التعليم والديمقراطيّة و"الربيع العربيّ
معظم نظم التّعليم العربيّة لا تُعدّ الطلّاب للمنافسة في مجتمع اليوم العالميّ الديمقراطيّ.بطبيعة الحال، ثمّة اختلافات كبيرة بين البلدان العربية وداخل كلّ بلدٍ عربيٍّ (مثل الاختلافات بين المناطق الحضريّة والريفيّة). بعض المدارس في عددٍ من الدول العربيّة، مثل مصر والأردن ولبنان والإمارات العربيّة المتّحدة، تُقدّم تعليماً عالي الجودة، ذا نوعيّة عالميّة. ومع ذلك، فإنّ جميع نُظم التّعليم في العالم العربيّ تقريباً تُعاني من عيوبٍ كبيرةٍ، ولا سيّما في ما يتعلّق بالحوكمة والمُعلّمين.
التعليم الجيِّد يتطلّب حُكماً رشيداً، لكنّ ذلك غير موجودٍ في المنطقة على مستوى الحكومة المركزيّة والمدرسة المحليّة.وزارات التربية والتعليم تضطلع بدورٍ مركزيٍّ للغاية، ولا تزال تخضع لسيطرة نُظُم الإدارة السلطويّة. وعلاوةً على ذلك، تفتقر معظم الوزارات إلى الرؤية والتّخطيط الاستراتيجيّ المُناسب، والوحدات الإشرافيّة الكفؤة، والموارد البشريّة المختصّة. وبما أنّهم يعملون في ظلّ ظروفٍ غير مواتيةٍ للتطوّر، فإنّ الأشخاص الذين يقودون أيّ مبادراتٍ جديدةٍ سوف يواجهون مجموعةً من العقبات البيروقراطيّة، بما في ذلك الموظّفين غير الأكفاء، والذين يعتبر الكثيرون منهم فاسدين، ومقاومين للتغيير أو غير مهتمّين.
لا يزال التّدريس في معظم الدول العربيّة توجيهيّاً، يوجّهه المُعلّم، ولا يؤدّي إلى تشجيع التّفكير التّحليليّ الحرّ. وفوق ذلك كلّه، فإنّ البلدان العربيّة تُعاني من نقصٍ في المُعلّمين المؤهّلين، ومعظم الذين يعملون حالياً رواتبهم متدنية نسبيّاً، وفُرصهم في الإنماء المهنيّ محدودة.
لماذا هناك حاجة ملحّة لإصلاح التّعليم في المنطقة؟
التّعليم الجيّد ضروريٌّ للتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة. التنمية الاقتصاديّة المستدامة في القرن الحادي والعشرين تتطلّب كفاءاتٍ رئيسة معينة للتعلّم مدى الحياة، التي يجب أنْ تُعلّمها المدارس. فالمهارات مثل التّفكير النّقديّ، وحلّ المشكلات، ومحو الأمّيّة الرقميّة، والمسؤوليّة الاجتماعيّة والمدنيّة تمثّل ضرورةً للداخلين الجُدد إلى سوق العمل العالميّة. لكن معظم الأنظمة العربيّة الحاليّة غير قادرةٍ على تعليم الطّلاب بشكلٍ كافٍ في هذه المجالات الحيويّة.
أكثر من ذلك: الشّباب في العالم العربيّ - ثلث سكّان العالم العربيّ تحت سنّ الخامسة عشرة - سوف يقودون ويشكّلون المجتمعات والحكومات في المستقبل القريب جدّاً. فالاستثمار في مجال إصلاح التّعليم اليوم لتشجيع المواطنة المسؤولة سوف يُحدث الفرق بالنسبة إلى الديمقراطيّة العربيّة في الغد.
