مشاركة الدعاة في برامج "القنوات الهابطة"
د. ياسر بن علي الشهري
يرى بعض الفضلاء (دعاة ومفكرين وإعلاميين وأكاديميين) ضرورة المشاركة في بعض برامج القنوات الهابطة، متى ما أتيحت الفرصة لتحقيق هدفين، هما:
• الوصول إلى جمهور جديد لا يمكن الوصول إليه إلاّ من خلال هذه القنوات.
• الظفر ولو بوقت يسير من أوقات هذه القنوات لتقديم مواد نافعة، مقابل المواد الهابطة التي تهيمن على الخرائط البرامجية لهذه القنوات.
وقبل مناقشة هذا الرأي يجدر التنبيه إلى أن القنوات الهابطة التي أقصدها في هذه المقالة هي: "كل القنوات التي يغلب على أدائها إثارة الغريزة الجنسية لترويج منتجاتها أو بعض هذه المنتجات، واستقطاب الجمهور لإشباع رغباتهم غير المشروعة". ولا يُشترط أن تكون هذه الدعوة أو الإثارة صريحة؛ فالطرق غير المباشرة أشد فتكاً بالذوق السليم.
والذوق يتباين الناس فيه، من خلال عدد القنوات التي يستقبلونها في محيط أسرهم، ونوع هذه القنوات، حتى فسدت كثير من الأذواق، وصار في المجتمع من يستنكر عدم مشاهدة بعض الناس لقنوات كانت تُعد في قائمة المحرمات، ثم هان على الناس مشاهدتها لما علموا أن هناك ما هو أشد انحلالاً منها! (يرقق بعضها بعضاً).
هذه هي القنوات الهابطة؛ لذا فإن القائل بضرورة المشاركة في برامج هذه القنوات يحتاج إلى مراجعة بعض الأفكار المهمة في هذا الجانب، والاستفادة منها في تقييم مدى تحقق الأهداف المرجوة، ومنها:
أولاً: ليس لكل قناة جمهور خاص لا يجاوزها إلى غيرها من القنوات، إلاّ في ظروف نادرة جداً، والذي يَفترضُ ذلك يخالف حقائق الواقع، التي يمكن الوصول إليها من خلال (الملاحظة) دون التجريب؛ إذ إن الجمهور لا يرتبط بمصدر واحد لإشباع حاجاته للمواد الاتصالية، ويبقى هذا المتغير تابعاً لمجموعة كبيرة من العوامل التي تزيد من نسبته أو تُنقِص.
ثانياً: من الحقائق الملاحظة أن جمهور "المواد الهابطة" يمكن أن يبحث في ظروف معينة عن مواد جادة أو دينية، ولكن من الصعوبة تحديد طبيعة وتوقيت هذه الظروف، إلاّ أن الأمر الذي يمكن التأكيد عليه في هذه الوضعية أن انتقاله إلى مصدر آخر –عند الرغبة في المادة الهادفة- ربما كان بمثابة انتقال الشخص التائب من "دار السوء" إلى "دار الخير"، وهذا يتطلب تمايزاً بين المصادر إلى الحد الذي يمكن المشاهد من إصدار الحكم بنفسه، فيميز بين المصدر الذي يلبي رغباته غير المشروعة، والمصدر الذي يلبي حاجاته ورغباته المشروعة.
ثالثاً: يتجاهل صائغ الأهداف السابقة حقيقة تؤكدها الدراسات الإعلامية -وتتوافق مع الرؤية الإسلامية للطبيعة البشرية ليكون الإنسان في مستوى التكليف- وهي: أن الجمهور يستخدم (أو يختار) الوسائل الإعلامية لتلبية احتياجاته، وإشباع رغباته من خلال عملية انتقائية تشمل كافة الفرص المتاحة، وهو المسؤول الأول والأخير عن تحديد نوع رغباته التي يعمل على إشباعها، ورغباته التي سيعمل على كبتها، من خلال توظيف قوتي الإقدام والإحجام التي ركّبها الخالق فيه.
وهذا يعني أن الجمهور يتبع رغباته في أي القنوات كانت، حتى لو كانت في قنوات بلغات أخرى أو مملوكة لحكومات أو لأشخاص من ديانات أخرى، وإذا لم تتحقق رغبته انتقل إلى قناة أخرى للبحث، أو وسائل أخرى، وخلاصة هذه الفقرة أن واجبنا يتمحور حول إيجاد منتجات إعلامية تعبر عن قيمنا الإسلامية لتكون ضمن الخيارات المتاحة للمشاهد، وأن تُعرض بطريقة لا تشوه المنتج وتفقده القدرة على المنافسة، أي يكون للمنتج منفذ يُعرض من خلاله يتناسب مع طبيعته، وبعدها للمشاهد حق الاختيار (ليُبتلى)، ولن يصادر هذا الحق من يظن أنه سيفاجئه على شاشة القناة الهابطة التي يتابعها!
