بين الأدب والدين
بين الأدب والدين أواصر قرابة وروابط نسب، إذ هما يلتقيان في كونهما ينبعان من أعماق القلوب وقرارات النفوس، ويهدفان معا إلى تهذيب النفس الإنسانية والسمو بها إلى أسمى ما قدر لها من مراتب الإشراق والكمال، ويرميان إلى استثمار عناصر الخير والجمال في الإنسان قصد تنميتها وتغليبها على عناصر الشر، ويسعيان وراء التلطيف من حدة الغرائز والشهوات المادية إلى شهوات وملذات روحية، وحتى يتسامى الآدمي الحيوان إلى آدمي إنسان، يشعر بمعاني الخير والحق والعدل والجمال، هذه التي هي محور كل رسالة أدبية، وكل رسالة دينية. والحياة الروحية للإنسان عالم مليء بالأسرار، متعددة المظاهر، ما بين دين وأدب وفن، فالصلوات وآيات الأدب وروائع الفن، إن هي إلا أساليب متنوعة للتعبير عن حياة روحية واحدة، ومهما تعددت البواعث فمردها جميعا إلى الطاقة الروحية التي هي كل لا يتجرأ، ومن ثم كان في الأدب قبس من الدين، وكان في الدين قبس من الأدب، وقبس الدين في الأدب هو الوسيلة الأدبية التي يعتمدها في التأثير والإقناع.
ولا يبتعد الأدب عن الدين إلا إذا كان متحررا من قيود الأخلاق، فعندما يصور الأدب الرذيلة للترغيب فيها وتحبيبها إلى الناس، أو يدعو إلى فاحشة محرضا عليها، أو يلهب في القراء غرائزهم الحيوانية، أو ينشر فلسفة إلحادية تصرف الناس عن الإيمان بالمقدسات الروحية، حين يتجه الأدب إلى كل ذلك أو ما هو من قبيله، يكون قد ابتعد عن الدين، بل يكون معه على طرفي نقيض. ولا يخفى أننا هنا لا نبحث موضوع وجوب التزام الأدب لقيود الأخلاق أو ضرورة تحرره منها، وإنما نحن بصدد بيان عوامل التقريب والتبعيد بين الأدب والدين. والأدب عندما يدعو إلى المثل العليا، ويربط أفراد البشر برباط متين من الشعور الإنساني الموحد، ويهز الضمير الإنساني هزا عنيفا، ويصور خطايا البشر لإظهار شناعتها وقبحها وويلاتها، ويتغنى بجمال الحياة وعظمة الكائنات، ويحذر من طغيان المادة على الروح، ويحقق المشاركة الوجدانية بين الإنسان وأخيه الإنسان، فهو يخدم -عن قصد أو عن غير قصد- أغراضا دينية بالدرجة الأولى، ومن منا ينازع في أن هذه لب لباب الدين وجوهره الصحيح.
وكثير ما التقى الأدب والدين في فنون أدبية تعد من الروائع، فأدب التصوف عند ابن الفارض وابن عربي وأبي حيان التوحيدي وغيرهم، وقصائد المدح التي قيلت في صاحب الرسالة الإسلامية، وفي آل بيته، وفن التسبيح والتحميد، وأدب المناجاة الإلاهية، كل ذلك أمثلة حية لاتصال الأدب بالدين في وحدة منسجمة الخيوط متلاحمة النسيج، وهذا القرءان الكريم نفسه ألقت فيه المعجزة الدينية السامية والمعجزة الأدبية الخالدة، الأولى تظهر في المقاصد والأغراض والثانية تتجلى في الأسلوب والبيان، والأدب عندما يلتقي بالدين ويلقح بلقاحه، ويتعطر بشذاه، يتبادلان بينهما التأثير، فالمعاني الدينية تكتسي حلة من ناصع اللفظ، وزخرف العبارة، وطلاوة الأسلوب، تفتح لها أقفال القلوب، وتدلل أمامها جفاء الطباع، وتتقدم بها نحو النفوس الضعيفة لتنيرها وتهبها قوة اليقين وثبات العقيدة، وما ذلك إلا لأن الأدب هو اللغة الإنسانية التي تتصل بعاطفة كل الناس في الوقت الذي تعبر عن عاطفة إنسان معين، ولأن الأدب هو الخط المشترك بين كل الناس فله في كل نفس نسب وفي كل قلب قرابة، فما أن يخاطب إنسان بلغة الأدب، تلك الرقيقة الجميلة الموحية، حتى تمس فيه وترا حساسا وعاطفة أصيلة، فتقع الاستجابة المرجوة، وتحدث المعجزة. يذكرنا هذا بقصة إسلام عمر بن الخطاب، ذلك البدوي الجاهلي الخشن الطباع، فقد كان يحارب الدعوة الجديدة بكل ما في دمه وأعصابه من قوة وعنف، فما أن يستمع إلى سورة من القرآن الكريم -المعجزة الأدبية الخالدة- حتى تلين قسوته، ويرهف حسه، وتمتلئ نفسه نورا، فيذعن وهو العصي، ويهدأ وهو الثائر، ويسلس وهو العنيد، ويسلم وهو الجاحد.
