صورة الإسلام في الإعلام الغربي والإرث الاستعماري

د. مازن النجار   
[صورة الإسلام في الإعلام الغربي والإرث الاستعماري]

في العامين الماضيين، أثارت الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية المسيئة للنبي عليه الصلاة والسلام، ثم ملاحظات بابا ‏الفاتيكان حول الإسلام عواصف غضب بين ملايين المسلمين في أرجاء العالم، ورافقتها تغطيات إعلامية كثيفة لأعمال ‏احتجاج، وآلاف المقالات والتحليلات التي حاولت تفسير الأحداث ودلالاتها على مستوى العلاقات بين العالم الإسلامي ‏والغرب، والبعد الديني والعقدي والثقافي في العلاقات الدولية، ودور الثورة الإعلامية والعولمة في إعطاء الأحداث قدراً ‏أكبر من البروز والاتساع عالمياً. ورأى البعض في الحالة تجسيدا لـ "حتمية" ما يسمى بصدام الحضارات، وتداعياته على ‏مستقبل السلم العالمي والتفاعل المنشود بين مكونات الإنسانية.‏

من ناحية أخرى، تفاوتت المواقف وردود الفعل في الغرب، بين مستنكر للعدوان على المقدسات ورموزها مطالبا بتوسيع ‏نطاق التفهم والتسامح لترسيخ تعددية حضارية كونية تحترم وتقبل الآخر؛ وبين مستهجن لرد فعل المسلمين باعتباره تعصباً ‏وتخلفاً وعجزاً عن اللحاق بقيم العالم الحديث.‏

لكن القليل من الجهد قد بذل نحو استجلاء الخلفيات التاريخية والمعرفية الغربية، والتي تبين السياقات الثقافية والسياسية ‏والإعلامية في الغرب، وتشكل الوعي والموقف الغربي تجاه الآخر، وتنعكس على صورة الإسلام في الإعلام والأدب ‏والفن. في هذا الصدد، نعود إلى رؤيتين لمفكرين عربيين، وهما تلقيان أضواء كاشفة على خلفيات هذه القضايا وتفسر آليات ‏إنتاجها التاريخية والموضوعية.‏

فالمفكر الراحل إدوارد سعيد يرى في الإرث الثقافي الاستشراقي الغربي -بتحيزاته الكامنة ضد الآخر وتمركزه حول ‏الذات- مصدرا هاما في تشكيل الوعي الغربي بالشرق؛ بل قام بـ "شرقنة وتنميط" الشرق، ونسج من إنشاء الرحالة ‏ودراسات المستشرقين وخبرات القناصل والمبشرين والتجار مخزوناً ضخماً من الإثارة والغرائب التي تأسست عليها ‏التمثلات والتعبيرات والصور الغربية عن الشرق في الأدب والفن ثم الإعلام.‏

أما المفكر عبدالوهاب المسيري فيرى أن الرؤية المعرفية الغربية ذات سمة إمبريالية كامنة في نظرتها للإنسان والطبيعة ‏والمقدس. فهي تميل إلى نزع القداسة عن الإنسان، بل تدعو إلى غزوه وتسخيره وإخضاعه دون اعتبار لأي معايير ‏أخلاقية، باستثناء القوة. وتتبنى هذه الرؤية المعرفية علمانية لا تفصل المؤسسة الدينية عن الدولة كما هو شائع، بل تعزل ‏القيم المطلقة (المعرفية والأخلاقية) عن الحياة. وتتماهى في هذا السياق الرؤية المعرفية العلمانية مع الرؤية المعرفية ‏الامبريالية، بحيث تصبح الامبريالية نقلا للمنظومة المعرفية والأخلاقية العلمانية من الغرب إلى العالم. سنؤجل عرض ‏رؤية الدكتور المسيري إلى الأسبوع القادم إن شاء الله.‏

الأنا والآخر

يعرض هذا المقال رؤية المفكر الراحل إدوارد سعيد حول جذور النظرة الإعلامية والثقافية التي لدى الغرب عن الإسلام ‏ودوافعها ووظيفتها من خلال أعماله الفكرية. يرى إدوارد سعيد أن تلك النظرة تخدم وظيفة محددة تلائم الإعلام الغربي. ‏فهي بطاقة أيديولوجية تعميمية سهلة الاستخدام يلصقها الإعلام الغربي بأناس محددين ومنطقة محددة، وتنطوي على أن ‏الآخر (المسلمين) يختلف عن الأنا (الغرب). فالغرب متقدم ويمارس الحداثة، بينما العالم الإسلامي متخلف ويفتقر للتحديث. ‏والغرب يصنع النظام الدولي، ويدير العولمة ويحتكم للمصالح وحسابات المنافع الاقتصادية الباردة؛ بينما الإسلام لا يندمج ‏بسهولة في النظام الدولي الذي تحكمه المصالح، بل ويتبنى نوعاً مختلفاً من الحسابات يقوم على القيم الدينية.‏