رابعاً: يمنح بعض الفضلاء ثقة كبيرة لتأثير الاتصال الجماهيري، حتى إن المتخصص الإعلامي ليظن أنهم قد عاصروا مرحلة القول بقوة تأثير وسائل الإعلام أو حقبة (الرصاصة السحرية)، أوائل القرن الماضي، والتي تمثل مرحلة بائدة من مراحل التنظير لوسائل الإعلام، بل تستخدم أحياناً للتفكّه والتندّر على الإنسان عندما يظن أنه استطاع السيطرة على الظواهر المحيطة به، وهو في الحقيقة إنما يكشف عجزه عن إدراك كافة المتغيرات المرتبطة بالظواهر التي يدرسها، والنهاية (وظن أهلها أنهم قادرون عليها). [يونس: 24].
وعموماً فإنني لا أنفي تأثير وسائل الإعلام، لكني ألفت الانتباه إلى أن الفرضيات العلمية التي استهدفت تفسير العلاقة بين الجمهور ووسائل الاتصال الجماهيري؛ تشترط توافر مجموعة من العوامل، والاستعداد النفسي للتأثر بالمنتجات الإعلامية، والهدف من بيان ذلك أن يدرك الفضلاء أن الجماعات المرجعية وقادة الرأي والمؤسسات التربوية (الأسرة والمسجد والمدرسة) لها تأثير أكبر من تأثير الاتصال الجماهيري؛ فكلما قلَّ مستوى الاتصال كان التأثير أكبر، نظراً لدرجة التفاعل والتعبير عن المشاعر، واتساع المشترك بين أطراف العملية الاتصالية، وهذا يعني أن الاتصال الشخصي أقوى من الاتصال الجمعي، والاتصال الجمعي أقوى من الاتصال الجماهيري.
ولعل هذا يقود إلى التأكيد على مسألتين في غاية الأهمية:
الأولى: إن على العلماء والدعاة والمفكرين أن يحرصوا على تكثيف فرص الاتصال الشخصي والجمعي، التي تتاح للوصول إلى نوع خاص من الجمهور في المسجد وغيره من الأماكن أو المناسبات؛ لأن مهمتهم الأولى تربية مجموعات من طلاب العلم يقوموا بالمهمة نفسها في دوائرهم الصغيرة والقريبة، وأن تكون مشاركاتهم في وسائل الاتصال الجماهيري امتداداً لذلك، فكل منهم يعرف جمهوره والوسائل الموصلة إليهم.
والثانية: إن على الفضلاء عموماً أن يكون لهم بصمات (شروط) واضحة في وسائل الإعلام (غير الهابطة) التي يشاركون فيها، ولن يتحقق ذلك إلاّ عندما يدركون أن الوسائل الإعلامية تحتاج إلى بعض الفضلاء -بطريقة أو بأخرى- لتكتسب شرعية أمام الجمهور، ومن ثم تتسع دائرة استقبالها في أوساط فئات جديدة، وهذه الحاجة أشد من حاجة الفضلاء إلى استخدام هذه القنوات في إيصال الحق، خاصة بعد تزايد القنوات الهادفة، التي يتهمها البعض بعدم جماهيريّتها، إلاّ أنها في طريق الصاعد والنازل بجهاز (الريموت كنترول)، وكل ما عليها أن تسعى إلى تحسين منتجاتها بالقدر الذي يُظهر تميز قيمنا، ولكن دون أن نظن أننا من سيشرح صدور الجماهير العريضة للهداية.
إن العشرين سنة الماضية كانت مرحلة ترويج هيمنة الوسائل الإعلامية -في مجتمعنا- بصفتها الأداة الأقوى في تحقيق مطامع القوى المحلية المتنافسة، وصار هناك ما يشبه اليقين بقوة تأثيرها، لدرجة أن بعض ملاّكها يروّجون أنها المحرك الأكبر للحياة، وأن التقدم مرتبط بامتلاكها، وأنها هي الأسواق الحقيقية التي تقع فيها المنافسة، وأنه لا سبيل آخر للنجاح إلاّ من طريقها، ولكن انحسار الخير فيها سيعيد المجتمع إلى الحياة الحقيقية، بدلاً عن العوالم الافتراضية التي تحوّل فيها الناس إلى مشاهدين ومتأثرين, وكما يقول ابن القيم -رحمه الله-: (المتفرج قاعد عن الحياة)، فإن وظيفة العلماء والدعاة أن يساهموا في إعادة الناس إلى عوالمهم الحقيقية، بدلاً من تكريس الفرجة العبثية!
المصدر: http://saaid.net/arabic/269.htm