بين الشيوعية والدين

الشيوعية كثورة:
قامت الثورة الشيوعية قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى في سنة 1917، لتقوض نظام المجتمع القيصري الروسي، وتقيم مجتمعا آخر يكون أكثر توازنا وانسجاما- فغي نظرها- من المجتمع السابق عليه، أو تنعدم فيه عوامل الاحتكاك والاصطدام بين الطبقات والأفراد. قامت لتحقيق المجتمع العمالي إذ الطبقة والوحدة، زاعمة انه إذا انعدمت عوامل الاحتكاك والاصطدام فيهن لم تكن هناك حاجة إلى وجود القوة البوليسية، وهي القوة التي يناط بها صيانة الأمن الداخلي في المجتمع.
والثورة الشيوعية لا تهدف، فحسب، إلى إقامة مجتمع ذي طبقة واحدة تنعدم فيه عوالم الاحتكاك والاصطدام، بل تهدف أيضا إلى إقامة مجتمع يتمتع بخلقية عالية وقيمة رفيعة، وهو الذي لا تدعو الحاجة فيه إلى قوة حراسة خاصة وراء أفراد المجتمع ، وله سلطة تعلو كيانهم الشخصي.
وهذه الخلقية الرفيعة إنما تأتي عن تحول المجتمع إلى طبقة واحدة. ولا ينبغي أن تكون هذه الطبقة هي الطبقة الرأسمالية وحدها، ولا الطبقة الإقطاعية وحدها، لان كلتيهما تعيش وتعتمد في حياتها على استخدام رأس المال والإقطاع، وليس على النشاط البشري الخاص لأفرادها. واستخدام رأس المال والإقطاع يستدعي بدوره أن يسخر الطاقة البشرية التي هي في حاجة إلى أن تستمر كي تعيش، وهي الطاقة البشرية التي تمارسها الطبقة العاملة. وبذلك لا يقف تكوين المجامع من إحدى هاتين الطبقتين- الرأسمالية أو الإقطاعية-عند حد واحد منهما، بل سيتطلب وجود طبقة أخرى وهي الطبقة العالمة. وإذن لكي يتكون المجتمع من طبقة واحدة يجب إلا يكون في وجود هذه الطبقة ما يستلزم حتما وجود طبقة أخرى غيرها، وهذا لا يتحقق إلا بان يكون المجتمع مجتمعا عماليا، من طبقة العمال وحدهم. فهذه الطبقة لا تعتمد في عيشتها وحياتها على شيء آخر منم مال في صورة ما وراء نشاطها البشري وممارستها هذا النشاط من طريق مباشر.
ولكي يصير المجتمع مجتمعا عماليا صرفا ومكونا من طبقة واحدة هي طبقة العمال- استعجلت الثورة الشيوعية الأمر وسلكت طريق«الانقلاب» في تحول المجتمع الروسي، وقضت على الطبقتين الأخريين طبقة رجال الأعمال وأصحاب رأس المال، وطبقة أصحاب المزارع الواسعة أو أرباب الإقطاع. كما قضت على نظام الحكم الذي قام في روسيا على أساس من وجود هاتين الطبقتين قبل هذا الانقلاب، وهو نظام الحكم القيصري، وكذا على كل ما سانده من مصادر المساندة وعلى الأخص الكنيسة الأرثوذكسية أو الكنيسة الشرقية. ولأنها سلكت طريق الانقلاب في استعجال تحول المجتمع الروسي من مجتمع ذي طبقات إلى مجتمع ذي طبقة عمالية- ارتكب العنف والاستبداد وإراقة دماء عشرات الآلاف من أفراد المجتمع في سبيل هذا التحول. ولذلك كانت ثورة« حمراء». وجعلت«الدم» شعارها لأنها لا تتخلى- كعنصر أساسي في وجودها- عن الانقلاب وما يستلزمه من أرقة الدماء.
ناوأت الإقطاع، وناوأت رأس المال، وناوأت القيصرية، وناوأت الكنيسة. فألغت الإقطاع، وألغت رأس المال، وحلوت ملكية الأراضي وملكية المصانع إلى ما أسمته«الدولة»، وبذلك أصبح المجتمع الروسي في جانب الاقتصاد مجتمعا«شيوعيا» وألغت نظام الحكم القيصري وجعلته حكما شعبيا أو عماليا، وبذلك أصبح هذا المجتمع في الجانب السياسي مجتمعا ديمقراطيا أو«بلورتتاريا». وألغت سلطة الكنيسة فالعنت شعار العلمانية في طابع الدولة، وبذلك فصلت بين الكنيسة والدولة وجعلت سيادة الدولة والكنيسة.
وأصبح المجتمع الروسي الشيوعي في اتجاهه وفي توجيهه مجتمعا مضادا تمام المضادة للمجتمع السابق عليه. وحققت ثورة سنة1917 قيامه كحقيقة تاريخية. ولكن، لكي يبقى هذا المجتمع بعد ذلك، ولكي يبتعد أيضا عنا لاضطرابات التي قد تثيرها رواسب المجتمع الماضي من عناصر النظام القيصري في الحكم،ونظام الرأسمال والإقطاع في الملك، ونظام الكنيسة كسلطة دينية، مما أسمتها جميعها«بالرجعية»، عنيت الشيوعية بالفلسفة التي كانت هي نتيجة لها- وهي الفلسفة الماركسية- وبالدعوة إليها، وبتحويلها إلى «دين»و«إيمان» كما حلوت المجتمع نفسه إلى مجتمع ذي طبقة واحدة.
الشيوعية كمذهب:
وهنا بشرت بالماركسية كمذهب فلسفي، يعتمد على جملة مبادئ، سبق أن استخدمت في الفلسفة المثالية في القرن الثامن عشر، وكذا في الفلسفة الطبيعية والوضعية في النصف الأول من القرن التاسع عشر. هي مبادئ« النقيض»في الفلسفة المثالية الألمانية،و«التطور»و«الواقع»في الفلسفة الوضعية. وكل مبدأ من هذه المبادئ الثلاثة دللت به على القيمة العليا للشيوعية من جانب، ومن جانب آخر على خفة وزن القيم« الرجعية»في نظام المجتمع السابق. وعلى الأخص على خفة وزن الدين. وبذلك وقفت من الكنيسة المسيحية كسلطة موقفا،ومن الدين على العموم موقفا آخر، هو في جملته موقف عدم الرضا والمكافحة.
مبدأ النقيض:
ومبدأ النقيض استخدمه الفيلسوف الألماني«نيتشه» من قبل في التدليل على أصالة العقل الإنساني وأسبقيته في الوجود، وبالتالي على قدرته على الخلق، وعلى حريته المطلقة لا يجدها«شاهد وحس» ولا «وحي»أو«قوة أخرى مغيبة» عن الشاهد والحس، وعلى انه لذلك يملي ولا يملي عليه، من آثاره، وان حياة الناس جميعا في روابط الإخوة الإنسانية وفي ظل دولة عالمية هدف أخير لخالقيته ومجهوده.
واستخدم هذا المبدأ بعينه الفيلسوف الألماني المثالي الآخر« هيجل» في توضيح قيمة«العقل» الإنساني وقيمة«الله»، وفي أن وضع الله في الوجود هو وضع المطلق الذي يتجلى عنه المقيد وهو الطبيعة المشاهدة، والذي يسعى نحوه ما خرج عن التقييد نوعا ما، وهو«الدعوة»و«القانون»و«الأخلاق» وان الله لذلك يوحي، وان على الإنسان الطاعة لما يوحى به.
وخرج« هيجل» من استخدام مبدأ النقيض إلى نتيجة هي : أن سلطة«الوحي» فوق سلطة«العقل»، وأن الوحي والعقل معا فوق الطبيعة، أو فوق ما يسمى بالواقع أو المحس.
وهذا المبدأ دلل به كارل ماركس، فيلسوف الشيوعية- هو فيلسوف يهودي ألماني- على أن المجتمع سيتغير حتما إلى مجتمع عمالي ذي طبقة واحدة، أي إلى مجتمع شيوعي. وساق التاريخ في توضيح أن هذا المبدأ ضروري الوقوع في المجتمع، كما هو ضروري الوقوع في «التصور»و«الفكرة». إذ باستعراض أوضاع الإنساني كان المجتمع«الملكي»اسبق أنواع المجتمعات، فالمجتمع «الإقطاعي» ثم تلا هذا في الوجود المجتمع«الرأسمالي» وبتحليل المجتمع الملكي- ككائن موجود- وجد انه يتضمن طرفين متقابلين: يتضمن الملك من جانب، ورجال حكومته المنفذين لأوامره، ورعاياه أو عبيده من جانب آخر. ثم بالصراع بين الطرفين المتقابلين تحول احد الطرفين، وهو الملك، في الطرف الآخر وهو رجال حكومته ورعاياه، وبهذا التحول نشا الوضع الثاني للمجتمع وهو وضع الإقطاع. إذ أن ما كان للملك من ملك- وهو ملك الأراضي الزراعية لان الصناعة كانت حرفا فردية ولم تكن قد وصلت إلى التطور الآلي على نحو ما عرف فيما بعد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ألمانيا- انتقل إلى رجال حكومته. وأصبح رعايا الملك السابقون وعبيده الآن زراعا ومستأجرين لهذه الأراضي.
ولكن هذا المجتمع الإقطاعي لم يبق على نحو ما وجد عليه، ويستحيل أن يبقى على ما هو عليه تبعا لضرورة مبدأ«النقيض»، فتحول إلى المجتمع الرأسمالي. إذ بتحليل وضع الإقطاع وجد أن مجتمعه ينطوي على طرفين متقابلين: أصحاب الأراضي الزراعية من كبار الملاك، والمستأجرين لهذه الأراضي. وبالصراع بين هذين الطرفين تحول احد الطرفين وهو طرف كبار الملاك في الطرف المقابل وهو طرف المستأجرين، وذلك بهروب أصحاب الإقطاع بأموالهم وتوظيفهم إياها في المصانع مع تركهم الأراضي للمستأجرين أنفسهم.
وانبثق عن مجتمع الإقطاع وضع آخر للمجتمع وهو المجتمع الرأسمالي، أي مجتمع أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الكبيرة.
وإذا كان المجتمع حتى الآن انتقل من وضع إلى وضع مقابل له، فالمجتمع الرأسمالي سينقلب إلى مجتمع آخر، بناء أيضا على ضرورة مبدأ النقيض، كمبدأ عام في الوجود كله. ووضع المجتمع الذي سيتحول إليه المجتمع الرأسمالي هو المجتمع العمالي. لان المجتمع الصناعي أو الرأسمالي ينطوي أيضا على طرفين متقابلين، على القلة من أصحاب رؤوس الأموال وهم ملاك المصانع من جانب، وعلى الكثرة من أعمال الأجراء في المصانع من جانب آخر. وبالصراع بين الطرفين سيصير الأمر إلى العمال، ويصبح المجتمع مجتمعا عماليا.
ومعنى أن الأمر سيصير إلى العمال- حسب منطق استخدام«النقيض» في دائرة المجتمع- إن ملكية المال الممثل الآن في المصانع سيؤول إلى العمال، وسيصبحون هم أصحاب الصناعات !!
والفلسفة الماركسية عندما استخدمت مبدأ«النقيض» في دائرة المجتمع لم تقف عند حد أن تقول: أن المجتمع صائر حتما إلى مقابله وذاهب بالضرورة في هذا المقابل، بل تضيف إلى ذلك القول بان انتقال المجتمع من وضع إلى وضع النقيض له يصير في لانتقاله وتحوله من مرحلة إلى مرحلة بالتدريج، حتى إذا وصل الأمر إلى نقطة معينة فلابد من«انقلاب» ليتم التحول والانتقال. وذلك كالماء في تحوله إلى بخار، فانه يسير بفعل الحرارة في تحوله من مرحلة إلى أخرى، ثم دفعة واحدة ينتهي الماء، ويكون الأمر كله إلى بخار.
ولذلك لا ينتظر المذهب الماركسي أوضاع المجتمعات، وبخاصة وضع المجتمع الرأسمالي، حتى تتحول إلى المجتمع العمالي من ذاتها، بل ينادي بالانقلاب وتدخل المؤمنين بالشيوعية في تعجيل أمر هذا الانقلاب في المجتمع.
والسؤال الذي يعقب به أي باحث على استخدام الماركسية مبدأ النقيض في تبرير تحول المجتمع إلى مجتمع عمالي هو: أحقيقة أصبح العمال في المجتمع الشيوعي الآن هم ملاك الصناعات والأراضي الزراعية، كما بشرت الماركسية الجماهير بفلسفة النقيض ؟
أيقف تحول المجتمع- بناء على مبدأ النقيض، وان الشيء، لا يلبث أن يصير إلى نقيضة كلما وجد على حال خاص- عند حد المجتمع العمالي؟ أم أن الحتمية والضرورة التي تراها الماركسية في مبدأ النقيض كطابع عام له تدفع الملاحظين لأحوال المجتمع إلى ترقب انبثقا مجتمع آخر عن المجتمع العمالي يكون نقيضا له، ثم عن هذا النقيض سينبثق مجتمع آخر هو نقيض له كذلك...وهلم جرا ؟
فإذا سلبت ملكية المصانع من العمال في مجتمع شيوعي وبقوا إجراء أو أشبه بالإجراء، فما بشرت به فلسفة الماركسية تحت استخدام مبدأ النقيض في صيرورة للمجتمعات يبقى في نطاق« النظر والتصور» دون «الواقع». وسنرى أنها تكافح«النظر»وتركز الإيمان ب« الواقع».
وإذا لم يترقب المجتمع الشيوعي-وهو المجتمع العمالي- زوال نفسه وفناءه، وتحوله إلى مجتمع مضاد له تماما- فانعه عندئذ إما إلا يساير منطق الفلسفة التي قام عليها والتي يستخدمها في تبرير وجوده وصيرورة وضع أي مجتمع إليه، وهي الفلسفة الماركسية، وإما انه بعد أن صار إلى الوضع الذي ارتضاه زعماء الثورة البلشفية في سنة 1917 عاد إلى «العقيدة» التي لا تعلل بالمنطق والفلسفة، وأصبح لذلك مجتمعا ذا عقيدة لا تناقش. وحينئذ لا يكون المجتمع الذي يضع« العلم» موضع العقيدة، والذي يطلب إلى أفراده مكافحة« الرجعية» في صورة الإيمان والاعتقاد، أي إيمان وأي اعتقاد، والذي يطلب إليهم«التحرر» دوما من الإيمان والاعتقاد.
مبدأ التطور:
إنما مبدأ التطور فقد استعارته الماركسية من «دارون»، واستخدمته في التدليل على أن الحال التي يصير إليها الكائن الموجود أفضل من الحال التي كان عليها من قبل، وأكثر قيمة وأولى بالتبعية. والمجتمع ككائن من الكائنات الموجودة سيصير في تحوله من وضع إلى وضع، وعندئذ يكون وضعه التالي لوضع سابق عليه هو أفضل وادخل في معنى القيمة، وأجرد إذن بان يتبع. ومنطق ذلك أن المجتمع العمالي- وهو المجتمع الشيوعي- أفضل من وضع المجتمع السابق عليه وهو الرأسمالي، وهذا أفضل من المجتمع الإقطاعي الذي تحول عنه، والإقطاع أفضل من المجتمع الملكي الذي تقدم عليه.
ومن مبدأي «النقيض»و«التطور»أبرزت ظاهرة ملازمة لهمان على أنها ظاهرة عامة في الوجود، وهي ظاهرة«التغير» يخضع لها كل كائن في انتقاله من وضع آلة نقيضه، وفي تطوره من مرحلة إلى مرحلة أخرى.
وبإبراز هذه الظاهرة وبأنها مصاحبة لوجود كل شيء، تحاول الماركسية أن تدعي أن إثبات«القيم» الأخلاقية في الحياة الإنسانية أمر يضاد طبيعة الأشياء وطبيعة الوجود، وان القيم لذلك تتغير كما يتغير كل شيء. وإذن الفضائل في سلوك الإنسان تختلف من وقت لوقت. وما يعد فضيلة في وقت لا يصح أن يبقى دوما على انه فضيلة، بل قد تكون الفضيلة في ضده.
ومعنى هذا الادعاء الذي تدعيه الماركسية عن طريق ظاهرة التغير- إن الذي ورد في رسالة الأديان أو قامت عليه الفلسفة الأخلاقية المثالية من مثل أن«العدل»و«الحرية»الفردية والمحافظة على«حرمة» النفس والمال والعرض، فضائل- قد يتحول إلى رذائل، وتكون الفضيلة في ضده حسبما تأتي به عوامل التغيير والتبديل في الحياة.
وإذا كان مبدأ النقيض تقصد به الماركسية إقناع الناس بضرورة تحول المجتمعات إلى المجتمع الشيوعي العمالي مهما طال الأمر، وان هذا المجتمع العمالي هو المصير المحتوم للإنسانية- فإنها تهدف من مبدأ التطور إقناعهم بأفضلية هذا المجتمع نفسه في القيمة وبذلك يكون اندفاع الناس إلى قبول هذا المجتمع- وكذا إلى السعي في تحقيق وقوعه أن لم يكن تم بالفعل في مجتمع ما- ليس لأنه القدر المحتوم للبشرية عامة، ولكن لأنه الأفضل الذي لا يدانيه في الفضل مجتمع سابق عليه.
كما تستهدف بظاهرة التغير التي تصاحب الميداين، تسفيه رأي الدين ورأي الفلسفة الأخلاقية المثالية في القيم والفضائل، ورمى كليهما بالغباء وعدم الفهم لقوانين الوجود، وبالتالي عدم مسايرة طبيعة والحياة. ورجال الدين وكذا الفلاسفة العقليون المثاليون«رجعيون» يقفون بالحياة عند خط معين. وبينما غيرهم ينظر إلى الأمام حسبما توحي قوانين الطبيعة، ينظرون هو إلى الخلف ويستمرون في نظرتهم إلى هذا الخلف غاضين البصر عن ركب الحياة وسيره قدما.
وبهذا أو ذاك تبني الماركسية في قيمة المجتمع الشيوعي بمقدار ما تهدم في القوى التي تقف في طريق إقبال الناس على التبعية له، وفي مقدمتها الدين والمثالية العقلية. وهي لا تبنى في جانب وتهدم في جانب آخر بالدعاء على هذا النحو فحسبن بل أيضا باستخدام مصطلحات تجذب الميل إلى ناحية، وتنفر من البقاء في ناحية أخرى. فهي تستعمل كلمة«التقدمية» في جانب ما تدعو إليه، وهو مصطلح جذاب. بينما تستعمل« الرجعية في جانب ما تحاول هدمه وتقويضه، وهو الدين والفلسفة الأخلاقية المثالية.
ولكن الماركسية في تطبيق ظاهرة« التغير» على القيم الإنسانية تحاول الخداع في واقع الأمر، كما اثبت نفس الشيء تطبيقها لمبدأ« النقيض» على المجتمع: إذ وقفت بهذا المبدأ عند المجتمع الشيوعي. وبذلك أوقفت سير المبدأ وحدت من اعتباره كقانون عام للوجود له طابع الدروان والاستمرار فيما يدور فيه.
فالقيم الإنسانية هي المستويات العليا في السلوك الإنساني. هي النهايات لتطور الإنسان في إنسانيته. وإذا كانت هي نهايات لتطور الإنسان في إنسانيته فهي لا تقبل الزيادة، وبالتالي لا تقبل« التغير» وتصبح عندئذ طرفا واضحا مقابلا لما عليه غير الإنساني، مما له طبيعة الحركة والحياة، وهو الحيوان.
وكون لقيم هي المستويات العليا في السلوك الإنساني، يتضح من تطور الإنسان وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة حتى بلوغ المرحلة النهائية وهي مرحلة الرشد. فالإنسان الطفل حيوان في سلوكه، يتصرف طبقا للغريزة كما يتصرف الحيوان. وقلما يتدخل الشعور الإنساني، وهو خاصة الإنسان، في هذا التصرف. والتدريج شيئا فشيئا يحل الشعور بجانب الغزيرة في حياة الإنسان أثناء سير تطوره، حتى يتحكم الشعور، عن طريق تكون العادات الإنسانية المهذبة، وعن طريق الفهم السليم لطبيعة الحياة- وفي داخلها طبيعة المجتمع- فإذا تحكم الشعور الإنساني وكانت له سيادة على الغريزة أصبحت لإنسان خاصة الإنسانية وتميز تمييزا واضحا من الحيوان.
واه مظاهرة ينحدر بها السلوك الغريزي هي« الأنانية».واهم ما يعبر عن الخاصة الإنسانية هو« الجماعة» أو الاعتراف بالمجتمع اعترافا يبدو في التطبيق العلمي كما يعيش في دخيلة النفس. والأنانية تنكر كل حق للغير في الوجود، بينما الجماعية تدعو لدعم حق الغير في الوجود عن طريق التعاون فيما يحقق حياة أفضل الاثنين وفيما يدفع الأضرار والاعتداء عليهما.
وليست«القيم» الإنسانية إلا « النماذج» العملية التي يتحقق فيها معنى« الجماعة» كما توضح هي مظاهر التعاون المختلفة نحو حياة إنسانية أفضل.
وإذا كانت القيم هي النماذج العليا في السلوك البشري، وإذا كانت هي التعبيرات عن الخاصة الإنسانية التي يصل إليها بالتدريج، وإذا كانت هي التي تنطق بسيادة الشعور الإنساني والرشد الإنساني على الغريزة الحيوانية في الإنسان- فإنها لا تتغير إطلاقا بعد ذلك. لان الإنسان إما أن يصير إلى إنسانية أو يبقى في الحيوانية. والقيم- كما ذكرنا- هي التي توضح صيرورته إلى الإنسانية.
الإنسان نفسه يتطور ويتغير نحو الإنسانية. ولكن القيم، وهي التعبيرات عن الإنسانية، باقية خالدة.
مبـدأ الواقـع:
ومبدأ الواقع الذي عرف ل«أوجست كونت» ول«فيرباخ»ول«اشتين تال»، أكدت الماركسية قيمته لتدفع به أولا وبالذات القوى المعادية- وهي القوى« الرجعية»- وبالأخص الدين والفلسفة الأخلاقية المثالية.
مبدأ الواقع ينكر أن يكون لما وراء الطبيعي، وهو الوحي، وان يكون للعقل في الطبيعة نفسها، اعتبار في المعرفة ووزن في الحكم على الوجود وفي تخطيط سلوك الإنسان وتحديد غاية المجتمع البشري إذ أن ما يلقى به وحي السماء وتأتي به رسالة الأديان- في نظره- خرافة، وما يدركه العقل الإنساني بادئ ذي بدء من نفسه ويحاول إن يصور به الطبيعة التي يعيش فيها الإنسان وهم وخداع.
ولدا فان«الواقع »- وليس غيره من دين أو عقل- هو الذي يجب أن يملي على الإنسان ويلقنه، ويجب على الإنسان أن يتعلم منه أولا ويطيعه بعد ذلك. والواقع الذي نعيش فيه هو الطبيعة التي نحسها وندركها بأبصارنا وأسماعنا، ونلمسها بأيدينا، ونضرب فيها بإقدامنا. فلندع هذه الطبيعة المحسوسة تتكلم، ولنسر على هدى ما تنطق به لا على هدى الله ولا على نور العقل. فليس لله وجود إطلاقا، وليس للعقل نور إلا ما يشع عليه من ينطق الطبيعة المشاهدة.
ليس الله موجودا لأنه ليس هناك وجود وراء الوجود المادي. ولو كان له وجود مادي لادركناه بالحس، ونحن لا ندركه بالحسن فليس موجودا، وليس للعقل وجود مستقل عن الجسم المادي. ووجوده إذن مرتبط بالوجود المادي وتابع له، فليس له استقلال حتى يكون له نور وإشعاع منفصل عن إشعاع الطبيعة المادية، وليس له منطق ينفرد به عن منطقها، بل الطبيعة تنطقه فينطق ، وتحمله على التفكير فيكفر\ن وتحدد له اتجاه التفكير فيتجه فيما يحدد له من اتجاه.
وإذا كانت الطبيعة المادية هي الوجود، وإذا كان منطقها هو المعبر وحده- فالمعرفة التي تحصل عن طريق منطق الطبيعة هي المعرفة السليمة اليقينية. والعلم بعد ذلك ليس هو علما وراء الطبيعة، وليس هو علم الوحي الديني، وليس هو تصور العقل الإنساني من نفسه. هو علم الواقع والطبيعة المشاهدة. والأجدر إذن بالعبادة ليس الله كما يدعو رجال الدين، وليس الإنسان كقوة مدركة، كما يدعو رجال الفلسفة العقلية، وإنما الأجدر بالعبادة هو« العلم»ومحراب العابد ليس الكنيسة، وليس البحث« النظري»، بل هو« المعمل» الذي تجري به التجارب على خصائص هذه الطبيعة المادية.
والحضارة الإنسانية لا يكونها تراث الماضي الروحي أو العقلي، بل يكونها فحسب ما ينتج عن هذه التجارب الطبيعية. يكونها« العلم» وما له من نتائج مادية غفي حياة الإنسان. و«الآلة» ابرز هذه النتائج، والصناعة في مختلف جوانبها من أفضال الآلة على الإنسان. والحضارة الصناعية لذلك هي الحضارة الحقة التي يجب على الإنسان أن يستمر على البناء فيها لتحقيق حياة أفضل.
ولكي تضفي الماركسية على« العلم» هالة من القداسة، وتجعل له كيان المعبود يجب على العابدين أن يتقدموا في عباداتهم له بقربان- والقربان هنا الإسهام في نمو الحضارة الصناعية – دعت الشيوعية إلى«الإيمان» من جديد، ودعتهم إلى« الاعتقاد» بتثليث آخرك العلم والمجتمع، والدولة. وأصبحت الفلسفة الماركسية دينا وعقيدة.
وهنا يلاحظ أنها بتأكيدها مبدأ الواقع لتقوض الدين والإيمان، انتهت من جديد، عن طريق الواقع نفسه، إلى الدين والإيمان. ولكن ليس إلى دين الله، إلى دين الطبيعة، وليس إلى الإيمان بالله، بل إلى الإيمان بمصنوع الإنسان.
وتقديس العلم وتأليهه يجعل له سيادة على الإنسان، وليس في خدمته. وتقديس المجتمع وتأليهه يدعو أفراده إلى التضحية والإفناء فيه دون انتظار جزاء منه. وتقديس الدولة وتاليهها يجعلها تطاع دون أن تناقش.
ليس هناك إلا الإله الجديد. والإله الجديد هو ذلك« الثالوث» الذي ادعت الماركسية أنهم، واقع الطبيعة التي ترى وتشاهد مع انه نفسه لا يرى ويشاهد. فنحن لا نرى العلم، بل نتصوره. ولا نرى المجتمع وإنما نتصوره أيضا على انه جملة من الروابط المشتركة بين الأفراد، ولا نرى الدولة وإنما نحس آثارها فحسب في « التنفيذ». نحن لا نرى إلا تجارب، والتجارب ليست هي العلم، بل هي مقدماته. ونحن لا نرى إلا أفرادا يحيون حياة امنوا بها، ويعيشون عيشة ارتضاها لأنفسهم أو اكرهوا عليها. والأفراد ليسوا هم المجتمع، وإنما هو لبنات فيه. ونحن لا نرى إلا أفرادا مشرعين مقننين، وأفرادا آخرين حارسين ومنفذين. والمشرعون والمنفذون من الأفراد في خدمة الدولة وليسوا هم الدولة نفسها.
والإله الجديد في الدين الجديد إذن في الواقع المشاهد. وقد أنكرت الماركسية الله من قبل، لأنه لا يوجد في الواقع المشاهد. وبذلك تنكر بناء على تبرير خاص، ثم فتؤمن بما يقوم على ذلك التبرير الخاص ذاته.
وفي الدين الجديد ليست هناك خشية من اله إلا اله العلم والمجتمع والدولة، والعلم والمجتمع والدولة من صنع الإنسان، بدليل أن الإنسان البدائي يوجد من غير علم وغير دولة. فوجود هذا الثالوث وجود طارئ على وجود الإنسان. وإذن هو من خلق الإنسان وليس من خلق نفسه. ويوم يبتعد عنه الإنسان، يوم يتوقف وجوده، وتتوقف حياتهن ومن ثم يعتريه الاضمحلال فالفناء. فهو اله عاجز عن الخلق وان بدا في صورة عملاق خالق. وهو اله لا ستغني عن غيره، وان بدا انه يعطي الحياة لغيرهن وهو بعجزه وباحتياجه في واقع أمره لا يستطيع أن يوجه الإنسانية إلى الخير. وهو لا يفتقد فحسب تمييز الخير من الشر، بل مع ذلك يفتقد القوة الذاتية التي توجه إما إلى الخير وإما إلى الشر.
العلم- وهو ركن في الثالوث المؤله- يدفعه الإنسان نحو الخير ونحو الشر، وهو لا يدفع نفسه. وكذلك الشأن في المجتمع والدولة يدفعهما الإنسان- وهو القائد والموجه- نحو الخير ونحو الشر، وهما لا يندفعان من ذاتهما نحو هذا أو ذاك.
وإذن فالإنسان الذي كان من واجبه في هذا الوضع أن يكون معبودا أصبح عابدا. والماركسية بذلك لا تدعو إلى«النكسة» في الإنسانية واسترقاق الإنسان واستذلاله ل« وثن» لا يملك لنفسه الحياة والاستمرار فيها مستقلا عن غيره، فضلا عن أن يوجه غيره ويقوده. وإنما في الوقت الذي تفرغ فيه الماركسية قلب الشيوعي من الإيمان بالله الخالق فتنزع منه الخشية، تعوضه بدين وبإيمان يدعوه إلى الخير والشر سواء. لان اله هذا الدين وهو« العم»- كما حددته- لا يتصل بطبيعته ومن ذاته بخير ولا شر. طبيعته طبيعة محايدة.
والدين الذي يسوي بين الخير والشر، ولا تأمن الإنسانية من سيادة الشر بين إتباعه. والإله المحايد بين الخير والشر، قد يتقدم إليه عباده بالشر على انه قربان، أكثر مما يتقدمون إليه بالخير على انه قربان أيضا.
ولكنها الماركسية تحرض الناس على« الانقلاب» باسم مبدأ النقيض، وتخفي وجهها من توقع انقلاب في المجتمع الشيوعي إذا ما صار إليه الوضع يوما ما.
وتحرض الناس باسم التطور على التنكر للقيم الإنسانية والمستوى الإنساني الفاضل، وتبشر في الوقت نفسه- عن طريق فلسفتها- بحياة فضلى ومجتمع أفضل.
وتحرض الناس على إنكار الله، وإنكار الدين، وتضعهم أمام دين وأمام الله هو من صنع الإنسان وليس خالقا له، هو نفسه« تجاهل» بمصير الإنسانية رغم انه« العلم».
الديـن:
1)دعوة الدين: أما الدين- في مقابل الماركسية- فانه يدعو إلى الإيمان بالله الخالق، المستغني عن غيرهن والمستمر في الدوام، والباقي الذي لا يتحول إلى حال آخر أو وضع آخر، والذي يعلو أفراد الإنسانية جميعها، هو لناس كلهم« قل يا أيها الناس إني رسول اله إليكم جميعا». هو الذي حددت رسالته الخير والنشر:« إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم». ودعا رسوله إلى الخير وحده.
وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوهن ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله» والخير الذي يدعو إليه الدين هو التعاون في سبيل حياة أفضل:«وتعاونوا على الخير والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»، والإخوة في الإنسانية: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم» هو عدم الغواية وعدم النزوع إلى الشر وسلوك طريقه:« ولا تتبعوا خطوات الشيطان، انه لكم عدو مبين».
الله رب الدين إذن يعلم الخير والشر، كما يعلم الجهر وما يخفى، ويريد الخير وحده، لان في الخير سلامة البشرية وتعاونها وإخاءها. وفي التعاون والإخاء ازدهار الحياة الإنسانية ونماؤها.
2)سيادة الإنسان: والله رب الدين يعلم الأرض والطبيعة كلها. ويقدر الطبيعة البشرية خاصة من بين كائناتها، على أنها لا تخضع إلا لله وحده، ولا تعبد إلا إياه. وهي إذ تعبه وحده تسلم إلى الخير وتفعله، وتدرك الشر وتتجنبه. تسلم إلى الانسجام والسلم وتسعى نحوهما. وتدرك الخصومة والاضطراب وتحاول تجنبهما. وكما يقدر الطبيعة البشرية على أنها تعبد الله وحده، يقدرها أيضا على أنها يجب أن تسود على ما عداه من كائنات الطبيعة.)ولقد كرمنا بني آدم، وحملناكم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).«هو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها، وترى الفلك مواخر فيهن ولتتبعوا من فضله ولعلكم تشكرون».«هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه».«سخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار وأتاكم من كل ما سألتموه...».
وهنا، في نظر رسالة الدين يسعى الإنسان إلى« العم»،« قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»، ليسود به الإنسان على الطبيعة، ولكن لا ليعبد العلم ويؤهله. ويسعى لبناء الحضارة المادية والصناعية.«وأنزلنا الحديد فيه باس شديد ومنافع للناس». ولكن ليضيفها إلى القيم الروحية والإنسانية.
وهنا، فغي نظر رسالة الدين، يسعى الإنسان إلى تكوين المجتمع.«والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض». ليرعى أفراده ولكن لا ليفنى الأفراد فيه. ويسعى إلى تأسيس الدولة:« أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولوا الأمر منكم». لتقيم العدل والتوازن، وتحتفظ على رعاياها حقهم في الحياة، وتصون حرماتهم الشخصية من النفس والمال والعرض، ولكن لا لتطاع دون مناقشة، ويسلم لها الزمام ولو كانت جائزة أو سالبة للحرمات الشخصية من نفس ومال وعرض.
الدين لا يطلب من الإنسان أن يعكس أية الحياة والوجود، فيعبد من كان خلقا له من: علم، ومجتمع، ودولة. يريد أن يظل طبيعيا يتصرف وفق قوانين الطبيعية نفسها، طالما هو مانح الوجود والنمو والتطور لغيره- فأجدر بهذا الغير أن يكون في خدمته وتبعيته.
3) سيادة القيم الإنسانية: وسيادة الإنسان التي يدعو لها الدين هي في واقع الأمير ليست في سيادة هيكله المادي ونموه الحيواني، بل في سيادة القيم الإنسانية من: العدل، والحرية، والإخاء، والمساواة، وصيانة الحرمات الشخصية... إذ لا يلحظ الدين في الإنسان فقط إنسانيته وميزته البشرية. وهذه لا تتمثل إلا في القيم الإنسانية وحدها.
وإذن الذين يطلب من سيادة الإنسان، وسيادة القيم الإنسانية، استقرار السلم بين الناس، وتحقق التوازن والعدالة بين الأفراد وإشاعة روح الإخوة والتعاون.
ويجب أن يكون ما يأتي به الإنسان بعد ذلك مما يحصله من علمن وما يقيمه من مجتمع، وما يؤسسه من دولة في خدمة القيم الإنسانية وسيادتها. فإذا عكس الوضع وأصبحت القيم الإنسانية، وأصبحت البشرية كلها في خدمة العلم والمجتمع والدولة، يومئذ لا يتحقق سلمن ولا عدالة، ولا إخوة، ولا تعاون. يومئذ يسود الطاغوت وتسود النزوات وبالتالي يسود الاضطراب والقلق، وهنا لا تحقق الإنسانية في رسالتها وإنما الطبيعة نفسها تخفق في التعبير عن قيمتها الحقيقية.
إذ قيمة الطبيعة في إن يتجلى خضوعها للإنسان، وقيمة الإنسان في أن يكون ذا مستوى أنساني فاضل.
وقيمة الكون كله في أن يدل على خالقه، بما فيه من دقة وانسجام، وتحكمهما قوانين لا شذوذ في إدراك الإنسان لها.
وهذا كله ما تسعى إليه رسالة الدين.
4)نكسة الشيوعية: أما الشيوعية فهي تحول عبادة الإنسان ل«وثن» يسخر، ولا يستطيع أن يسخر ويوجه غيره. وتحول طبيعة الإنسان من طبيعة سائدة إلى طبيعة مسودة، ومن طبيعة حرة كريمة ذات مشيئة إلى طبيعة يتحكم فيها مكن لا مشيئة ولا إرادة له، لا استقلالا ولا تبعا، وتسوي بين الخير والشر في التوجيه، وتحول القيم الإنسانية إلى قوالب فارغة، تملؤها بما ترغب، لا بما يجب لصالح الإنسانية وحدها.
وألهها- وهو العلم- يتغير اليوم عنه بالأمس، وسيغره الغد القريب ثم الغد البعيد بعده- وقاسته بالأمس إذن لم تكن تخيلا ووهما. وعبادته عندئذ كانت خرافة، لأنه تغير اليوم عنه بالأمس. وقداسته اليوم ستصبح في الغد أيضا تخيلا ووهما، وستصبح أيضا عبادته خرافة، لأنه سيتغير في الغد عنه اليوم. وهكذا...
5) الفرق بين الدين والشيوعية: انه- الفرق بين دعوة طبيعية، ودعوة هي نشاز عن الطبيعة. الدين يساير طبيعة الإنسان وطبيعة الكون كلهن فيحرص على الألفة والإخوة في حياة الإنسان، على نمط ما يشاهد الانسجام في الطبائع الكونية الأخرى. أما الشيوعية فهي دعوة إلى الانقلاب والاضطراب. سلمها في الحرب، وحريتها في الرق، وماواتها في السلب، وأمنها في الإثارة والقلق.
إنها قامت على المبدأ« النقيض»، فالتضاد في حياة مجتمعها يلعب الدور الأول، وإنسانها مردد بين طرفي النقيض. هو بين الحياة والموت، وبين القيد والانطلاق، قيد في الإنسانية، وانطلاق في الحيوانية، وبين اللا إنسان.
إن الدين يدعو إلى الوئام بين الروح والجسم لدى الأفراد. والشيوعية تحكم الجسم في الروح، وتفرض على العقل سيادة المعدة. إنها أجدر بحياة الحيوان،وابعد عما يليق بكرامة الإنسان.