يقول إدوارد سعيد أن الغرب يظن الشرق مستغرقا في أربع خصال ثقافية سلبية هي: 1) لا يحكم العقل في اختياراته، أي ‏أنه لاعقلاني؛ 2) يعتمد على عقلية البازار (السوق الشرقي) الذي يعتمد على الكسب السريع والذي ينعقد وينفض في فترة ‏قصيرة فلا تسود فيه علاقات ثقة بين المتعاملين طويلة الأجل؛ 3) نرجسي لا يشعر بوجود الآخر، سواء كانت المرأة أو ‏الآخر الحضاري؛ 4) لغات الشرق تنفصل عن الواقع، وتغرق في التصوف واللامادية.‏

لكنه يؤكد أن كل هذه الاتهامات يمكن أن تنطبق بالضبط على الحضارة الغربية. فاللاعقلانية الغربية تعبر عن نفسها في ‏أعمال صمويل بيكيت، ويمكن إضافة يوجين يونسكو وأرابال والسرياليين. وعقلية البازار الشرقية تجد ما يفوقها تطرفاً في ‏بورصة نيويورك. والنرجسية الغربية تتجلى بشكل منهجي في فلسفات جان جاك روسو، وقد يضاف إليه بيركلي وماكس ‏شترنر. أما الانفصال عن الواقع والتصوف واللامادية والهروب من الواقع فهو موجود في الأدب الغربي منذ كتب الشاعر ‏أوفيد "مسخ الكائنات".‏

بيد أن المسألة ليست في تبادل الاتهامات، فمن الخطأ القول بأن لثقافة ما نقيصة تخصها، ويندر أن نجد مثلها في الثقافات ‏الأخرى، أو أن نستخدم -ما نظنه- خصائص تميز ثقافة ما، لنفاضل بينها وبين ثقافة أخرى.‏

جذور النظرة الغربية للآخر

تبلورت نظرة الغرب إلى "الآخر" وتوقفت عند أواخر مراحلها في عصور الكشوفات البحرية التي بدأت مع عصر النهضة ‏‏(الرينسانس)، حين اكتشف الرحالة الأوروبيون الشعوب البدائية الأخرى في الأراضي مترامية الأطراف التي وصلها ‏فاسكو دا غاما وماجلان وكريستوفر كولومبس وغيرهم. ولهذا اقترنت نظرة الغرب للآخر بتفوق الغرب النابع من النهضة ‏وتأخر الآخر، الذي رآه الغرب سادراً في التخلف، حين صادفه فقيراً حافياً وعارياً، لا يكاد يجد ما يستر جسده.‏

لذلك كان من الطبيعي أن ينسى الغربيون العصور الوسطى التي غرقوا هم في ظلامها، بينما أنار فيها الإسلام العالم. وهكذا ‏أصبحت الثقافة الغربية تؤدي الدور الذي تؤديه أغلب الثقافات لكل الأقوام، وهو أن تعزز الإحساس بالقوة والمنعة وتلهيهم ‏لحظات النصر عن أوقات الضعف. ‏

تكمن المشكلة في طغيان الثقافات الشعبية على الإعلام في الغرب، وغياب النظرة النقدية، وسيادة التحيزات المركزية التي ‏تقدس الأنا وتنبذ الآخر. يؤكد إدوارد سعيد أن سر تحيز الإعلام الغربي وكثير من دراسات الاستشراق المعادية للشرق، ‏إنما يكمن في الدور السلبي الذي لعبته الشركات الغربية في نفي سمة التسامح عن نظرة الغرب إلى الإسلام.‏

الاستشراق والاستعمار

قد لا تزال كثير من الشركات الغربية تتحسر على ماضيها التي كانت فيه تعمل في مستعمرات العالم الإسلامي، وتنهب ‏المواد الخام وفق امتيازات احتكارية منحها الاستعمار. ومن هذا المنطلق يفسر إدوارد سعيد منطق دراسات الاستشراق ‏نفسها. فالمستشرق هو باحث يذهب إلى بلاد الشرق ليدرسها، ولم يحدث أن تم هذا فقط من خلال دراسته لكتب الشرق. بل ‏كان على الباحث الغربي أن ينتقل بنفسه إلى البلاد الشرقية. وغالباً ما كان ذلك يتم أثناء حملات الغزو مثل حملة نابليون ‏على مصر. ولهذا كان المستشرقون يكتشفون الكتب الشرقية ويحققونها. مما يدل على أن درسهم للشرق كان يتم داخل ‏المواقع والبلدان ذاتها. وهذا كان في أغلب الحالات يستدعي الاستناد إلى قوة عسكرية ومدد تمويني ولوجيستي كبير، يوفر ‏للمستشرق الغربي فرصة القيام بعمله طوال فترة زمنية ليست بالقصيرة. وهذا يعني أن الاستشراق والاستعمار صنوان.‏

