الحضارة الإسلامية تدعو إلى الحـــوار

هيثم الكيلاني
• المسلم بما يحمله من رسالة عالمية لا يمكن إلاّ أن يكون حضاريا •الحالة الدولية الراهنة لا تسمح بحوار متوازن • الحضارة الإسلامية هي الوحيدة المرشحة للتعايش مع الحضارات الأخرى • في التاريخ المعاصر أدلة كثيرة على دور العامل المعنوي في توجيه مسير الأحداث •الحوار مع الآخر مطلب إسلامي وتكليف شرعي •ضعف الجسم العربي مدعاة لتحرك الأمراض والجراثيم فيه • التجارب التاريخية أثبتت أن الحضارة الإسلامية عصيّة على الذوبان • القوة المادية هي سبب البطش والتجبّر.
يمكن القول: إن الحضارة الإسلامية هي كل ما أنتجته الشعوب الإسلامية من إبداعات ومبتكرات عبرت عن نفسها في صور مادية ومعنوية وعقلية. وهي تشمل كل ألوان العمارة وأنواعها والآداب والعلوم والفلسفة والفنون وغيرها من المظاهر الحضارية.
وإذا كانت هناك سمات مشتركة تجمع ما بين الحضارات، باعتبارها إنجازًا بشريًا، ولا سيما في الجوانب المادية منها، فإن للحضارة الإسلامية خصائص تميزها عن سائر الحضارات الأخرى. ويمكن سرد هذه الخصائص في العناوين الآتية: الشمولية، الإنسانية، الأخلاقية، العقلانية، الواقعية، التسامح، التنوع في إطار الوحدة، العالمية، التطورية الجمع بين الثبات والمرونة، الجمع بين الروحية والمادية، التوسطية، التوازن، الوضوح، الجمع بين التطبيقية والتنظيرية.
والمسلم، بما حُمِّل من رسالة عالمية، لا يمكنه إلا أن يكون حاضرًا في كل زمان، مشاركًا في بناء حضارته. فتفاعل المسلم مع عصره ومحيطه، وتحقيق التعارف بين الحضارات وسائر الحضارات الأخرى، هما حتم أوجبته الرسالة العالمية التي يحمل عبأها. أما وسيلته فهي الدعوة وتحقيق المَثَل وإقامة العدل ودفع الظلم والمجادلة بالتي هي أحسن. وهذا يعني أن الحوار واجب شرعي لذاته لأنه يحقق فريضة التعارف والتعاون في مدافعة الباطل ومجاهدته، والانتصار للحق وتغليبه، ونشر قيم العدل بين الناس. فالحوار، بهذا المفهوم، غاية في حد ذاته، ووسيلة للتعارف والتعاون. فنحن نعيش في عصر انتهى فيه ما كان يسمى عزلة الدول والشعوب. فعالمنا اليوم هو عالم التجمعات المتداخلة، وبخاصة تلك التجمعات التي تجمع بينها، روابط محددة، مثل الدين والتاريخ والثقافة. وليس في العالم المعاصر مثيل للعالم الإسلامي، الذي يجمع أكثر من خمسين دولة في رابطة دينية واحدة تبث ثقافة واحدة، ولكن هذا العالم تنوع في لغاته وثقافاته. وقد تميز الإسلام باستيعابه ثقافات شعوب العالم، واحترام خصائصها. وعلى هذا فإن الفكر الإسلامي قوّم بروح إيجابية حضارات العالم، قديمها وحديثها، مادامت ترفض الشرك بالله وتدعو إلى وحدانيته.
إن الحضارة الإسلامية إذ دعت وتدعو إلى الحوار، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه في الوقت الراهن هو الآتي: هل يمكن أن يكون هناك حوار للحضارات، مبني على الأسس العلمية والحرية الفكرية، في إطار النظام العالمي الحالي، وبخاصة في ظل موجة العولمة التي تجتاح اليوم مختلف مجالات حياة الشعوب والدول؟
من المعروف أن العلاقات الدولية، تغيرت في إثر ما طرأ على النظام العالمي من متغيرات، وبخاصة تلك الصراعات العنيفة بين أقوام وأعراق تنتمي إلى حضارات مختلفة، وتلك السياسات الاقتصادية والعسكرية والثقافية التي تسعى إلى فرض هيمنة نموذج حضاري محدد.