وأما تأثير المعاني الدينية في لغة الأدب، فهو إعطاؤها لونا خاصا يميزها عن بقية فنون الأدب، إذ يجعل منها فنا خاصا هو ذلك الأدب الديني الذي يصور الشعور بالدين في أرقى مستوياته وألطف معانيه، والشعور الديني، إذا تناولته لغة أدبية تجيء كفاء له، يعتبر من أسمى ألوان الشعور التي صورتها الآداب الإنسانية. ويؤثر الدين في الأدب من ناحية ثانية، وهي أن كثيرا من الموضوعات الدينية يتخذها الأدباء مجالا لنشاطهم. فهذه غزوة بدر قد قيل فيها شعر كثير، ويكتب توفيق الحكيم مسرحية عن محمد الرسول، كما يكتب الدكتور أحمد بدوي مسرحية عن إسلام عمر، وتوحي السيرة النبوية للدكتور طه حسين بأروع مؤلفاته (على هامش السيرة). وهذا كتاب ألف ليلة وليلة يحتوي على موضوعات دينية مختلفة، ففيه آثار المعتقدات الإسلامية والإسرائيلية والنصرانية والمجوسية، كما يظهر ذلك في قصة (سيف الملوك وبديعة الجمال) وقصة (قمر الزمان بن شهرمان) وقصة (علي الزيبق المصري) وقصة (الوزيرين بدر الدين وشمس الدين)، إلى غيرها من القصص، وهذه إلياذة (هومروس) تدلنا على الديانات العامة والديانات المحلية الخاصة بالشعب اليوناني، وكذلك الشأن في (الأدويسيا)، فهي تعتمد على العقائد الدينية نفسها التي تعتمد عليها الإلياذة (1).
ويستوحي الأديب الأمريكي (مارك توين) قصة ءادم وحواء الواردة في الكتب السماوية فيكتب (مذكرات ءادم وحواء) كما يستوحيها العقاد في كتابه (هذه الشجرة). وهكذا نجد أن الأدب كثيرا ما يتناول موضوعات دينية في القصة والمسرحية والخرافة والملحمة والشعر واجدا فيها مادة غزيرة ما زال الأدباء يتواردون عليها ويستلهمونها في كل زمان ومكان.
وإن الدين السماوي، والأدب الإنساني، لهما معقد الأمل في دوام التوازن بين المادة والروح في حياة الإنسان، في هذا العصر الذي تزعزع فيه إيمان كثير من البشر بالمثل العليا والقيم الروحية، وصار قانون المنفعة، وناموس المادية هما اللذان يوجهان أغلبية الناس، ولكن لا ينبغي أن نتشاءم بسبب ذلك ما دام في الإنسانية قلب يتعشق الجمال في الشمس إذا غربت والنجم إذا تألق والزهر إذا تفتح، والفجر إذا تنفس، والغصن إذا تثنى، والطائر إذا غرد، فيكون لذلك صداه في شعر الشاعر ونثر الكاتب.
وإن المتتبع للحركات الأدبية في الشرق العربي ليلاحظ أن هناك حملة على الأدب في بعض الأوساط، بحجة أن الأمة العربية في وقتها الراهن، في حاجة إلى العلم لا إلى الأدب، فكفاها خيالا وأحلاما، ولتوجه كل جهودها إلى التصنيع والاختراع، حتى تلتحق بالغرب الجبار، وهؤلاء الذين يقولون هذا الكلام ينسون أو يتناسون حقيقتين هامتين: أما الأولى فهي أن الناس لم يفرغوا كلهم في قالب واحد ليصبحوا كلهم علماء، وأما الثانية فهي أنهم ينسون أو يتناسون أن الأدب لا يستعمل في مقابل العلم، فبينهما روابط متينة، لأن من عناصر الأدب الفكرة، ومن وسائله القواعد العلمية، وهو معناه العام تدخل فيه الفلسفة وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم التاريخ، والعلوم القانونية، بل كل علم كتب بأسلوب الأدب إلا ويعد أدبا بمعناه العام الواسع، كما هو مقرر في كتب الأدب والنقد، وإذن فليس الأدب كله خيالات وأحلاما وضلالا في مختلف الدروب والأدوية، وهذه الحملة ضد الأدب يرافقها ضعف في الوازع الديني في كثير من النفوس، بل إن الدين يهاجم باسم حرية الفكر، والتشبع بالروح العلمية، وتحرير الشعوب مما يسمونه مخدر الدين، ونحن هنا لا نريد أن نعيد ما كتبه الباحثون في الرد على هذه المزاعم، فحسبنا هذا القدر في بيان التهم التي أصبحت توجه إلى كل من الأدب والدين، وهما معقد الرجاء في استمرار الحياة الروحية التي لولاها لكانت الحياة جافة لاتطاق. فهما ضمان استمرارها حية قوية مشرقة يفر إليها الإنسان من واقعه المرير، ويجعلها معتصما لشخصيته كإنسان أن تعدو عليها المادة فتجرفها وتسحقها تحت كلكلها الثقيل، ولست أعني بالفرار من الواقع الهروب من مشاكل الحياة ومن مواجهتها، وإنما قصد الاستراحة من وطأتها ورتابتها بالعودة إلى النفس بعد ضياع عنها في معترك الحياة وصراع الوجود، لصلاة أوديها، أو قصيدة أترنمها أو قصة أعيش مع أبطالها وشخوصها أو ما إلى ذلك، وهذا هو الحد الأدنى الذي يأخذ به الإنسان من الأدب إذا لم يكن من المشتغلين به، فالصانع والعامل، والطبيب والمهندس، والمخترع، كلهم يأخذون من الأدب بحظ، لأنهم يجدون فيه أنفسهم بأحلامها وأمانيها وأشواقها، أما المشتغل بالأدب فهولا يعني عنده متعة على الهامش، بل هو موضوع حياته، ومحور نشاطه.
والدين والأدب جزء من كياننا النفسي، وضرورة من ضروريات وجودنا، وليس أدل على ذلك من أن الإنسان عرفهما قبل أن يعرف العلم، وقبل أن يعرف النظم والقوانين، ويتغلب على عوامل الطبيعة، فالإنسان بطبيعته يحتاج إلى قوة خفية تسنده ويفرغ إليها في أزماته، ومن هنا نشأ الدين، والإنسان يتأثر بكل ما يحيط به، والتأثر يدفعه إلى التعبير عن انفعالاته، ومن هنا نشأ الأدب، فهما بذلك من لوازم حياة الإنسان، وما خالف أحد عمل الطبيعة إلا شقي شقاء مرا أليما، فالإنسان إذ يقاوم الدين وينبذه يعيش في فراغ نفسي كبير، ويصير نهبة المذاهب والاتجاهات، كريشة بين مهاب الرياح، وهو عندما يتنكر للأدب، فلا يمد روحه بالغذاء الضروري، ولا يتركها تعبر عن أشواقها وآمالها وسعادتها وشقائها، يفقد تدريجيا وجوده وكيانه كانسان، ويصبح عبارة عن آلة تتحرك، وذلك هو الضياع والانتحار الأدبي في أبشع معانيه.
(1) الأدب اليوناني القديم للدكتور علي عبد الواحد وافي، ص 76 و 86.