كيف يرتبط التّعليم والديمقراطيّة؟
العديد من برامج التّعليم في البلدان الديمقراطيّة النّاضجة تعلّم المهارات والقيم التي تعتبر بالغة الأهمّيّة للعمليّة الديمقراطيّة وتؤثّر في نوايا الطلاب واستعداداتهم للمشاركة المدنيّة والسياسيّة. أفضل الأمثلة على النُظم التعليميّة الفعّالة في التربية على الديمقراطيّة تشمل فنلندا والدنمارك وكوريا الجنوبيّة.
تشجّع هذه البرامج سلوكيّات مثل المسؤوليّة الاجتماعيّة والأخلاقيّة والفعاليّة الشّخصيّة، وتوفّر للطلاب فرصاً لمُمارسة المهارات المدنيّة مثل حلّ المشكلات، والكتابة المقنعة، والتّعاون، وبناء التوافق في الآراء، والتواصل مع المسؤولين الحكوميين حول قضايا مُثيرة للاهتمام. وباكتسابهم هذه المعارف والمهارات، يُصبح من المرجَّح للطلاب أنْ يخدموا ويحسّنوا المجتمعات من حولهم.
ما هي التربية من أجل المواطنة؟
التربية من أجل المواطنة هي في صلب عمليّة تدريس الطلاب العرب المهارات اللازمة لكي ينجحوا في بيئةٍ عالميّةٍ وديمقراطيّةٍ وتنافسيّةٍ. المفهوم يشمل أمرين اثنين: "التربية حول المواطنة" و"التربية من خلال المواطنة".
التربية حول المواطنة هي ببساطة الحدّ الأدنى من دروس التربية المدنيّة التي توفِّر معرفةً وفهماً حول التّاريخ والسياسة. التربية من خلال المواطنة تمنح الطلّاب خبرةً عمليّةً في العمليّة الديمقراطيّة، وتُعلّمهم من خلال المشاركة في الأنشطة المدنيّة داخل المدرسة، مثل التّصويت لمجلس المدرسة وخارج المدرسة، والانضمام إلى جماعةٍ بيئيّةٍ في المجتمع.
التربية من أجل المواطنة تُغطّي أهداف هاتين المُقاربتين؛ وبما أنّها تستهدف، إضافةً إلى ذلك، القيم والميول الفرديّة، فإنّها ترتبط مع تجربة الطلّاب الكاملة في المدارس. هذه القيم تُعزّز الأهداف الوطنيّة الأكثر شيوعاً للتربية المواطنيّة في كثيرٍ من البلدان: تطوير قدرات الفرد وتعزيز تكافؤ الفرص وقيمة المواطنة.
كيف يرتبط إصلاح التعليم بالصّحوة العربيّة؟
في ظلّ الحكم السلطويّ، كان الطلاب يُعلّمون في المقام الأول أن يكونوا رعايا طيّعين للدولة، وكانت تتمّ محاولة منع التفكير الخلّاق. كما كانت المعلومات تعامل على أنّها غير قابلة للنّقاش؛ إذ ما من ديكتاتور يرغب في أنْ يتحدّى رعاياه سلطته.
الآن، وفيما تبدأ بعض أجزاء العالم العربيّ، من مصر واليمن إلى ليبيا وتونس، عمليّة إرساء أسس الديمقراطيّة، فإنّ الحقيقة البديهيّة، ولكن غالباً ما يتمّ تجاهلها، هي أنّ الديمقراطيّة لنْ تزدهر إلّا في ظلّ ثقافة تقبل التنوّع وتحترم وجهات النّظر المختلفة، وتنظر إلى الحقائق على أنّها نسبيّةٌ، وتتحمّل المُعارضة، لا بل تُشجّعها.
بعد عقودٍ من الحكم السلطويّ، سيكتشف النّاس في البلدان التي تشهد انتفاضاتٍ شعبيّةً أنّ مجتمعاتهم غير مجهّزةٍ بالمهارات والقيم اللازمة لقبول قواعد سلوكٍ تعدّديٍّ مختلفةٍ. ويتطلّب جعل هذه المجتمعات ديمقراطيّة حقاً تغييرات، ليس في بنيتها السياسيّة (قوانين انتخابيّة ودساتير، إلى ما هنالك)، وقيادتها وحسب، بل أيضاً تغييرات جادّة ومستدامة في أنظمتها التعليميّة.
إنّ تشجيع الديمقراطية وتوطيدها هو مفتاح التحوّلات السياسيّة الجارية حاليّاً، وثمّة حاجة ملحّة لإصلاح التعليم من أجل تعزيز المواطنة، إذا ما أريد للديمقراطية أن تترسخ في العالم العربي.
ما الخطوات التي يجب أن تتخذها الحكومات العربيّة لتحسين أنظمتها التعليميّة؟
تركّز الجهود الحاليّة لإصلاح التّعليم في المنطقة بشكلٍ كبيرٍ على تغييراتٍ قابلةٍ للقياس، مثل بناء المزيد من المدارس، وإدخال أجهزة الكمبيوتر إلى الفصول الدراسيّة، وتحسين درجات الاختبار في الرياضيّات والعلوم. وفي حين أنّ هذا التركيز على الجوانب "الفنيّة" ضروريّ وهامّ، فإنّه يفتقر إلى عنصرٍ إنسانيٍّ أساسيٍّ. العالم العربيّ بحاجةٍ إلى مقاربة نظامٍ شاملة وكاملة، لا تتجاهل أو تُهمّش عنصر المواطنة. الطلّاب بحاجةٍ إلى أنْ يتعلّموا في سنٍّ مبكرةٍ جدّاً ماذا يعني أنْ يكونوا مواطنين يُفكّرون بحرّيّةٍ، ويسعون إلى تحصيل المعرفة وإنتاجها. يجب أنْ يتمّ تعليمهم أنْ يطرحوا الأسئلة ويبتكروا.
ينبغي أن يتمّ تحويل الفصول الدراسيّة العربيّة إلى المناقشة المفتوحة، والتأكيد على التعلّم النّشط.بهذه الطريقة، يُمكن تعليم الطلّاب -ليس فقط من خلال التّعليم الصفّيّ -ولكنّ الأهمّ من ذلك، من خلال الممارسة، أنْ يكونوا أعضاء مستنيرين وذوي تفكيرٍ مستقلٍّ في المجتمع.وقد تبيَّن أنّ هذا الأسلوب أكثر فعّاليّة من المقاربة القائمة على المُحاضرات السّائدة في مختلف أرجاء العالم العربيّ.وقد تأكّدت فعاليّته في «الدراسة الدوليّة للتربية المدنيّة والمواطنة (ICCS)لسنة 2009، التي وجدت أنّ مناخ الفصول الدراسيّة، الذي يُساعد على الوصول أكثر إلى مستوياتٍ عاليةٍ من المعرفة المدنيّة يتميَّز بالانفتاح على مناقشة القضايا السياسيّة والاجتماعيّة.
وهكذا، فإنّ تدريب المعلّمين ذوي الكفاءة العالية والحفاظ عليهم، خصوصاً أولئك القادرون على تعزيز الحوار والنّظر إلى القضايا من وجهات نظرٍ متعدّدةٍ، أمر ضروريّ بصورةٍ مطلقةٍ. وعندما يصل إلى الصّف الثاني عشر، يجب أن يكون الطالب قادراً على حلّ المشاكل، والكتابة بشكلٍ مقنعٍ، والتعاون، وبناء التوافق في الآراء، والتواصل مع المسؤولين المنتخبين.
ولعلّ أكبر تحدٍ يواجه تنفيذ هذا النوع من الإصلاح التعليمي ليس ذا طبيعة فنية، ولكنه تحدٍّ يرتبط بالإرادة السياسية.ومستقبل المجتمع العربي يعتمد على التغلب على هذا التحدي.