يضاف إلى ذلك، أن ساحة الفكر والسياسة في العالم ماجت بتيارات الجدال حول شكل العلاقة بين الحضارات، هل هو تحاور أو تصارع. ومن بين التساؤلات التي شملها ذلك الجدال هو: هل تعدّ الحضارة أو الأمة وحدة للتحليل في العلاقات الدولية؟ هل حلّ صراع الحضارات محل صراع القوى أو صراع الطبقات أو صراع المذاهب كمحرك للعلاقات الدولية. هل يقتصر صراع الحضارات على الأبعاد القيمية والثقافية، أو أن هذا الصراع يمكن أن يتطور ليصبح قتالاً. وهل الظروف والشروط الراهنة للنظام العالمي هي التي توجه العلاقة بين الحضارات لتكون حوارًا أو صراعًا.
لا ريب في أن العلاقة بين الحضارات، سواء كانت حوارًا أم صراعًا، تتقاطع وتتداخل وتتلاقى في مساحات مشتركة، في حين أنها تتصارع في مساحات أخرى، إضافة إلى قضايا مختلفة وكثيرة، أصبحت الآن عالمية، تسهم الحضارات في إبداء الرأي فيها، وقد تتصادم. وعلى هذا برزت عدة تيارات في شأن العلاقة بين الحضارات. ففي حين رأى التيار الأول أن هذه العلاقة ستشهد تصادمًا بين الحضارات، اتجه التيار الثاني نحو تأييد الحوار ودعمه. ورأى التيار الثالث أن شروط الحوار وظروفه غير متوافرة الآن، لأن الحالة الدولية الراهنة لا تسمح بحوار متوازن مادام ميزان القوى العالمي مختلاً لمصلحة طرف محدّد هو الحضارة الغربية. ويذهب تيار رابع إلى أن الحوار ضروري لإخراج العالم من أزمته الراهنة، ولكن هذه الضرورة متلازمة مع ضرورة أخرى، هي توافر شروط وظروف تسمح للحوار بالانطلاق من مبادئ المساواة وحرية الفكر وتعادل وسائل التعبير والتحاور، أي كل ماهو ضروري لكي يحقق الحوار أهدافه المتصلة بالجوانب المادية والقيمية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية.
نضيف إلى ذلك أن حوار الحضارات لا ينبغي أن يقتصر على مناظرات أكاديمية تكشف مدى إسهام كل حضارة في بناء الحضارة الإنسانية وسبق كل حضارة في هذا المضمار. ولابد للحوار من أن يتصدى لرصد معالم الصور المرسومة وتحليلها عن الشعوب والحضارات في أذهان الآخرين، وإمكانات تطوير هذه الصور، ثم طرح معالم الصورة الحقيقية. كما أنه لا ينبغي أن يستخدم الحوار لإذابة الفوارق والخصوصيات الذاتية لأي من أطرافه أو لعولمة ثقافة ما أو تغيير الأنساق القيمية للآخرين، لأن الهدف من الحوار هو توسيع الأرضية المشتركة بين الحضارات من أجل تحقيق التعاون في بناء الحضارة الإنسانية.
فمن طبيعة الحياة الإنسانية أن يكون لكل تجمع بشري أو مجموعة من التجمعات كيان حضاري خاص بها. ويمكن القول: إن إنكار وجود هذه الحضارات لا يعني عدم وجودها، بقدر ما يعني التوجه نحو تجاهلها. وليس هناك بديل لهذا الإنكار - وهو في رأينا مصطنع أو غير واقعي - سوى بديل نموذج العالم الواحد الذي يقول إن هناك حضارة عالمية شاملة قائمة الآن أو إنها ستقوم في قادم الأيام. ولا يصمد هذا البديل أمام واقع الحياة، حيث يتحقق ناموس الحياة }وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا{. وفي هذه الآية الكريمة يتأكد أن العالم مكون من (شعوب وقبائل) وليس (التجاهل). ومن شروط (التعارف) أنه يتم في بيئة من السلم والعلم والتبادل والأخذ والعطاء.
