الخطاب ولغة الحوار في الاسلام

ممّا يوحي بعظمة الخالق، وعظيم نعمه على الانسان، هو تمكينه من اختراع الكلمة المعبِّرة عن المعنى. المختزن صوراً وأحاسيس في نفسه .. والتعبير عن تلك الصّور بألفاظ كان بداية النقلة النوعية في وجود الانسان الحضاري .. إنّه لفتح انساني فريد، منح الانسان أبرز معالم انسانيّته .. وهيّأ له فرص العيش الاجتماعي والتكامل المعرفي .. فعن طريق الكلمة يتفاهم الناس، ويُعبِّر كلّ منهم عمّا يريد إيصاله إلى الآخرين، أو الحصول عليه منهم، لا سيّما اكتساب المعرفة .. ولذا نجد القرآن الكريم يذكِّر الانسـان بهذه النعمة العظيمة التي لا يدرك الكثيرون قيمتها.. نعمة (البيان).. والإفصاح عمّا يريد بكلمات يفهمها الآخرون: (الرّحمن * عَلَّمَ القُرْآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمهُ البَيان ).( الرّحمن / 1 ـ 4 )
وعن طريق العقل والكلمة، خاطب الله سبحانه الانسان وحاوره، وثبّت منهج الخطاب والتفاهم على أسس عقليّة وعلميّة.. وبذا ارتقى بالإنسان إلى مستوى إنسانيّته باستخدام العقل والحوار.. لذا عرّف القرآن بهذا المنهج الحواري حتى عندما تحدّث عن أعتى طاغوت ومستكبِر في الأرض، وهو فرعون; ليوحي من خلال عرض هذه المفردة بتطبيقات المنهج، وليكون منهجـاً علميّاً في التعـامل مع الرأي الآخر، ومع مَن يختلف معهم في الفكر والعقيدة، حتى وإن كان فرعون، لإقامة الحجّة، ولئلاّ يكون للنّاس حجّة على الله بعد البيان، قال تعالى مصوِّراً ذلك من خلال مخاطبته لموسى وأخيه هارون (عليهما السلام): (إذْهَبا إلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى). (طه/43 ـ 44)
فالقرآن يتحدّث عن الأمر الإلهي الذي وُجِّه إلى موسى وهارون (عليهما السلام)، ليذهبا إلى فرعون مع ما به من تكبّر وطغيان، وأمرهما أن يحاورا فرعون بلين، أملاً في أن يتقبّل دعوة العقل والمنطق، واستطاع النبيّان (عليهما السلام) أن يسحبا فرعون إلى الحوار، غير أنّ فرعون صُعِقَ أمام المعجزة فأخذته العزّة بالإثم، وأصرّ على كبريائه الأجوف فكان ضحيّة خطئه، وبرئ منهج الدعوة من تحمّل المسؤوليّة.
ويُثبِّت القرآن الخطوط العامّة لمنهج الحوار مع المختلفين مع دعوته وعقيدته، إذ يُبيِّن اُسس الحوار العقلي والأخلاقي في الخطاب الموجّه للنبيّ محمّد (ص) : (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتي هِيَ أَحْسَن).(النّحل/125)
ونسكتشف من هذه المنهجيّة أنّ الهدف من الحوار هو الوصول إلى الحقيقة، واكتشاف الحق. وإيصال الطّرف الآخر إليها، وليس الهدف هو التغلّب عليه، أو تدميره، أو إظهاره بمظهر العاجز المهزوم; لذا حمل المنهج القرآني الجانب العلمي الذي يسعى لاكتشاف الحقيقة العلمية، والجانب الأخلاقي الذي يسعى لاحترام الطرف الآخر، وإشـعاره باحترام الطـرف المحاوِر له، وحرصه على مصلحته، وإيصاله إلى الصّواب.
وكما يفسح هذا المنهج المجال أمام العقل والمنطق لينطلقا في البحث والتحرِّي والإقتناع الرّاسخ، فانّه يهيِّئ الأجواء النفسية، ويزيل الحواجز المسبقة بين الطّرفين. فيمهِّد الطّريق أمام البحث العقلي دونما حواجز نفسيّة .
وإذاً فنحن نملك الآن منهجاً حضاريّاً للحوار والتفاهيم مع الرأي الآخر سواء في الدائرة الاسلامية، أو في خارج هذه المساحة. نبدأ الحوار من منطلقات ومسلّمات يؤمن بها الطّرفان، وأوّل تلك الجوامع هي مسلّمات العقل، أو ما تسالم عليه المتحاوران خارج تلك الدائرة.
ولذلك دعا القرآن الانسان إلى استعمال العقل والتفكّر، بقوله: (أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصَاحِبِهِم مِن جِنَّة ). ( الأعراف / 184 ) وبقوله: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُها ). ( محمّد / 24 ) وبقوله: (قُلْ يا أَهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَة سَوَآءِ بَيْنَنا وَبَيْنَكُم أَ لاّ نَعْبُدَ إلاّ اللهَ وَلاَنُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَيَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله ).( آل عمران / 64) وبقوله: (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُم إنْ كُنْتُم صَادِقِين ). ( البقرة / 111 ) وفي مورد آخر نشاهد القرآن يصطحب الطّرف الآخر للبحث عن الحقيقة كما في خطابه للنبيّ محمّد (ص): (وَإنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَى هُدَىً أَوْ فِي ضَلاَل مُبِين*قُلْ لا تُسْأَ لُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون*قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا بِالحَقِّ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا وَهُوَ الفَتّاحُ العَلِيم).(سبأ/24 ـ 26)
وهكذا يثبِّت القرآن منهجاً للحوار على أساس البرهان والعقل والتدبُّر والتفكُّر والمسلّمات الثابتة لدى الطرفـين، بعيداً عن العصـبيّة والتحجّر الانتمائي الذي لا يملك دليلاً، ولا يقوم على أساس الوعي.
وكما دعا الطّرف الآخر إلى ذلك، دعا الانسان المسلم أن ينطلق في هدفه الرسالي على بصيرة ووعي علمي، وفهم اجتماعي رصين.
جاءت هذه الدعوة بقوله تعالى: (قُلْ هذِهِ سَبيلِي أَدْعُو إلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَة أَنا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنا مِنَ المُشْرِكِين ). ( يوسف / 108 ) كما دعا القرآن إلى مخاطبة الآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بأفضـل الوسـائل وأجدى الطّرق المقبولة:(ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتي هِيَ أَحْسَن).(النّحل/125).

وكما ينطلق منهج الحوار القرآني من العقل، ومراعاة الجانب النفسي والعاطفي عند الانسان، فإنّه يُراعي مستوى التلقِّي، والتقبّل عند الانسان المخاطَب; ليوفِّر الأجواء اللّازمة للتدبّر والتعقّل. جاء ذلك في قول الرّسول الكريم (ص): «أمرنا معاشر الأنبياء أنْ نُكَلِّم النّاس على قَدَرِ عُقُولِهِم».
وإذاً فالقرآن يضع بين أيدينا منهجاً علميّاً وحضاريّاً لحمل الدعوة، يقوم على أسس عقليّة ونفسيّة وأخلاقيّة سامية. وذلك من أبرز الأدلّة على متانة هذه المبادئ وعلميّتها. فالداعي إلى الحوار مطمئن إلى ما بيده من حجج وأدلّة، وواثق من أفكاره، وذلك يفتح الاُفق لحوار الحضارات، والتعارف المعرفي، والتبادل الثقافي المُلتَزِم، وتعميم منجزات الفكر الانساني، وتصحيح المسار الفكري، ويحول دون العزلة والانطواء.
وجدير ذكره فانّ العالَم المحيط بنا اليوم عالَم مُنفتح الأطراف والحدود والمسافات والزّمن، كما أنّ الحواجز السياسية والقانونية وسلطة البوليس لم تعد تمنع من الإطِّلاع على الرّأي الآخر، سلبيّاً كان ذلك الرّأي أو ايجابيّاً . فعالَم الانترنيت والبثّ التلفزيوني العالمي والرّاديو والفاكس، يصل إلى كلِّ انسان في بيته، ومن مختلف أنحاء العالَم خلال جزء الثانية; لذا فان الانغلاق الثقافي لم يَعد مسألة ممكنة.
ومع انفتاح هذا الأفق التقني لنقل المعلومات، نجد الانفتاح المنهجي المُبَرْمَج في المبادئ الاسلامية الذي يقوم على أساس الحوار،والنقد العلمي البنّاء،واحترام عقل الانسان المخاطَب. وذلك يعني أنّ الحركة الفكرية الاسلامية قد فتحت أمامها أبواب واسعة للتبشير بمبادئها والدعوة إليها، والتفاعل الفكري الحضاري مع العالَم.
لقد كان الانسان الغربي مثلاً تضلِّله وسائل الاعلام الرسمية في بلاده، وترسم أمامه صورة مشوّهة للإسلام والمسلمين . وتتبنّى تلك الدول هذه المعلومات كمادّة دراسية في المناهج المدرسية، وليس لدى المسلمين من وسائل متكافئة، أو حتّى متقاربة للردّ والتعريف إلاّ في حدود ضيِّقة.
أمّا بعد تلك الثورة التقنيّة الواسـعة في نقل المعلومات، واعتماد الاسلوب الاسلامي، اسلوب الحوار والدليل العلمي والمنهج العقلي. فسيحقِّق الفكر الاسلامي إنجازات عظيمة، إذا ما أحسن استخدامها.
وتلك التحوّلات تلقي مسؤوليّة كبرى على الكتّاب والمفكِّرين الاسلاميين في وضع الفكر الاسلامي موضع التناول للجميع. وكما يتحمّلون مسؤولية التعريف بالفكر الاسلامي والدفاع عنه يتحمّلون مسـؤولية نقد الحضارات الأخرى والفكر الآخر وغربلـته والاستفادة منه . فإنّ طبيعة الحضارات طبيعة أخذ وعطاء. ونحن كما نعطي نأخذ من الآخرين ما نجده متّسقاً مع الاُسس والمبادئ الاسلامية، أو غير متعارض معها. وذلك الشّرط منطلِق من الإيمان بعلميّة المبادئ الاسلامية وواقعيّتها، فهي كلمة الحق التي أوحى بها الرّحمن لهداية الانسان، وذلك ما يثبته الحوار والدّليل العلمي.

المصدر: الموسوعة الاسلامیة

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك