تركيا: التسامح الموقت
بقي معهد "هالكي" للتعليم اللاهوتي، الذي تأسس عام 1844 ليكون مركزاً للتعليم الخاص بالكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، على مدى عقود من الزمن، رمزاً للتسامح الديني ولحقوق الأقليات في الإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية.
غير أنه في العام 1971، أقدمت أنقرة على إقفال هذا المعهد بعد أن أصدرت المحكمة الدستورية، التي كان يهيمن عليها مسؤولون "كماليون"، أي من اتباع مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، حكماً قضى بأن الجيش هو المسؤول عن الإشراف على المعاهد التي تخضع لإشراف جهات غير حكومية.
وفي شهر آذار مارس الماضي عندما أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أن معهد "هالكي" سوف يعاد ترميمه وافتتاحه، بدا للمراقبين أن حزب العدالة والتنمية، الحاكم في تركيا منذ العام 2002، راغب في تنفيذ أجندته الإصلاحية الرامية لجعل تركيا مجتمعاً أكثر انفتاحاً من خلال ترسيخ وتوسيع آفاق الحريات الفردية والدينية والإقتصادية.
لكن بينما كانت أنقرة تزعم التشجيع على الإنفتاح من جهة، قامت بالإطباق عليه من جهة ثانية. ففي شهر أيار/ مايو، أعلن أردوغان أن حكومته سوف تلغي مساهماتها ودعمها المالي للفنون، أي انها سوف تتوقف عن تقديم مبلغ 63 مليون دولار سنوياً إلى قطاع الفنون، الأمر الذي يعني التهديد بإقفال أكثر من 50 مسرحاً ومنشأة فنية في أرجاء البلاد. وزعم حزب العدالة والتنمية أن مقاربته هذه جاءت متناسبة مع مبدأ الحفاظ على المبادرة الخاصة والفردية، وأنها تؤسس لمقاربة حديثة للرعاية الحكومية للفنون. أما المعارضون فقد أكدوا أنها محاولة مقصودة من الحزب، لإسكات أصوات جميع أنواع الفنون في البلاد، بعد أن شعر بأن هذه الفنون بدأت توجّه انتقادات لاذعة لأسلوبه في الحكم.
يذكر أن العالم كان بدأ منذ بداية عصر حزب "العدالة والتنمية"، بإجراء مراقبة دقيقة للأمور ليرى ما إذا كانت الدولة التركية جادة في مساعيها لاعتماد الديموقراطية أو لسوء استغلالها. أما الأمر الذي أصبح واضحاً فهو أن استراتيجية أردوغان تتمثّل في فعل الأمرين في آن معا.
إن السبيل الأفضل لفهم الديموقراطية في ظل حزب "العدالة والتنمية" يمر عبر فهمه الخاص معنى الديموقراطية نفسها. فأستاذ العلوم السياسية في جامعة "يال"، روبرت دال، قال إن الديموقراطية تتحدد بالمدى الذي تسمح فيه للمواطنين بالمشاركة في الحياة المدنية وما إذا كانوا قادرين على الإعتراض على سلطة الحكومة.
إن النظر إلى أي عامل بمفرده يكشف لنا سبب هذه المفارقة التركية التناقضية.