الحديقة في الإسلام راحة للعين وسلوى للفكر
عفيف عثمان
تُقدّم هذه الحديقة الماء والطعام في مدى الصّحراء الواسع، لذا، لا يُمكن تخيّلها من دون حاجزٍ أو حائطٍ كي تُصبح «مُضادة للصّحراء»، وهي تعني الاستبعاد للعطش والوحدة والخوف من الخلاء اللامتناهي. والعنصر السحريّ فيها هو الماء، عنصرٌ معادلٌ للحياة. وقد وصف المؤرّخ اليوناني "سترابون" الحدائق بأنّها «معجزة الماء».
أحصى "دانتي كابونيرا" في دراسته «الماء في القرآن» وروده نحو 63 مرّة، ولاحظ أنّ معارضي رسالة النبيّ محمّد تحدّوه في مسألةٍ حيويّةٍ لهم وهي الماء: «وقالوا لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنّة من نخيلٍ وعنبٍ فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً» (الإسراء 90 - 91).
كتبت الفنانة التشكيليّة "أتيل عدنان" في تأمّلها لحديقة "شومون" العربيّة الأندلسيّة (في فرنسا): «في البلاد الحارّة يعتبر الماء مادّةً سحريّةً، ويُثير خيط رفيع من الماء في واحةٍ أحاسيس قويّة، وهو في حال ندرته يكتسب جمالاً باهراً وقدرةً على إدخال السّعادة الى القلوب وإغوائها. وعناصر الحدائق العربيّة - الإسلاميّة واقعيّة ورمزيّة في آنٍ، فهي كالمرآة تعود بنا إلى أفكارٍ وتأمّلاتٍ حول نشوء الحضارات، كما تصبح الحديقة عالماً مُصغّراً من السّعادة، تُصبح الفردوس الذي وعدنا به القرآن».
وينسب البعض مثال الحديقة إلى جنّة عدنٍ الأسطوريّة، وإلى حدائق بابل، التي عكست شروط الحياة من خلال العناصر المؤسّسة للحديقة: الماء والأسوار والظلّ. ومنهم من يقتفي الأثر الفارسيّ من خلال كلمة «بستان» الفارسيّة الأصل، والمؤلّفة من عبارتين، بو: عطر، رائحة و ستان: الروض. وقد كتب اليونانيّون كثيراً عن خصومهم الفرس، ولا سيَّما عن الحدائق الملكيّة. ويُعزى إلى "كزنوفان" (Xénophon) استخدامه كلمة «الجنّة» (paradeisos) للإشارة إلى حدائق ملوك الفرس، وهذه الكلمة تعني في الفارسيّة «الفردوس». ويُشير أحد الباحثين اللغويين إلى أنّ أصل كلمة «الجنّة» من اللغة السريانيّة جنّات، وتعني البستان أو قطعة الأرض الخضراء الشجريّة أو الحديقة الخضراء، وأنّها مأخوذة من الديانة السومريّة القديمة في بلاد ما بين النّهرين، حيث كانو يعتقدون بوجود إلهٍ على صورة ملكٍ، قصره فوق السّماء، وأمام قصره حديقةٌ خضراء، اسمها جنّات، أي البستان؛ وفي العبريّة الحديثة كلمة جان تعني بستان، وقد نقلت إلى اللغة العربيّة من اللغة العبريّة التوراتيّة، وحوّرت إلى كلمة جنّة، وبقيت محافظة على صورتها كبستانٍ فوق السّماء.
ورأت الباحثة الفرنسيّة "ماغي شاريهات" M. Charihat أنّ الحدائق بنوعيها (العامّة والخاصّة)، والتي تعني ضبط الفضاء وتنظيمه، شُبّهت بالجنّة، لكونها تعكس نظاماً مفروضاً على الطبيعة يُشبه النّظام الإلهيّ؛ وفي ظنّها أنّ الجنة كما وصفت في القرآن الكريم ستتجسّد في مخيّلة العرب الذين غزوا العراق وإيران، بما شاهدوه في حدائق فارس: أنهار وظلال وثمار شهيّة.
في محاضرة ألقتها الباحثة الأميركيّة من جامعة "إلينوي" "فيرتشايلد رغلز" عن «العطر والحديقة الإسلاميّة عبر التاريخ»، رأت أنّ الحدائق الإسلاميّة على مرّ الزّمان كانت أماكن تُثير الحسّ، وذلك واضح من خلال الوصف المكتوب عنها، والشّعر الذي نظم فيها، مشيرة إلى أنّ المنمنمات المصوّرة جعلتنا نعرف أنّ صوت المياه المتدفّقة من النوافير وتغريد الطيور كان يتردّد في جنباتها، وأنّها كانت مزروعة بالزهور الزاهية اللون والأشجار الظليلة التي تسرّ النّاظرين. وأضافت "رغلز" أنّ الشّعر العربيّ والفارسيّ والتركيّ تناول الأثر المبهج المسكر للعطر، والإحساس برذاذ الماء البارد ودفء أشعة الشّمس على الجلد؛ وغالباً ما كانت الزهور تضاهى بجمال المحبوب، وكان ذلك رمزاً للقرب من الله عند الصوفيّة.
ونظراً لجمالها الفائق وهندستها البديعة، فقد سعى عدد من الدول الأوروبيّة لإعادة بناء هذا النّمط من الحدائق الإسلاميّة؛ والمثال الأبرز «حديقة جنان الأنهار الأربعة»، في حي مارتسان، في برلين الشرقيّة، التي افتتحت عام 2005، وأشرف عليها المهندس الجزائريّ "كمال وافي"، المعماريّ المتخصّص في تصميم الحدائق على الطراز الأندلسيّ، ومصدر إلهامه كما صرّح به، فكرة الجنان كما وردت في القرآن الكريم من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، «حدائق الجنّة» المنتشرة من شمال أفريقيا حتّى الهند، منذ القرن السّابع الميلاديّ.
و«إذا كانت الحديقة هي طريقة كينونة في العالم» في نظر "فرنسوا زبال"، فإنّ موت الحدائق العربيّة - الإسلاميّة يؤذن في رأيه على نحوٍ ما باليأس، فتصوّر الحدائق اندراج في الفضاء وفي الطبيعة، وهي الطريقة المعاصرة للحضور في العالم.