لم يقصد إدوارد سعيد أن كل جهود الاستشراق كانت تهدف إلى الاستعمار، ولكنه يؤكد أن دوافعه الأولى كانت استعمارية، ‏ويقول أن طريقة عمله نشأت في أحضان مؤسسة الاستعمار، وأن جزءا لا يستهان به من نتائج الاستشراق كانت أيضاً ‏استعمارية الهدف، نظراً لكونها استعمارية المنشأ.‏

كان هناك بالطبع بعض النتائج الإيجابية التي نجمت عن الاستشراق، ولم تكن في جوهرها استعمارية. لكن إدوارد سعيد ‏يرى أن هذه النتائج لم تكن مقصودة لذاتها، بل هي في أحسن الحالات، جاءت لغرض إحراز السبق في البحث العلمي في ‏مجال الدراسات الشرقية البكر، وهو ما كان يؤهل المستشرق أو الباحث الغربي لأن يصبح صاحب مشورة، يعتد بها لدى ‏صانعي القرار الغربيين، الذين كان جل همهم تخطيط الحملات الجيوستراتيجية على الشرق.‏

الوظيفة الرمزية لمعاداة الإسلام

أسندت الثقافة الغربية للبطاقة التعميمية التي كتب عليها "الإسلام" وظيفة هامة. فلما كان المجتمع الغربي يتكون من مزيج ‏من الطوائف والفئات المختلفة المحتاجة للتوحد تحت مصلحة أو هوية واحدة، أضحى تعبير "الإسلام" بالنسبة لهذه الفئات ‏كبش الفداء، الذي يمكن أن ينسب إليه كل ما يفرقهم عن غيرهم، ويروا في نقيضه ما يجمع بينهم. فاليمين يرى في الإسلام ‏همجية تهدد الحضارة، واليسار يرى فيه حكم الإقطاع، والليبراليون يرون فيه مصادرة الحريات ونقيض مذهب دعه ‏يعمل .. دعه يمر، وأتباع الحركة النسوية يرون فيه كبت المرأة لصالح الرجل، والفوضويون يرون فيه كبت الفرد لصالح ‏الجماعة. وبهذا تصبح مواجهة الغرب للإسلام قوة توحيد دافعة، وهوية تجمعهم وتميزهم عن غيرهم.‏

وإن كان في الإسلام شيء واحد لا يزعج الغرب، فهو نفوره من الشيوعية. وهو المصدر الوحيد لبعض التعاطف الغربي ‏مع الإسلام. لذلك أضحت النظرة الغربية للإسلام أشد تطرفاً بسقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة. فلم يعد في ‏الإسلام جاذبية بالنسبة للغرب، كالتي كتب عنها المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون في كتابه "جاذبية الإسلام".‏

ويضرب إدوارد سعيد مثلاً على التحيز الغربي بأنه عندما يتبرع فرد أو مؤسسة من السعودية لجامعة أميركية، تتعالى ‏أصوات الليبراليين الغربيين لتندد بالتدخل الإسلامي في التعليم الغربي، لكن عندما تتبرع ألمانيا أو اليابان لنفس الشأن، ‏يكون رد الفعل هو الشكر والامتنان.‏

تغطية الإسلام

يؤكد إدوارد سعيد أن السياسة الاستعمارية تكمن وراء ثقافة الاستشراق، كما تكمن السياسة الاستعمارية للشركات الكبرى، ‏العاملة في مجال النفط وتجارة السلاح والإعلام، وراء الثقافة الإعلامية الغربية التي "تغطي" الإسلام. وهو يستخدم ‏مصطلح "تغطية الإسلام" بمعنى التغطية الإعلامية، وكذلك بمعنى إخفاء حقيقة الإسلام وتقديم صورة اختزالية عنه. ‏فالتغطية الإعلامية الغربية تهدف إلى التغطية على حقيقة الإسلام، بإبراز الجانب الذي يؤدي إلى توحد الغرب في مواجهته. ‏وهذه هي وظيفة الإعلام الغربي في الأساس.‏

وبهذا يكشف إدوارد سعيد عن الوجه الآخر للإعلام الغربي، وهو الوجه التحريضي المتحيز الراغب في حشد وتوحيد ‏الذات الغربية في مواجهة الآخر. وربما كان هذا الوجه يعمل أحيانا على مستوى اللاوعي الغربي، وهذا لا يعني تبرير ‏التشويهات والإساءات، سواء تمت بوعي أو بدون وعي. لكن القصد هو التنبيه إلى أن تناول المسائل الثقافية التي تخص ‏الشعوب كثيراً ما تحوي بداخلها جوانب غير واعية أو غير واضحة.‏


 
المصدر : موقع بوابتي
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك