأفراد و المجموعات والمجتمعات في هذا العصر الشاحب.
س: لقد تحدث المرء كثيرا عن الديمقراطية في العالم الثالث، ألا ترون أن هذا المصطلح قد أصبح، و خاصة في العالم العربي، ذلك المرق الذي يصلح لكل الأطباق. بمعنى أية ديمقراطية نتحدث عنها؟
ج: إن الديمقراطية العربية و الجنوبية عموما بحكم المآل الذي آلت إليه، حيث ثم استغلالها و توحيلها (تمريغها بالوحل) و استثمارها كإيديولوجيا وشعار أحيانا، وكأداة لترويض النخب السياسية و الثقافية المتمردة والرافضة (كما حدث في المغرب)، أو حتى كأقنوم سحري يعد بملئ الأرض عدلا بعد أن امتلأت جورا، هي ديمقراطية الواجهة و التضليل. وهذا ما يولد انطباعا لدى الفاعل السياسي و الملاحظ بأنها ديمقراطية ضد الديمقراطية...ديمقراطية مغشوشة، مزيفة مسفيتة (بلغة ياسين الحافظ)، بل يخيل إليه أحيانا و أنها جزء من مؤامرة واسعة لاستلام السلطة باسم الشعب... الخ هذا صحيح.
لكن الوجه الآخر لهذه الجدلية الخفية هو أن الديمقراطية هي القطعة الذهبية للحداثة السياسية. إنها الآلة السياسية أو التكنولوجيا السياسية القادرة على تحويل أساليب الحكم و علاقة السلطة بالمواطن من إطارها التقليدي القبلي، أو العرقي، أو الولاء الثقافي، إلى أسلوب حكم عصري يقوم على المحاسبة، و المراقبة، و الانتخاب، و التمثيلية التحتية، و التعاقد، والدستور والانتخاب الحر، و حرية الرأي و الانخراط…ألخ. إن الديمقراطية هي الأداة العصرية للانتقال من الشرعية الفوقية التقليدية إلى الشرعية التحتية الحديثة التي تمكن من محاسبة ومراقبة الحاكمين باعتبارهم بشرا خطاءين غير معصومين.
أكيد أن المجتمعات المتأخرة تاريخيا، و منها مجتمعنا، لا يمكن أن تقفز إلى الديمقراطية بين عشية و ضحاها. الديمقراطية جزء من تحول ثقافي عام. فإذا لم يحدث هذا التحول فإن الديمقراطية تظل بمثابة نبتة برية غريبة تدخل في تفاعلات و صراعات و خلائط مع النظام التقليدي. و هذا المزيج الغريب ينفر من الديمقراطية، و يحشوها بالممارسات الانتهازية وأشكال البزنسة و الانتفاع و المحسوبية. إن انقشاع الضباب الديمقراطي يتطلب نضالا، وصبرا، و تحولات فكرية و مؤسسية طويلة المدى لينجلي الصبح الديمقراطي ناصعا أبلج.
و العهدة في ذلك على النخب السياسية أولا و الثقافية ثانيا في اتجاه تحويل الديمقراطية إلى أداة للتطور الاجتماعي الحق، و لتصبح أداة تعبر بها الجماهير عن مطامحها و عن حقوقها لا مجرد شعارات تلاك وتستعمل لاستغلالها و الحكم باسمها. و هنا يأتي دور الأحزاب العصرية، باعتبارها مبدئيا: أشكالا تنظيمية حديثة تمثل الإرادة العامة للمجتمع و تعبر عن طموح شعوبنا نحو حكم نفسها بنفسها من خلال مؤسسات منتخبة بكل شفافية و حرية. و هذا يتطلب من هذه الأحزاب أن تمارس ديمقراطية داخلية، و أن تجدد هيئاتها باستمرار، و أن تفتح صفحات جرائدها للحوار والنقاش العمومي الحر حول مشاكل المجتمع. أما أن تظل الأحزاب بمثابة قلاع بيروقراطية و مسخا ديمقراطيا مشوها.
لذلك أعتقد أنه لا يجب أن نترك العفونة الديمقراطية و أشكال التلوث السياسي تنفرنا من الديمقراطية التي هي اليوم خشبة نجاة المجتمعات المعاصرة ووسيلة إخراجها من الاستبداد السياسي.
س: من اكتشافات الشاعر العربي الراحل قباني، تغمده الله بمليار رحمة، في السنوات الأخيرة من عمره هناك عبارة "المهرولون" التي قصد بها الأنظمة العربية التي عانقت الصهيونية بعد "معاهدة" أسلو؛ و قد لاحظت أنا كمفكر مغربي مهاجر كيف "هرول" مثقفو أحزابنا السياسية للاعتلاء على كرسي وزارة من الوزارات. ماذا يفقد المثقف عندما يصبح إداريا؟
ج: المثقف ليس ملاكا. إنه إنسان ذو حاجات و رغبات و طموحات. والسلطة تعرف جيدا ذلك. و تاريخنا العربي الإسلامي مليء بأشكال ترويض و تركيع و تجويع المثقفين و العلماء ليصطفوا على أبواب الأمير طالبين كسرة خبز، أو رغيفا، أو حتى عطفا و رحمة، أو منتظرين كلمة: زه..أعطه دينار…
تاريخنا طافح بهذه الجدلية: تجويع و مساومة و اختبار للصمود. و العصر الاستهلاكي الذي نعيشه يطرح تحديات أكبر على المثقف الذي يراد له أن يركع و يسبح بحمد السادة أولياء الأمر. في هذه الجدلية الصعبة يصمد البعض، و ينبطح البعض الآخر. و أشكال مقاومة المثقف و امتلاكه للحس النقدي لم تمكن بعد مجتمعاتنا من فئة مثقفة بالمعنى الحديث أي انتلجنسيا، لأن السلطة تقمعها و تساومها و المجتمع لا يحميها.
لكن مع ذلك هناك نويات صمود مقاومة نأمل أن تتطور. "المثقف" الرسمي أو السلطوي هو شخص تخلى عن دوره التاريخي، لكن المثقف الحزبي هو صورة أخرى للمثقف الرسمي أو المخزني، لأنه يخصي حاسة النقد، و يحل الولاء الإيديولوجي و الحزبي محل الحوار العقلاني. و بمجرد أن يتخلى المثقف عن حسه النقدي فإنه يخرج نفسه من دائرة المثقف ليصبح بوقا للحزب أو السلطة.
أن يكون المرء مثقف و نقديا في السياق العربي فهذا أمر يتطلب بطولة روحية كبرى يتعين الإشادة بمن استطاع أن يمتلكها اليوم.
س: من المصطلحات السياسية التي طغت على أدبيات ساستنا في المغرب في السنين الأخيرة هناك مصطلح تناوب. على أي شيء يجب التناوب: مصالح الشعب أو المصالح الشخصية؟
ج: هناك فعلا مخاض و صراع سياسي من أجل تحقيق التناوب أي الانتقال من حكم أحزاب السلطة إلى حكم الأحزاب المحذرة من الحركة الوطنية.
و من الأكيد أن تجربة التناوب الحالية لا تمثل البديل المثالي المطلوب. لكنه تناوب إرادي ومراد و ليس تناوبا أفرزته صناديق الاقتراع غير الشفافة على الرغم من طينتها الزجاجية. إنه تناوب جزئي و تحالف. أضف إلى ذلك أنه يمثل طيف ألوان سياسي متعدد يمتد من اليمين إلى الوسط إلى اليسار (7 تشكيلات سياسية).
لكنه لا يخلو مع ذلك من كونه تحريكا للسواكن السياسية. و خروجا عن قاعدة عرفها المغرب من إعلان استقلاله السياسي و هي أن السلطة هي التي تختار و تصنع الأحزاب التي تحكم.
إن التناوب الحالي حركة سياسية، بمعنى أنه خطورة تغير عادات اللعب السياسي المعروفة، و تفسح المجال لإرادات سياسية أخرى، و لطموحات أخرى، و ترفع الحظر عن الهيئات التي كان من المحظور عليها، بحكم مواقفها المعروفة في الصراع السياسي، أن تدلف باب الحكم.
و من زاوية أخرى فهذه التجربة الاختيارية، باعتبارها الإستراتيجية الداخلية و الخارجية، امتداد لتجربة ترويض المعارضة في المجالس التمثيلية و المحلية، و اختبار و لاءاتها، في اتجاه إقرار المصالحة النهائية مع ماض سياسي دام جثم بثقله على المغرب منذ السنوات الأولى من الاستقلال.
إن التناوب الحالي واقعة شائكة، واقعة تتضمن رهانا و اختبارات آنية نأمل أن تمكن بلدنا من أن يلج العصر الديمقراطي ولوجا كاملا لا ولوجا جزئيا خجولا. و الحكم النهائي عليه يكون من خلال تطوراته و نتائجه و نجاحه في تحقيق الرهانات المعقودة عليه. نعم إن المثقف المتغرب يعيش صراعا و موقف حرجا لأنه يعيش ديمقراطية حقيقية يشاهدها في الشارع، في الصحيفة، في المؤسسة، في المدرسة، في العلاقات بين الناس، في مضمونية الحقوق، وشفافية العلاقات السياسية، لكنه بحكم كبدته على بلده، يميل إلى معايرة الديمقراطية المغربية بمعايير الديمقراطية الغربية، و هذا ما يحز ي نفسه و يدفعه إلى اتخاذ مواقف صارمة أحيانا. لكن ما العمل؟ إن وتيرة تطور التاريخ في كل سياق وتيرة مختلفة. تاريخ بطيء من جهة، ديمقراطية هجينة، بهلوانيات سياسية مقابل تاريخ ساخن متحرك في إطار ديمقراطية سليمة و عقلانية سياسية ترسخت مع التاريخ.
س: لقد التحقت الحكومة المغربية الحالية بالحكم في ظروف أقل ما يقال أنها جد صعبة: مديونية خارجية لم يسبق لها مثيل، مشاكل اجتماعية بالجملة، عدم توازنات تحتية عسيرة ألخ. و قد علق الشعب المغربي على هذه الحكومة آمالا عظاما، ماذا يجب على الحكومة الحالية القيام به للخروج من عنق الزجاجة؟
ج: من الأكيد أن التجربة الحكومية الحالية تمثل التقاء إرادة السلطة بإرادة بعض الأحزاب في إنهاء تراث من الصراع و الاقتتال السياسي دام أربعين سنة، و ذلك في أفق محاولة إعداد المغرب للدخول الناجح في عالم القرن الواحد العشرين، و ذلك إذا حللنا الأمور من منظور حسن النية. هذا رهان على مستوى النيات، في اتجاه إعداد جيد للبيت المغربي الداخلي لمواجهة رهانات القرن القادم.
لكن منطق الواقع غير منطق النيات و الأماني. فالواقع تحكمه حتميات اقتصادية وديموغرافية و مالية و سياسية كبيرة. هناك مديونية ضخمة، وبطالة متفشية، و عدم قدرة المجتمع على استدماج أبنائه في نسيج الحياة الاجتماعية عن طريق التشغيل. هناك مشاكل الأمية، و الفقر، و بقايا الأساليب السلطوية القديمة و تزايد ديموغرافي مهول، و أزمة مدرسة، وأزمة لغة المتمع، و تفاوت طبقي جاد، و محسوبية، و رشوة، و تقاليد سلطوية عريقة. و المعارضة التي غامرت بالدخول في تجربة "التناوب" في هذه الظروف الصعبة والعسيرة تعرف ذلك لأنها كانت تنتقده من موقع العارف. و حتى و إن تعللت أحيانا بأنها لم تكن تقدر خطورة المشاكل وصعوبة الرهان فهذا لا يعفيها أبدا من المسؤولية.
و الظاهر أن الخطورة السياسية تتطلب قسطا من المغامرة و الشجاعة. فالسياسة، كالمقاولة الرأسمالية، تتطلب روح المغامرة وقوة الإرادة، و لماذا لا "حسن النية".
من المؤكد أن الأداء السياسي للمعارضة يتوقف على مدى وضوح رؤيتها السياسية، و على مدى صلابة و سلامة أطرها، و على قدرتها على التقاط نبض الجماهير و الإصغاء لهمس التاريخ، و على ممارسة النقد الذاتي والمحاسبة الذاتية و الديمقراطية الداخلية.
و قد يكون من السالف لأوانه، إصدار حكم قاطع على هذه التجربة التي نرصدها، و أيدينا على قلوبنا، لأنها تشكل منعطفا تاريخيا أساسيا كبيرا، ولأن فشلها سيوقع المغرب في نكسات و تكو صات و انزلاقات لا يعرف مداها إلا الله تعالى. هذه التجربة تعلق عليها آمال و أحلام كثيرة، والمؤشرات الأولية المتضاربة، و الهفوات الصغيرة المتناثرة لا يمكن أن تفش بالون الحلم الكبير المعقود عليها.
س: إن المثقف العربي، في منظوري الخاص، لابد له، إذا كان يريد أن يكتب له التاريخ وليس أن يكتب عليه، أن يبقى حكما، بما أن مسؤوليته الأساسية هي نقد الانحرافات، و لا يدخل في الحلبة السياسية، بما أن اللعبة السياسية عندما لا تزال في طور اللعب و لم تصل بعد إلى طور اعتبارها مسؤولة، ما هو نظركم في هذا؟
ج: المثقف العربي ممزق بين رسالته وواقعه. الرسالة تدعوه إلى أن يظل حكما، و ضميرا، و منارا، و بوثقة نقد، و الواقع يجره إلى الانحياز والاستفادة و إكراء الحنك و الحلق لمراكز القوى الاقتصادية و السياسية التي تساومه.أداؤه للرسالة يعرضه للقمع، و التهميش، والترك، و قلة ذات اليد، وانضباطه يعرضه للتبويق، و التبويس، و قلة المصداقية. فأين المفر؟
يعيش المثقف العربي الحديث وضعا شقيا، ووعيا شقيا. فهو يشعر بأنه يمتلك امتياز المعرفة و امتياز الوعي، و ميزة الثقافة، أي يشعر بالتميز في مجتمع تسوده الأمية، أمية الحرف وأمية الفكر، لكنه يعيش واقعا اجتماعيا دونيا وواقعا سياسيا دونيا حيث يرى أن المناصب تسند بالولاءات لا بالكفاءات، و أن المعيار الثقافي في إسناد المسؤوليات، لا يدخل في الاعتبار. بل يشعر بأن السياسة لا تسند إلى الثقافة، و أن الساياسي يحتقر المثقف و يود تسخيره و استغلال وضعيته الدونية. العلاقة بين الثقافة والسياسية غير سالكة في المجتمعات العربية. هناك توتر بين الطرفين بل نوع من التنافي و التنابذ.
السياسة العربية شأن خاص من اختصاص الحاكم، و ليست شأنا عموميا يخضع لنقاش عمومي تساهم فيه نصب و مكاتب دراسات، و مختصون وتقنيون. السياسة العربية هي سر الأسرار و قدس الأقداس لا يقر بها إلا الحاكم وذووه.
الأساس السياسي للعلاقة المتوترة بين الثقافة و السياسة، بين المثقف والسياسي هو أن المسألة السياسية شأن خاص و ليست عموميا تسهم النخب (و أساسا النخبة الثقافية) في توجيه صنعه.
إمبريالية السياسية هي الأساس الوجودي لدونية الثقافة و المثقف في مجتمعاتنا.
هل هناك بصيص أمل في التغيير؟ لا أدري؟
س: لقد عاينتم في جولتكم الجرمانية هذه عن كثب حالة المهاجرين المغاربة، ما هي الرسالة Le message ، أو النداء L’appel الذي توجهونه في المغرب و للمسؤولين المغاربة فيما يتعلق بهذا الموضوع؟
ج: المهاجر مغترب و متغرب و غريب، هو كالسمكة التي تعيش في ماء آخر أو فضاء غير فضائها. و بما أن الهجرة نوعان: هجرة أياد و هجرة عقول، فإن النوع الأول و هو الأكثر عددا، يعاني من نوع من الاغتراب الثقافي. و المؤسف هو أن الدولة، تنظر إلى المهاجر على أنه "صفقة اقتصادية" و مصدر دخل ترجع أهميته إلى كونه يشكل بندا أساسيا في ميزانية الدولة تحت باب "مداخيل العمال المهاجرين". بل إن الدولة تتباهى بأن "مداخيل" عمالنا(في الخارج) تعادل أحيانا مداخيل السياحة. و معنى ذلك طغيان النظرة الاقتصادية، بل الميركانتيلية لمشكل الهجرة؛ بينما المشكل في الأصل مشكل اجتماعي يعود إلى عجز المجتمع المصدر عن تشغيل أبنائه و استدماجهم في نسيجه. فالهجرة في أصلها تهجير واصل الغربة تغريب يعود لقياس في النهاية بمقاييس نصيب مساهمتها في ميزانية الدولة ودورها في استجلاب و مراكمة العملة الصعبة.
مشكل الهجرة بالنسبة للدولة مشكل تهجير، أو اغتراب أو عذاب أو محنة، بل إن الهجرة =العملة الصعبة. و هل هناك ما هو أغلى من العملة الصعبة؟
س: لقد ازداد عدد المثقفين المغاربة في الدول الغربية أكثر من أي وقت مضى، و في كل التخصصات تقريبا. كيف يمكن للوطن الأم الاستفادة من تجربة و خبرة أبنائه في المهجر من أجل المساهمة في بناء مغرب جديد؟
ج: ابتداء من الستينات بدأ المغرب في تصدير ما سمي آنذاك باللحوم البشرية، و منذ حوالي العشر سنوات بدأت الأطر و العقول المغربية في الهجرة على ديار الغربة. في المرحلة الأولى كانت الهجرة السنجابية تتجه إلى فرنسا ثم اتسعت لتشمل أمريكا و العالم الجرماني.
