ثقافة الحوار وسيلة حضارية لإدارة الاختلاف و أداة للتفاعل الحضاري الخلاق
يقاس تطور المجتمعات الإنسانية بمدى قدرتها على الحوار للوصول إلى الحلول الناجعة لمشكلاتها، إضافة إلى ما تمتلكه من تطور في المجالات الحضارية المختلفة. أما ثقافة الحوار فتبدأ من محاسبة النفس والصدق معها، والحوار مع الآخر، والإيمان بحقوقه.
المقصود بثقافة الحوار قبول الآخر بما هو عليه من اختلاف، واحترامُ التعددية، وتفعيل قيم التسامح ونقد الذات والاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه. ومن هنا فثقافة الحوار هي التي تعصمنا من الاختلاف المذموم وتجعله اختلافاً محموداً وتعلمنا فن إدارة الاختلاف بما يجعل من التمايزات بين البشر مصدر ثراء وتنوع وأداة للتفاعل الحضاري الخلاق تتيح للشعوب «التعارف» وتبادل الخبرات والتجارب والمعارف بين بعضها، وثقافة الحوار تفرض علينا خيار الحوار العقلاني وسيلة حضارية لإدارة الاختلاف، بتفعيل حالة الحوار الداخلي بين القوى والأطياف المجتمعية دون إقصاء أو تخوين لأحد.
مقومات ثقافة الحوار
لعل أهمها أن ثقافة الكراهية التي تنشغل بعيوب الآخر وتضخمها بهدف الإثارة والحشد، لا تؤسس لثقافة حوار ناجح، وثقافة الحوار التي ننادي بها تنشغل بعيوبها أكثر من عيوب الآخر، وليس التركيز على سلبيات الآخر وتجاهل إيجابياته. والمقوم الآخر لثقافة الحوار «إحسان الظن» بالمخالف، وهذا يعني نبذ نظريات التآمر والتربص والغزو الفكري لأنها قائمة على أوهام سيئة لا أساس موضوعياً لها إلا الظن، وهو لا يغني من الحق شيئاً. والمقوم الثالث للحوار تجنب ما فيه تشكيك في معتقد الآخر وهو للأسف منهج سائد بين الفرق سياسية أو دينية أو فكرية، وما أكثر إطلاق أحكام التخوين والتكفير. المقوم الرابع للحوار هو «حسن الإصغاء» للآخر، وقد بيّنت دراسة أن المجتمع العربي تغيب عنه ثقافة أو فن الإصغاء للآخر، فالكل يقاطع الكل والكل يتكلم ويصرخ في وقت واحد، وهناك بعض البرامج الحوارية في الفضائيات خير دليل. المقوم الرابع للحوار «الإيمان بأن الحوار ليس حكراً على مذهب» وأن الإسلام أكبر وأرحب من أن يختزل في مذهب أو تفسير أو اجتهاد واحد.
ما مدى نجاح ثقافة الحوار مستقبلاً؟
إن ذلك مرهون بقدرتنا على تفكيك المنظومة الثقافية الموجّهة للفكر والسلوك المجتمعي وفق رؤية نقدية ومراجعة شاملة من أهم ركائزها: الإيمان بأن الاختلاف حقيقة إنسانية وكونية يجب القبول بها، وإحياء البعد الإنساني المغيّب عن مجمل الخطابات المجتمعية: الدينية والتعليمية... إلخ، والتركيز على القواسم الثقافية والدينية المشتركة طبقاً لقاعدة «نتعاون فيما اتفقنا ونعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا»، إضافة إلى الإقلاع عن عادة «لوم الآخر» وتفعيل ثقافة «نقد الذات» وثقافة «الاعتذار». لقد اعتذر ۳۰۰ عالم مسيحي عن الحروب الصليبية والأضرار الناتجة على المسلمين من الحرب على الإرهاب طالبين الصفح من المسلمين، وذلك رداً على رسالة بعثها ۱۳۸ عالماً مسلماً إلى الفاتيكان، وتعزيز قيم المواطنة رابطاً أعلى فوق كل الروابط، وإصدار تشريعات تجيز مقاضاة دعاة «الكراهية» و«التحريض» على الجهاد، وإبعاد دعاة الكراهية عن منابر الخطابة والتوجيه والتعليم، وتجريم استخدام منابر بيوت الله في غير أهدافها المشروعة، وضبط ومراقبة الفتاوى التي تدعو للكراهية أو تكفر أو تخوّن، ، وتدريس مقرري (ثقافة الاختلاف) و(ثقافة الحوار) ضمن التعليم العام، والتوسع في سياسة إنشاء المراكز الحوارية، وإشاعة تربية الفرح والبهجة ومحبة الناس والحياة في نفوس أولادنا، بالانفتاح على الثقافات والفنون.
ثقافة الحوار في الإسلام
في ثقافتنا الإسلامية أن «رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». نفهم من ذلك أيضاً أنه ليس لأحد أن يدعي الحقيقة المطلقة، وليس له أن يخطئ الآخرين لمجرد اقتناعهم برأي مخالف فالحقيقة نسبية، والبحث عن الحقيقة حتى من وجهة نظر الآخر المختلف طريق مباشر من طرق المعرفة، وهو في الوقت نفسه أسمى أنواع الحوار.
وفي ثقافتنا الإسلامية كذلك، أن الحوار يتطلب أولاً وقبل كل شيء الاعتراف بوجود الآخر المختلف، واحترام حقه ليس في تبني رأي أو موقف أو اجتهاد مختلف فحسب، بل احترام حقه في الدفاع عن هذا الرأي أو الموقف أو الاجتهاد، ثم واجبه في تحمل مسؤولية ما هو مقتنع به.
وأن الحوار يحتم وجود الآخر، والآخر قد يكون فرداً وقد يكون جماعة. وفي الحالين، قد يكون مؤمناً، وقد يكون كتابياً وقد يكون كافراً. الآخر المؤمن هو للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، والآخر الكتابي في المجتمع الإسلامي هو في ذمة المسلم * والرسول يقول «من آذى ذمياً فقد آذاني». أما الآخر الكافر، فالعلاقة معه مبنية على قاعدة «لكم دينكم ولي ديني». وفي كل الحالات، فان العلاقة بين المسلم والآخر يختصرها الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول محمد (ص) «المسلم من سلم الناس من يده ولسانه».
والإسلام يقرر الاختلاف كحقيقة إنسانية طبيعية، ويتعامل معها على هذا الأساس {يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} (سورة الحجرات، الآية ۱۳). وخلق الله الناس مختلفين اجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ولكنهم في الأساس «أمة واحدة»، أي إن اختلافاتهم على تعددها لا تلغي الوحدة الإنسانية.
وفي الختام يجب ألا ننسى أن أهم المحاضن الحوارية في المجتمع تكمن في ثلاث مؤسسات، تبدأ بالمنزل وتمر بالمدرسة و تنتهي بالحياة الاجتماعية، وإذا غابت ثقافة الحوار في الأسرة فسوف ينتقل ذلك إلى المدرسة والعلاقات الاجتماعية وبذلك «لا يصلح العطار ما أفسد الدهر».
المصدر: صحیفة "الوطن" السوریة