ومن هذا القبيل - أي قبيل إلغاء التعددية الحضارية وطي مفهوم التعارف بين الأمم والدول - جاءت مقولة نهاية التاريخ. ففي إثر انهيار الاتحاد السوفييتي وانتصار الديمقراطية الليبرالية جرى تصوير أن هذا الانتصار يمثل نهاية التاريخ، بحيث لا يكون هناك (تاريخ جديد) ولا (انتصار جديد) وإنما نحن أمام ما يشبه (نهاية العالم). وترجع جذور هذه المقولة إلى الفرضية التي شاعت طوال عصر الحرب الباردة، وهي أن البديل الوحيد للشيوعية هو الديمقراطية الليبرالية، وأن زوال الأولى يؤدي إلى عالمية الثانية وسيطرتها على الكون ومستقبل البشرية بحيث لا يكون هنا (تاريخ) وإنما سيكون هناك (استمرار). وقد وصف هنتنغتن انتصار الغرب هذا بأنه «غرور أجوف ... والافتراض الشائع لدى أهل الغرب بأن الشعوب الأخرى التي تأخذ بالتحديث لابد لها من أن تصبح مثلنا هو نوع من الغرور الغربي الذي يوضح بنفسه صدام الحضارات» ذلك أن التصادم والتدافع بين الحضارات، كما هما بين الشعوب والدول، أمور ترتبط بالاختلاف في المعتقدات والعادات والأفكار والمطامع السياسية والاقتصادية وغيرهما. ولأنهما ليسا حتميين فإنهما لا يمنعان التعاون والتعايش بين الحضارات. وإذا كانت هناك حضارة مرشحة لأن تحقق السلم والوئام بين الحضارات من خلال التفاهم والتعاون واقتباس المفيد فهي الحضارة الإسلامية، لأن عناصر الوسطية متوافرة فيها. ولأنها تنظر إلى الإنسانية كلها على أنها أسرة واحدة، وأن جميع الناس من دون استثناء هم خلق الله، وأن الاختلافات الموجودة في العقائد والأفكار والألسن والألوان والعادات هي اختلافات طبيعية.
الحضارة الإسلامية هي المرشحة لتفهم سائر الحضارات الأخرى والتفاهم والتعايش معها. وإذا ما وجد تصارع بين الحضارات، فليست الحضارة الإسلامية هي التي بدأته. وشواهد التاريخ ووقائعه تثبت هذه الحقيقة.
تعرضت الحضارة الإسلامية - ولا تزال - لحملات متتابعة ومختلفة من التشويه. وإذا لم يكن من أهداف هذا البحث استعراض وقائع التاريخ المثبتة لهذا التشويه المقصود، فلا يفوتنا أن نشير إلى ما يتهم به المسلمون من عنف وإرهاب، وبخاصة حينما يتصدى الشعب الفلسطيني المسلم للاحتلال.
وعلى الرغم من استمرار تعرض الحضارة الإسلامية لهذه الحملات المتواصلة ضدها، لاتزال تمارس طريقة المجادلة بالتي هي أحسن، بكل ما تؤدي إليه من نتائج التبادل الفكري والتفاعل الاجتماعي والإنساني، باعتبارها من أصل التوجيه القرآني الذي ينظر إلى الإنسان من حيث هو إنسان، نظرة التقدير والإكرام. فلا توجّه إليه دعوة إلا مقرونة باللطف والإحسان.
ومادام الإسلام قد أقر مبدأ المجادلة بالتي هي أحسن لكل إنسان بوصفه إنسانًا، حتى ولو كان مشركًا أو وثنيًا، فلا غرابة في تخصيصه أهل الكتاب وأتباع الأنبياء بأرفع آداب الجدال والنقاش.
وهكذا حل الحوار في الإسلام في مكانة مرموقة بين مقاصد الإسلام ووسائل نشره بالإقناع والحجة. لقد كان تسامح السلطان صلاح الدين الأيوبي، باسم الإسلام، مع محاربيه من الفرنجة المعتدين (الحروب الصليبية) نموذجًا حضاريًا يؤكد جوهر الحضارة الإسلامية في التسامح.
كما أن المؤرخين المسلمين القدماء كانوا أطلقوا اسم (حروب الفرنجة) على ما نسميه اليوم (الحروب الصليبية)، ذلك أن أولئك المؤرخين كانوا يدركون أن غزاتهم، وإن كانوا يرتدون ألبسة تحمل شارة الصليب، لم يحضروا إلى فلسطين وما حولها بسبب الدفاع عن المسيحية وتحرير أرضها.
وفي التاريخ المعاصر دلائل تشير إلى العامل المعنوي الحضاري في مسيرة الأحداث. فقد عبر الجيش المصري في السادس من أكتوبر 1973م أكبر حاجز مائي في التاريخ. وقد تم في ظل نداء جماعي هو (الله أكبر). وقد كان لهذا النداء تأثيره المباشر في عمل الجندي المصري وأدائه حتى الاستشهاد. ولقد أجمع خبراء الإستراتيجية على تعظيم هذا العامل المعنوي الذي حقق معجزة بالمقاييس الغربية ذاتها. وهو ما لم يستطع هؤلاء الخبراء إدراكه إلا بعد أن تحققت المعجزة.
ونضيف إلى هذا عاملاً جد مهم أثبتت وجوده وعبّرت عن قيمته انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي. ففي تلك الانتفاضة التي بدأت يوم 28/9/2000م (انتفاضة الأقصى) كانت إرادة الاستشهاد لدى أبناء الشعب الفلسطيني سبيلاً لتعديل ميزان القوى، حيث كان الجيش الإسرائيلي، بكامل أسلحته وقوته، يعمل لوأد انتفاضة الشعب الفلسطيني الأعزل من كل سلاح، سوى الحجارة وإرادة الاستشهاد. ولقد كانت إرادة الاستشهاد هذا - بما له من معنى عقائدي عميق - ولا تزال أبرز أسلحة المجاهدين العرب لتحرير الأرض المحتلة.
وإذا كانت الحضارة ذاتها لا تحارب، وإنما هي تطبع سلوك أبنائها، فإن دراستها وفهمها ضروريان عند قراءة صراع ما، لتكون تلك القراءة شاملة جميع العوامل المادية والمعنوية المحركة للصراع والعاملة فيه.
إن إحياء سنّة الحوار، بأبعاده وآدابه ومواصفاته وخطابه، شرط لكي تقوم الأمة بدورها في بناء الحضارة، ذلك أن المساحة التي خصصها القرآن لـ (الآخر) تفوق المساحة التي تحدث عنها بالنسبة للعقيدة والعبادة والأخلاق في الإسلام، لأن هذه المرتكزات الإسلامية تتأصل وتتحقق بالحوار نفسه. وقد عرض القرآن (الآخر) بكل آرائه ومعتقداته وممارساته، ذلك أن الحوار هو إحدى الوسائل الكبرى للدعوة، والسبيل لإيصال الحق في الإقناع والبرهان وأدب التعامل. والإنسان هو المخلوق الذي لا ينفع معه الإكراه، وبخاصة أن التدين هو أرقى حالات الحرية والاختيار.
والحوار مع (الآخر) مطلب إسلامي، بل هو تكليف شرعي، يقع تحت مدلول الآية }أُدْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحَسنَة وجادلْهم بالتي هي أحسن{. وهكذا لم يقتصر القرآن على الأمر بالمجادلة، وإنما نص على أسلوبها، واشترط أن تكون بالتي هي أحسن، وأن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة. ونحسب أن المبادرة بالحوار، والدعوة إليه، تبدآن من عند المسلم، فهو أكثر حرصًا عليهما من (الآخر). ففي قوله تعالى }قُلْ يا أهلَ الكتابِ تعالوا إلى كلمةٍ سواء بينَنَا وبينَكم{. تكليف شرعي مجرد من الزمان والمكان. ويعني هذا أن لا عذر ولا مصلحة قط في إقفال باب الحوار مع (الآخر) أو إلغائه مهما كانت الأسباب.
إن أساس التحاور هو الآية الكريمة: }يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم{. لقد جعل هذا الحكم الإلهي التعارف هدفًا. وهو هدف مسبوق بالجهل الطبيعي بين الشعوب والقبائل. ذلك أن الجهل المتبادل لا ينتج إلا التفرق والتباعد. وحتى يتم إلغاء التفرق والتباعد، لا بد من أن يعرف الناس بعضهم بعضًا، وأن يتحقق أمر اجتماعهم ـ والنداء موجه إلى الناس كلهم وليس إلى فئة معينة منهم، وصلاح أمورهم. ومن الملفت للنظر هنا استخدام القرآن الكريم مصطلح (التعارف) الذي يعني تبادل المعرفة على قدم المساواة، من غير ترجيح جماعة على جماعة. وهو تكليف متوازن عادل في النظر إلى حقوق وواجبات الشعوب والأمم، وفي حضّ الناس قاطبة على التحاور من غير تخصيص لفئة أو تفضيل لأحد. وما ربط الآية التعارف بالتقوى سوى ربط للتحاور نفسه بهذه التقوى، فالأتقى هو الأكرم عند الله، وهو الأنفع لأخيه الإنسان وللمجتمع.
إن أبرز ما في منظومة القيم التي تتبناها الحضارة الإسلامية، الاعتراف بالآخر، أي عدم إقصائه أو إلغائه، ليس على المستوى الفكري فقط، وإنما على المستوى الفعلي أيضًا، وذلك باستمرار التحاور معه، ودعوته إلى الحق. وفي قوله تعالى: }قُلْ يا أهلَ الكتابِ تعالوا إلى كلمةٍ سواء بينَنَا وبينَكم{. مدى غير محدود للتحاور معه، ومعرفته والاعتراف به، لأن الإنسان هو محل الدعوة وهدفها والمجال الحضاري لدور الأمة، ولأن معرفة الآخر هي السبيل الصحيح للتعامل والتحاور معه، سواء كان غالبًا مسيطرًا بثقافته وحضارته، أم كان شريكًا، لأنه في نهاية المطاف، الهدف الذي تسعى إليه رسالة الإسلام. فالرسالة الحضارية الإسلامية تشتمل على بعدين: يرتكز أولهما على الذات ومعرفة إمكاناتها بدقة علمية، ويتوجه الثاني نحو معرفة الآخر، باعتبارها السبيل الصحيح للتعامل معه، أخذًا وعطاء، وتأثرًا وتأثيرًا. وتزداد هذه المعرفة وضوحًا ورسوخًا في عصر العولمة وثورة الاتصالات والإعلام.
ثمة نقطة مهمة يجدر بنا توضيحها، هي أن الفقه الإسلامي لا يكرّس (الصراع) كقانون تاريخي مطلق كما تقدمه المدرسة الواقعية في الفكر الغربي. وفي الفقه الإسلامي أن التدافع سنة من سنن الاجتماع البشري إلى جانب سنن الله الأخرى، كما أن فقهه ومنطقه يختلفان كل الاختلاف عن مفهوم الصراع. ذلك أن الجهاد في معناه ليس صراعًا مع الآخر للقضاء عليه، كما أنه ليس لتأكيد هيمنة قوم على قوم أو ثقافة على ثقافة، ولكن لتحقيق أهداف الدعوة والرسالة باعتبارهما موجهين إلى العالمين ليس بالإكراه والقسر. ومن هنا فلنا أن نعدّ أن منطق صدام الحضارات يعكس التناقض بين عالمية الإسلام من جهة وهيمنة الحضارة الغربية من جهة أخرى، في حين أن الحوار يغير طبيعة هذا التناقض.
ويتمثل الإسهام الحضاري للأمة الإسلامية في عالم الغد في المشاركة في صوغ الحضارة الإنسانية، وبخاصة بعد أن تتالت التقويمات الخاصة بالهوة الواسعة بين غنى الحضارة الغربية بالماديات وفقرها بالروحيات، ذلك أن الحضارة الإسلامية هي القادرة على إغناء ذلك الجانب من الحضارة، بما تملكه من مصادر ثابتة وثرّة، وبخاصة أن الإسلام يبني أحكامه على أساس التقاء الشعوب والدول على مبدأ السلام العالمي، ويرفض فكرة الحرب لذاتها، ويجعل الجهاد وسيلة لأهداف هي نصرة المظلوم وحفظ حقوق الناس في حرية المعتقد وغيرها من الحريات الفردية والجماعية.
ودعوة الإسلام هذه للسلام العالمي مبنية على التسامح والتعاون بين البشر، حتى مع المخالفين له في العقيدة، فهما وسيلته إلى تجنّب التحاسد الفردي، والتطاحن الطبقي، والتناحر العنصري، والتعصّب الديني، وإلغاء الحروف والصراعات المسلحة القائمة على تلك الأسباب وعلى الرغبة في الفتح والتوسع ونهب خيرات الآخرين.
وفي مقابل أطروحة الصدام بين الحضارات، تتصف الدعوة إلى التحاور بين الحضارات بمبدأ الاعتراف بالآخر وبحق الاختلاف، وبرفض أي نزوع لمحاولة الابتلاع أو الاحتواء، أو الاستيلاء على الأرض أو مصادرة الحقوق. إن التحاور يعني الانطلاق من الاعتراف بعوامل وأسباب التمايز والخصوصيات. أحد أهداف التحاور هو التعرف إلى تلك العوامل والأسباب، وترسيخ مبدأ الاعتراف بالآخر، والسعي لتخفيف حدة عوامل الاختلاف، وتذليل عقبات التفاهم. إن ذلك كله يندرج في إطار ما يسمى الآن (الديمقراطية الحضارية) ، التي تدعو إلى التفاعل بين الحضارات على أساس التفاهم وليس التصادم.
لا ريب في أن منطلقنا للتحاور مع الآخر، هو القيم والتصورات السائدة في الفكر الإسلامي عن (العالم) وبخاصة الغرب منه وحضارته. وتندرج في دائرة القيم والتصورات نظرية (المؤامرة العالمية) التي تهدف إلى منع تحقيق أي انتصار عربي أو منع تحقيق أي مشروع عربي جماعي. لا ريب في أن هذه النظرية تتصف بالمبالغة والتهويل. فمن الطبيعي أن يكون ضعف الجسم العربي مدعاة لتحرك الأمراض والجراثيم فيه. وما يهمنا في حوار الحضارات هو أن نوضح (خصوصية الأمة العربية)، من حيث وحدتها (كأمة) ولغتها ودينها وتاريخها وثقافتها الإسلامية.
وإذا كانت الحضارة الإسلامية تلتقي مع الحضارات الأخرى في عوامل متعددة، فإنها تفترق عنها جذريًا في عامل رئيسي، هو الدين الذي ترتبط به الحضارة الإسلامية، فهو محرّكها وموجّهها. ولا يعني هذا أن الحضارة الإسلامية حضارة دينية (ثيوقراطية) بالمعنى المقدس، بل هي فعل إنساني معياره الذي يقاس عليه هو الدين. وهذا الرابط الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية، وهو الذي يحدد دورها في المستقبل، وبخاصة أنه أكّد الانتماء الإنساني الواحد، وقدّم عامل الوحدة الإنسانية على عوامل الفرقة، وكرّم الإنسان لإنسانيته، وبذلك جاءت مساحة الإنسان والإنسانية في الخطاب القرآني واسعة ومتنوعة.
إضافة إلى هذا، فإن الحضارة الإسلامية إذ تنطلق من الإسلام، فإنها لا تعني أنها الإسلام ذاته، بل هي الفعل الإنساني للمسلم. وهذا الفعل ينطلق من المبادئ والتصورات والرؤى التي يحملها المسلم. لذا فإن الحضارة الإسلامية حضارة مستمرة لا تعرف الاندثار. فهي قد تتراجع أو تقصر عن الإسهام في صوغ الحضارة الإنسانية في فترة تاريخية محدّدة، لكنها تختزن دائمًا مقومات النهوض، مادامت هي فعل المسلم ذاته.
ولعل من الأمور الجديرة بالاهتمام، أن الاستقراء الأمين للتاريخ الحضاري للأمم، يثبت أن الحضارة الإسلامية كانت ولا تزال عصية على التذويب والذوبان، وأنها لم تخضع لما سمي قانون الدورات الحضارية، بحيث تمر بمرحلة الشباب والفتوة الحضارية، ثم مرحلة الشيخوخة حتى الانقراض. فالحضارة الإسلامية لم تكن حكرًا على جنس أو لون أو قوم، وإنما اتجهت صوب المشترك الإنساني. وهي وإن أَفَلت في مكان، أشرقت في مكان آخر. لذلك نجد عطاءها اليوم ممتدًا في الزمان والمكان، من أكثر المناطق تخلفًا إلى أكثرها تقدمًا.
إن إقامة حوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية يتطلب رضى الطرفين على بدء الحوار بعد وضع أسسه وأهدافه. ولكن الغرب يقوّم ـ سلفًا ـ الطرح الإسلامي بشأن الحوار على أنه سعي نحو التخلص من الهيمنة الغربية، كائنًا ما كان شكل تلك الهيمنة ومجالها. لاشك في أن مشكلتنا، كأمة عربية جزء من الحضارة الإسلامية، مع الغرب وحضارته هي مشكلة سوء تفاهم، فالغرب يفهمنا جيدًا، ولكنه يرى أن مصالحه الاقتصادية وأمنه وقيمه الحضارية مهددة بالخطر إذا ما حقق العرب هدفهم في الوحدة، أو أصبحوا أهل وزن استراتيجي واقتصادي وسياسي وحضاري ثقيل.
إن لعداء الغرب للعرب أربعة أسباب موضوعية: (أولها: الموقع الاستراتيجي المهم الذي يشغله الوطن العربي على مقربة أوروبا. وثانيها: النفط، الذي يعتقد الغرب أن من حقه أن يحصل عليه بالثمن الذي يناسبه وبالكمية التي يحتاجها. وثالثها: إسرائيل. ورابعها: الحسابات التاريخية الحضارية المعلقة منذ القدم والتي لم تنجح حقبة الاستعمار والانتقام التي تميزت به من تصفيتها في وعي الغرب والعنصر الحساس في هذا الحساب هو الإسلام).
وبعبارة أخرى، فإن لقبول الغرب العرب شروطًا هي (أولها: أن يؤمنوا ويتصرفوا على أساس أنهم ليسوا أمة ولا كتلة ولا جماعة، بل أقوامًا وأقليات متناحرة متناقضة. وثانيها: الإقرار للغرب بحق السيطرة على النفط العربي كمية وسعرًا. وثالثها: الاعتراف بإسرائيل والتسليم لها بكل فلسطين، والتفوق الاستراتيجي على العرب مجتمعين. ورابعها: التخلي عن الإسلام واعتباره دينًا متخلفًا وهمجيًا وداعيًا للعنف والإرهاب).
إن أسباب عداء الغرب وحضارته للعرب وللحضارة الإسلامية محسوبة ومعروفة. وهي ليست نزوة أو خضوعًا لدعاية أو ناشئة عن نقص في المعلومات. ويعني هذا أن المشكلة ليست إعلامية، بل إستراتيجية واقتصادية وسياسية.
ثمة من يعرّف الحضارة على أنها هي تقدم المجتمع البشري. بيد أن المفهوم الإسلامي يشترط أن تبنى الحضارة على أساس معايير إنسانية، أو على معايير التقوى والتعبير القرآني ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾. فالقوة المادية وحدها هي سبب البطش والتجبر. وهي تبقى كذلك إذا لم تكن مقرونة، أساسًا، بقيم إنسانية جوهرها التقوى.