و لا شك أن الهجرة السنجابية تشرف بلدنا و تظهر كفاءاته و عبقرياته. وهذا ما يطرح على مجتمعنا و على الدولة مسؤولية عقد الصلة بهذه العقول و التنسيق المستمر معها للإفادة من خبرتها و لتشجيعها على العطاء العلمي و الثقافي.
س: تتواجدون لأول مرة بالدول الناطقة بالألمانية. ما هو أهم شيء أثار انتباهكم هنا؟(2)
ج: المثير للانتباه في هذا العالم هو طبيعته الرائعة، الخضراء، المدرار. كلما انتقل المرء من جنوب القارة إلى شمالها إلا و لاحظ الفروق الطبيعية الواضحة من الصحاري القائلة إلى الأشجار الباسقة، و الثلوج الناصعة، والمياه المترقرقة،و البحيرات الضخمة التي هي بمثابة بحار صغيرة مزروعة وسط القارة تقوض لسكانها عن المحيطات.
الميزة الثانية هي الاستقرار و النظام. فكل شيء منظم في هذه المجتمعات تنظيما دقيقا ابتداء من الآليات السياسية للحكم إلى كيفية تنظيم طريقة جمع النفايات و إعادة تصنيعها. و التنظيم المقصود هنا ليس فقط التنظيم الخارجي، الاقتصادي و التقني، بل تنظيم المجتمع نفسه بحيث يحقق لنفسه التوازن المنشود. فهذا المجتمع ينظم طريقة تناسله بحيث لا تعوم نسبة الولادات على نسبة الوفيات، و بالتالي التحكم في مشكل البطالة، و التحكم في عملية التوازي بين التطور الاقتصادي و التوالد الاجتماعي بما يحمي هذا المجتمع من المشاكل المتولدة عن الطفح الديموغرافي. و كذا تنظيم البيئة بطريقة تحمي البلاد من التلوث، فهناك إجراءات وقائية حادة في هذا الباب استعمال بدائل من المحروقات في وسائل النقل العامة و الخاصة لا تولد تلوثا كبيرا، التشجيع على استعمال المعمم للدراجات. و فكريا تعرف الثقافة الجرمانية بعمقها الميتافيزيقي و العقلاني في نفس الوقت، و لعل مرد ذلك إلى البنية الخاصة للغة الألمانية و تراثها الروحي و العقلاني الثري.
س: ألا تعتقدون أن الحاجة قد أصبحت ماسة في الوطن العربي للاعتناء أكثر بالعالم الجرماني في مشروع إكمال معرفتنا للآخر من أجل أخذ موقف موضوعي و عقلاني اتجاه ما يروجه في مجتمعاتنا؟
ج: هناك اليوم ضرورة للاهتمام بالوجه الجرماني للثقافة الغربية لسبب بسيط هو أن الثقافة لجرمانية هي أم الثقافة الغربية في العصر الحديث فقد خرجت من رحمها كل التيارات الفلسفية و التقنية و العلماإنسانية المنتشرة اليوم في الغرب.
هل هناك نظير لكنط أو هيجل أو نيتشه أو ماركس أو فرويد أو هيدجر، أو هابرماس في الفكر الفرنسي أو الإنجليزي؟ إن اللغة الألمانية لغة ذات عمق فكري كبير. و هناك اليوم محاولات لتطويرها و تخفيف أسلحتها النحوية والإملائية و الصرفية الثقيلة بغية تكييفها مع متطلبات عصر السرعة والخفة و الثقافة الجماهيرية السطحية، لكن مع ذلك تظل الثقافة الجرمانية واللغة الألمانية التي تشكل صلب هذه الثقافة شيئا متميزا على كل الأصعدة.
و نحن في المغرب و في العالم العربي عامة نحتاج لضرورة إشراع النوافذ على كل مكونات الثقافة الغربية المكون الأنجلوساكسوني، و المكون الفرنسي و المكون الألماني؟ و المكون الأوراسي، فأية نهضة ثقافية أو فكرية لا تتحقق إلا بانفتاح على الآخر و معرفة اجتهاداته الفكرية في مختلف المجالات و بخاصة في ميدان الفلسفة و العلوم الإنسانية التي هي المواد المعرفية الأساسية المؤسسة للنظرة على العالم.
س: تعتبرون من الفلاسفة العرب المتخصصين في الحداثة، هل يمكن أن تشرحوا للقارئ، و لو في عجالة، ما هي خلفيات هذا المصطلح؟
ج: الحداثة مصطلح جديد متعدد الدلالة. فهو يشير على المستوى الدلالي اللغوي المحض إلى الآنية و الراهنة و في العربية تهني حداثة الشيء حدته و شبابيته. و هذه الدلالات اللغوية ـ و خاصة العربية ـ تلقي بظلالها على المستويات الدلالية الأخرى: الحداثة السياسية و تعني الانتقال من الحكم التقليدي الذي تستمد فيه السلطة شرعيتها من الماضي و التقاليد إلى الحكم الذي تستمد فيه السلطة شرعيتها من الشعب عبر الانتخاب و الدستور والمؤسسات التمثيلية و سيادة القانون و حلوله محل الأعراف و التقاليد، وهذا يدخل في باب الحداثة القانونية، أضف إلى ذلك الحداثة الاجتماعية والتقنية و الفكرية. أما المستوى العمق لمفهوم الحداثة فهو المستوى الفلسفي الذي يعني رؤية جديدة للعالم قوامها الترعة الإنسانية، و العقلانية والمنظور التاريخاني للمجتمع و الفكر و التاريخ.
يزداد مفهوم الحداثة بلبلة بسبب الصراع المندلع باستمرار بين الحداثة والتقليد، حيث تتولد حداثة مشوهة و هوية هجينة في كافة المجتمعات التي داهمتا الحداثة بعنف، مما تولدت عنه شروخ في الوعي، و تشويهات في رؤية الذات و الآخر، و تخرمات في الواقع نفسه.
س: لستم غريبين عن الإيديولوجيا، أو أنها ليست غريبة عنكم، ما هو وجه الغرابة في صيحة "نهاية الإيديولوجيا"؟
ج: الإيديولوجيا لا تموت. إنها كالحية، تغير جلدها باستمرار لأنها الهواء الذي تتنفسه المجتمعات في الماضي، سادت إيديولوجيات قوامها الرؤية الدينية. لكن مع حلول العصور الحديثة المتسمة بطغيان التقنية. و سيادة العقلانية بمدلوليها الفلسفي و الاقتصادي (العقلنة و الترشيد)، بدأت تسود إيديولوجيات تاريخية الاشتراكية، و الليبرالية، و الفوضوية، و العمدية والتسخير القوي للدين في خدمة السياسة و الصراع السياسي حول السلطة.
منذ مطلع القرن العشرين و التعليقات القائلة بنهاية ايديولوجيا تطل برأسها بين الفترة و الأخرى. فالترعة الوضعية هي القول بنهاية الفلسفة أي نهاية الإيديولوجيات الفكرية و حلول العلم و الوصف محل الفلسفة و أحكام القيمة. و قد ظهرت فكرة نهاية الإيديولوجيا بشكل قوي في الخمسينات من هذا القرن مع ميلاد المجتمع الاستهلاكي في أمريكا مما دفع العديد من السوسيولوجيين الأمريكيين و الأوروبيين بزيادة عالم الاجتماع الأمريكي دانيال بيل Bell الذي كتب آنذاك كتابه الشهير the end of ideology متنبئا فيه بغياب الرايات الحمراء، و المظاهرات، و الإضرابات، والتشنجات الحزبية و العقدية...إلخ و قد عقد السسيولوجيون الأوروبيون في هذه الفترة مؤتمرا"الحزبية و العقدية"...إلخ و قد عقد السوسيولوجيون الأوروبيون في هذه الفترة مؤتمرا سمي مؤتمر "الحرية الثقافية" في روما و أعلن بصخب و ضجيج نهاية الإيدولوجيا. و هذه الفكرة ولدها الشعور العام الناتج عن نهاية الحرب العالمية الأولى، و ما صاحبها من رخاء اقتصادي وازدهار تقني في أمريكا. لكن ما اشتعلت نار الإيديولوجيات (الماركسية في أمريكا اللاتينية ـ ثورة مايو 1968 في فرنسا...و أمريكا). لقد كذبت الأحداث فكرة "نهاية الإيديولوجيا" التي تبين أنها مجرد فكرة طوباوية تعبر عن أمان و أحلام أكثر مما تعبر عن واقع.
ما أشاع بقوة في العقود الأخيرة فكرة نهاية الإيديولوجيا من جديد هو انهيار الاتحاد السوفياتي، و انفراط عقد المعسكر الاشتراكي الذي شكل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حزاما عقائديا و عسكريا حول الاتحاد السوفياتي. لقد بدا و كأن الماركسية قد توفيت، و اقيمت عليها صلاة جنازة من طرف الليبرالية التي أعلنت استقواءها و استفحالها (من الفحولة).
لكن فترة الكمون هذه التي يعيش فيها العالم اليوم لا تعني أنه مخصي من كل إيديولوجيا. فالوجه الآخر لوفاة الاشتراكية هو أفكار العولمة، و النظام العالمي الجديد، و إيديولوجيات الإسلام السياسي التي تتضمن نوعا من التركيز على البعد السياسي للدين في مقاومة التفاوت الاجتماعي الداخلي، و مقاومة أشكال "الغزو الثقافي". و انتعاش في نفس الوقت مظاهر الأصولية اليهودية، و الأصولية المسيحية و عودة المقدس في الغرب (انظر الفورة و الاهتياج الاجتماعي الذي حدث في فرنسا مهد العلمانية في الغرب عند زيارة البابا الإيديولوجيا كائن ذو سبعة أرواح. فهي لا تموت بل تغير شكلها و جلدها باستمرار عند المفاصل الكبرى للتاريخ.
س: لقد استعمرنا في القرن الماضي باسم التقدم، و ها نحن نستعمر اليوم مجددا باسم الديمقراطية. ماذا فقد هذا المصلح فلسفيا و إنسانيا بعد تطبيقه في الدول الثالثة؟
ج: أستسمحك، الأخ الأستاذ حميد في إبراز الوجه الآخر للمسالة وبالتالي في القول بأن الديمقراطية هي الشكل العصري لتنظيم مسالة لحكم. إنها تقنية أو تكنولوجيا سياسية شبه محايدة.
الديمقراطية لم يفرضها علينا أحد بل نحن الذين اخترناها. لقد أتيحت لي دراسة فكرة النخبة المغربية في نهاية القرن الماضي و بدايات هذا القرن فلاحظت أن الحركة الإصلاحية في المغرب قد ركزت على مسالة تحديث البنية السياسية للمخزن في اتجاه آليات الديمقراطية. و "الحركة الدستورية" التي شهدتها بلادنا في العقد الأول من القرن الحالي تشهد على ذلك إذ ظهرت على الأقل مجموعة مشاريع دستورية تستهدف في النهاية إقامة نظام ديمقراطي عصري بالمغرب. و اليوم تتبنى كل الأحزاب، و كل مكونات المشهد السياسي، المسالة الديمقراطية التي أصبحت أحيانا بمثابة طوبى و حلم و حل سحري لمشاكل المجتمع.
إن الجوهر الثوري للديمقراطية هو الإشراك التدريجي لأعداد واسعة من السكان في السلطة، و تغيير النظرة على مسألة الأهلية و الشرعية للحكم، وتمكين المواطنين و الجماهير من مراقبة الحاكمين اللذين لم يعودوا، في إطار التصور الديمقراطي لمسألة السلطة، معصومين و مترهين، مثلما أصبح المواطن، مبدئيا و نظريا ـ فاعلا سياسيا أي sujet بمعنى فاعل لا بمعنى مرعي ضمن الرعايا.
صحيح أن الصورة المشوهة للديمقراطية في بلدنا بما يصاحبها من تدخل سافر أحيانا و سوفستيكي أحيانا أخرى من طرف السلطة، و بما يصاحبها من بزنسة و تحويلها إلى "سوق للديمقراطية" بما فيها من دلالة، ومساومات، و شراء ذممن و بيع أصوات و انتخاص مرشحين و منتخبين، و بداوة ترحلية في الانتماء، و صفقات حزبية و غير ذلك، أمر منفر ومقزز.
ولكن ما العمل: فالديمقراطية نفسها محط صراع سياسي بين مختلف اللاعبين السياسيين و ذلك لتشويهها و تسخيرها و مسخها لا فقط لتحويلها إلى أداة للاستفادة و تسخيرها كوسيلة لانتفاع و التسليط الفردي و الفئوي والحزبي، بل للنتفير منها. فالقوى التقليدية في المجتمع لا يمكن أن تفرط في مراكز قواها و في مصالحها المادية و الرمزية. بل إنها تصارع للإبقاء على سلطتها و امتيازاتها و ذلك عبر تسخير "اللعبة الديمقراطية" نفسها. وهذا هو الرهان الاستراتيجي الأساس للاختيار الديمقراطي كاختيار حداثوي.
س: إن تصنيفي الشخصي للمثقفين في العالم العربي عامة، لا أظن أن هناك استثناءات تذكر في بلد عربي ما، هو كالتالي: مثقفي السلطات، مثقفي الأحزاب و النقابات السياسية و مثقفي الشعوب...و هؤلاء الآخرين هم الذين ظلوا أوفياء لنبضات و خفقات  مواطنيهم، إلى أي حد يمكنكم الاتفاق مع هذا الطرح؟
ج: المثقفون في حاجة اليوم إلى الكثير من الشفقة في مجتمع ترتفع فيه نسبة الأمية الحرفية والأمية الثقافية (هل تعرف أن عدد النسخ التي تطبع من أي كتاب الآن تتراوح بين 1000و3000، أليس هذا أمرا مذهلا؟). المثقف يسوق بضاعة غير رائجة و غير قابلة للاستهلاك. الاستهلاك الثقافي استهلاك نخبوي عندنا و المثقف كائن نخبوي فثقافته أي رؤيته المتجددة للعالم لم تعزله عن المجتمع، عن الوعي الاجتماعي، تعزله بلغته، بوعيه بفكره، بنمط حياته.
نعم في فترة سابقة كان "المثقف العضوي" (رغم ما يتضمنه هذا المصطلح من تناقض داخلي) هو المثقف اليساري الملتزم حزبيا و نقابيا و المنخرط في التجربة السياسية بجانب "الجماهير" لتوعيتها، و قيادتها، و توجيهها، ومساعدتها على التعبير عن مطالبها. لكن سرعان ما تبين أن هذه الرسالة هي مجرد وساطة و سمسرة إذ أن المثقف و السياسي ينصبان أنفسهما كوسائط تنتظر عوائد اجتماعية و مالية و ترقية اجتماعية مقابل هذه الوساطة.
و اليوم يبدو أن "المثقف العضوي" هو المناضل الإسلامي المندمج بحياة الناس في المسجد في الشارع، في الحي، في المتجر، و الذي ينظم عمليات المساعدة و جمع التبرعات..إلخ. أكيد أن حركات الإسلام السياسي ما تزال اليوم في المرحلة الدعوية التي تتسم بالكثير من الحلم و الترعة الطوباوية، و أن تسلمها للسلطة في البلديات و القرى و على المستوى الوطني سيغير المعادلة و يطرح على هذه القوى نفس التحديات التي عرت ادعاءات أحزاب الموجة السابقة. فالتاريخ عراء و كشاف وماكر. إن الشعارات الجميلة، و المثالية تصطدم بصخور التاريخ و منعرجاته و أشكال مكره التي تكشف و تعري في النهاية عن رغبات و إرادات السيطرة و الاستفادة المحركة للأفراد و المجموعات و الكامنة وراء اللافتات و المثل والشعارات، و الخطابات الجميلة.
س: و من بين المصطلحات السياسية التي استهلكت بلا هوادة في المغرب في الآونة الأخيرة هناك مصطلحي: ائتلاف و توافق تناوب. كيف تنظرون إلى مثل هذه المفاهيم التقليدية باعتباركم من بين المثقفين المغاربة القلائل الذين وقاهم الله شر "الهرولة" على السلطة؟
ج: إذا نظرنا إلى مسألة السلطة من زاوية ديناميكية، من حيث أن السلطة هي ميدان صراع دائم بين القوى السياسية و الاقتصادية المختلفة لحيازة قدر أكبر من السلطة، فإن التداول و التناوب و الحراك السياسي هدف أساسي لكل تشكيلة سياسية. مبدئيا تعلن كل هيأة سياسية أن همها ليس هو الوصول إلى كراسي السلطة بل تطبيق برنامجها و أفكارها و مشاريعها، هذا على مستوى القول و التصور و التنظير و المثال، أما في الواقع فقد أثبت التاريخ الحي كما أثبتت الدراسات السياسية و الفلسفية الجادة أن البيروقراطية السياسية ثمنا، و أن تحقيق المثل و الشعارات يمر حتما عبر تحقيق مصالح الوسطاء السياسيين، و خاصة في بلد يشهد من جهة صراعا طبقيا حادا، و حالة من الفوضى الناتجة عن تغلغل القيم الرأسمالية بشكل شرس في مجتمع هو في طور التحول مما يخلق حالة من الصعود و التسلق الطبقي.
"التناوب" هو الصيغة السياسية المعبرة عن هذه الدينامية. و هو الاسم الحركي لها. بل هو التسمية السياسية للعملية التي تضفي رسميا الشرعية على التنافس من أجل الوصول إلى كراسي السلطة التنفيذية. و ذلك لأن المكاسب التي يحققها الوصول إلى كراسي "السلطة التشريعية" غير كافية. فالعسل يكمن في السلطة التنفيذية. و من أجل تحقيق ذلك تحدث تحالفات بين فاعلين سياسيين داخل نفس الهيأة الحزبية، و بين العديد من الهيئات. وهذا الصراع، و التنافس، بل هذا التناوب ليس عيبا أو سيئا مشينا، بل هو صراع مشروع إلا أن قواعده و ضوابطه ما تزال ضبابية و غير معقلنة ولا تصب بالكامل في اتجاه تحقيق التقدم العام للمجتمع. و الرهان الأكبر هو تحويل اللعبة السياسية على لعبة و صراع قوي شفاف وواضح و فيه محاسبة و مراقبة لتلاعبات كل اللاعبين تحت طائلة القانون. الصراع مشروع و التناوب مشروع لأنه يعني، على الأقل، كسر احتكار السلطة التنفيذية و قصرها على بعض الأطراف دون أخرى.
س: ما هو ارتسامكم بعد معاينتكم لظروف عيش المهاجرين المغاربة في أوربا؟
ج: الهجرة الخارجية هي سعي من أجل تحصيل الرزق، و هروب من جفاف المنابع و تصحر الوضائف، نحو مجتمعات هي في حاجة إلى يد عاملة.
الهجرة وجوه متعددة. فهي في أحد مظاهرها تدفع بشري من مجتمعات اختل فيها التوازن بين النمو الاقتصادي و النمو الديمغرافي لصالح هذا الأخير نحو مجتمعات اختل فيها نفس التوازن لصالح الطرف الأول.
يعيش المهاجر حالة تمزق مستمر. فهو يشعر بأن المهجر ليس مقاما دائما، لأن ثقافة أخرى وتاريخ آخر "عالم" آخر، و أن نداء التربة، و "نداء الوطن" و ميتولوجيا الأرض، و مسقط الرأس تناديه. واندماج الجيل الأول في حياة المهجر صعب، لكن اندماج الجيل الثاني يمر عبر تشوهات نفسية و ثقافية نلحظها لدى أفراده لأنهم يعيشون في عمقهم مسألة تفاوت الرموز، و تصادم ثقافتين و رؤيتين مختلفتين للعالم. هذا الجيل الثاني، هو فقط باية الاندماج التي ستستمر عدة أجيال بل قرون لتولد مواطنا فرنسيا أو إيطاليا أو هولنديا أو ألمانيا بالكامل.
أريد أن أشير إلى أن للهجرة أبعادا ثقافية و سيكولوجية، و ميتافيزيقية أيضا، بالإضافة إلى بعدها الاقتصادي المعروف. و التناول الموفق لظاهرة الهجرة لا يمكن أن يكون إلا كليا.
المثير الانتباه هو أنه في العقود الأخيرة بدأ يبرز نوع جديد من الهجرة وهي الهجرة السنجابية: هجرة العقول و الخبراء و ذوي الكفاءات الفكرية، فمجتمعنا لا يستوعب اليد العاملة. لكنه، و هذا أمر مثير، لا يستوعب الكفاءات و حملة الشهادات العليا و التخصصات الدقيقة. بلد متخلف ينتج أطرا عليا دقيقة في ميادين معرفية متنوعة. أطر تجد نفسها مضطرة لبيع قوة عضلاتها الفكرية في المجتمعات المتقدمة في حين أنه لو كان هناك حرص من طرف السلطات السياسية العمومية، و خطة سياسية لتأميم هذه الكفاءات و إدماجها في إطار مشاريع علمية و ثقافية في وطنهم الأم. لكن الأمر غير ذلك مع الأسف.
س: ما هي في نظركم المسؤولية الملقاة على عاتق المثقف العربي والمغربي خاصة من أجل المساهمة في غد أفضل لبلده الأصلي؟
ج: يطرح التاريخ على المثقف العربي، مهام جسيمة في ممارسة النقد الجذري. المفروض أن يتحول المثقفون على طبقة أو فئة (أنتلجنسيا) حتى و إن اختلفت مشاربها الفكرية و اختياراتها الإيديولوجية، فإن لها، كفاءة، وظيفة النقد و الحوار و النقاش. إنها الفئة الميالة أكثر من غيرها إلى أعمال العقل بمعناه الجذري أي النقد: النقد السياسي لسلطة و لممارستها، و كذا الأحزاب نفسها لإبراز المسافة بين شعاراتها و ممارساتها، و النقد الاجتماعي. و إدارة حوار و نقاش عمومي حول القضايا الوطنية الكبرى. و هذا النقاش يتطلب توافر حرية تفكير و ضمانات قانونية لممارسة هذا الحق.
في أي بلد عربي تتوفر هذه الضمانات و هذا الحق. إن مجتمعنا ما يزال مجتمعا سلطويا: السلط فيه متراتبة تراتبا دقيقا، و متواصلة فيما بينها: سلطة الدولة، سلطة الأحزاب و النقابات، سلطة المجتمع نفسه الذي يحمي و يسيج مسلماته عن حياضة ليحقق لنفسه الاستمرار التاريخي المطلوب.
إن الانتقال من الوظيفة التقليدية للمثقف نحو الوظيفة النقدية الحديثة مشروط بتحول المجتمع نفسه من مجتمع مغلق، آسن، إلى مجتمع يقبل الحوار و النقاش في كل شيء، و يشرع لهذا الحق و يضمنه. نعم إن المثقف العربي، و المغربي بالخصوص، مدعو إلى أن يسهم في خلق هذه الشروط و التبشير بها: شروط التحول نحو مجتمع فيه فضاء أكبر من حرية التفكير و التعبير، مجتمع تتسع فيه فضاءات الحرية، و النقاش العقلاني.
تساهمون بانتظام في دول غربية و دول مسلمة في مشاريع حوار بين الاثنين. ما هي حظوظ نجاح الحوار بينهما في القرن الواحد و العشرين؟(3)
د. سبيلا: في الماضي كانت الشعوب و الثقافات و الشعوب مغلقة على نفسها، تعتبر الآخر منحرفا أو متأخرا أو دون درجة الإنسانية إلخ. لكن اليوم بفعل التطور المهول لوسائل الاتصال و التواصل و بفعل تقلص الأمكنة و الأزمنة، أصبح من الممكن قيام حوار واعتراف متبادل بين الشعوب و الثقافات المختلفة.
و مسالة الحوار لم تطرح كإجراء عملي و كضرورة حضارية إلا في العقدين الأخيرين، وخاصة بعد استفحال العداء بين الإسلام و الغرب ممثلا في أمريكا. أما حظوظ نجاح هذا الحوار فإنها ليست بالضرورة إيجابية، على الأقل في المرحلة الأولى. فرسوخ أسباب التعادي و التحارب يدفع بالضرورة نحو تجاوز العوائق المختلفة لتعبيد الطريق لبداية حوار مسؤول و بناء من الطرفين.
تسعى الدول العربية في تحديث مجتمعاتها عن طريق سبل متعددة، ويبقى التحديث الثقافي ضرورة ملحة في هذه المجتمعات. كيف يتيسر للعرب حاليا تحديثا ثقافيا عصريا؟
د. سبيلا: التحديث سيرورة عالمية موضوعية تفرض نفسها بإلحاح من الخارج عبر اكتساح الحداثة للعالم و انتشارها الحتمي فيه، كما تفرض نفسها داخليا بسبب الحاجات المتكاثرة داخليا و التي لا سبيل لتلبيتها في سياق عالمي تنافسي إلا بتحديث البنيات التقنية والاقتصادية و الإدارية. وتلك هي العتبات الأولى للتحديث.
لكن أخطر مستويات التحديث هو التحديث الثقافي، لأن الثقافات التقليدية تقاوم و تتوجس منه خفية، لأنه تذويب للماهيات و تسييل لما صلب. للتحديث الثقافي مفعول تفكيكي و تذويبي للهويات و الماهيات و المقدسات التقليدية. إنه محمل بقسط من الدهرنة و نزع القدسية و الإطلاقية و تنسيب الأحكام و إرجاع المثل و المقدسات إلى الشروط و الظروف الاجتماعية والتاريخية التي ولدتها. بمعنى عقلنة الإنتاج الاقتصادي و التسيير الإداري للدولة و رؤية العالم، كما ذهب إلى ذلك ماكس فيبر.
العرب تلهفوا و لقفوا بلهف المنتجات التقنية، و إن كانت طبقة الفقهاء قد حرمتها ـ مثال تحريم مفتي السعودية بن باز للتلفزيون ـ ووظفوا التجديدات التنظيمية في مجال الإدارة و السياسة، لكن العمق الثقافي لهذه المجتمعات ظل يرفض و يقاوم أشكال التحديث الثقافي، و ما الانبعاث المدوي للأصولية و التطرف و العنف الديني و ازدهار "الفكر: التحريمي إلا المظهر البارز لذلك.
3 ـ قد يعتبر لبنان حاليا نموذجا في العالم العربي لحوار داخلي مسؤول وواعي فيما يخص قضاياه الكبرى. كيف تقيمون الوضع اللبناني الراهن من موقعكم كمفكر عربي يحاول في كتاباته وصل المغرب بالمشرق العربي؟
د. سبيلا: لقد شكل لبنان دوما دينامو أساسي في تطوير الثقافة العربية. فالنهضة العربية الحديثة انبعثت أولا في الشام، و نعرف دور الآباء الشيوعيين في تطوير و تحديث اللغة العربية و المدارس الأدبية و الفكرية التي وجدت تغذيتها في تربة الحرية التي هي نبتة لبنانية بامتياز.
لقد تعرض لبنان بسبب حريته هذه و دوره الريادي خاصة على المستوى الثقافي و الفكري للعديد من المحن، لكنه صمد و هو صامد إلى الآن. فمنذ الخمسينات و الستينات من القرن الماضي و بيروت منارة فكرية كبرى للإبداع و الترجمة. و كانت دور النشر في بيروت بمثابة "سقايات Fontaines " فكرية و ثقافية لكل العالم العربي مشرقا و مغربا، و لو أن الصحاري العربية لم تستنشق الشذى.
4 ـ نهلنا نحن في المغرب من هذه الثقافة على مستويات عدة، و مدينون لها بالكثير، وكان للكثير من مفكري لبنان، و خاصة المسيحيين منهم، دورا إشعاعيا قويا في مجموع العالم العربي. هل تعتقدون بأن هذه الثقافة ستعود لتلعب نفس الأدوار التنويرية في المستقبل؟
د. سبيلا: أسماء المفكرين اللبنانيين الذين أثروا في الساحة الثقافية العربية و المغربية على الخصوص جد كثيرة و في حاجة للتوثيق و الدراسة. لا يمكنني أن أذكر هنا إلا بعض الأسماء الفكرية التي ألقت حصاة أو حصوات في المياه الراكدة للثقافة العربية كحسين مروة، قسطنطين زريق، غسان سلامة إلخ
للبنان الثقافي مساهمة أخرى لا تقل أهمية و هي أنه حاضن و موطن الفكر المجدد. فالأفكار الراديكالية المجددة و التحديثية لا تجد هواء تستنشقه إلا في لبنان و لا تجد منبرا لها إلا في لبنان.: نزار قباني البيروتي الهوى، أدونيس و غيرهما.
أكرر بصدق، لبنان زهرة حرية شذية، لكن الذائقات المزكومة لا تشمها و"العقول" المقفولة و المختومة باللدائن لا تستوعبها. و من حسن حظ الأراضي العربية الشاسعة ـ بما فيها صحاريها القاحلة فكريا ـ أن هناك بقعة ضوء اسمها لبنان، لكن من سوء حظ لبنان أنه وجد في منطقة العتمة هاته، و مع ذلك لم يمت و لم يستسلم لآهات الموت المحيطة به.
ننتظر أن يعود لبنان على لعب دوره التنويري في العالم العربي، لأن مؤهلاته الداخلية واعدة و دوره التاريخي الطلائعي لا غبار عليه!

(1)  جريدة المنظمة

(2)  القدس العربي

(3)  جريدة النهار اللبنانية

المصدر: http://www.mohamed-sabila.com/hiwar3.html

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك