الخلط بين النهضة والحضارة
د. شاهر النهاري
في البداية لا بد لنا من التعريف بمعني الحضارة، والتمييز بينها وبين مصطلح النهضة. وهذا التمييز، قد يبيّن لنا كيف أنّ الخلط بين الحالتين، يحدث كثيراً، ويتكرر وللأسف الشديد على ألسنة بعض المثقفين والإعلاميين، والمسئولين.
فالحضارة، في الصحاح: مأخوذة من الفعل حَضَر، وتعني الإقامة في الحضر، وهي ضد البادية، ولكن هذا التعبير لقدمه ظل قاصراً عن تحديد ملامح الكلمة الحالية، والتي ولا شك قد اتخذت أبعاداً وملامح جديدة من خلال الدخول في العصور المتأخرة، والتي تقدمت فيها العلوم والمعارف.
واصطلاحاً: هي مدى ما وصلت إليه أمة من الأمم من نواحي النشاط الفكري، والعقلي، والبدني، والعمراني، والفني، والسياسي، وهي بتعبير آخر: المنهج الفكري لأمة ما، والمتشكّل في ناتجين معنوي، ومادي.
بمعنى أنّ الحضارة اسم شامل متكامل من جميع الزوايا الحياتية، الماضي منها والمستقبلي، والتي كانت وما تزال تسعى لها كل الأمم، لتزيد من قدراتها، ولتدعم مواردها، ولترفع سقف تواجدها كدولة بين الدول الأخرى، وتضمن وجود نظام سياسي، وقضائي، وتعليمي، صحي، وسياسي، ومهني، يكفل لجميع أفراد الشعب الحياة الكريمة.
بينما نجد أنّ النهضة لغوياً آتية من مصدر: نَهْضٌ، نُهُوضٌ، فنقول «نَهَضَ الوَلَدُ» أي قَامَ فِي نَشَاطٍ وَخِفَّةٍ، ونقول «نَهَضَ عَنْ مَكَانِهِ»: أي اِرْتَفَعَ عَنْهُ.
وأما النهضة اصطلاحاً: فهي الارتفاع والارتقاء الفكري, لأنّ الأمة لا يمكن أن تنهض إلاّ إذا كان لديها زخم من الأفكار البنّاءة الأصيلة، تؤمن بها وتُبدع في استعمالها, وتفرضها على أرض الواقع، ولكن النهضة يمكن أن تكون صحيحة أو فاسدة تبعاً للأفكار، والأهداف، والعقول المنفذة.
ويجب التنبُّه على أنّ النهضة الصحيحة تكون عبارة عن حركة فكرية عامة، حية، منتشرة، تتقدم باستمرار في فضاء الحاضر، وتطرح الجديد دون قطيعة مع الماضي.
وبالعودة للتفريق بين الحالتين، نستطيع أن نقول بأنّ الحضارة اليونانية، أنموذجا للحضارة حيث كانت، وما تزال مؤثرة، بما كان لها من معارف إنسانية، وعلوم، وأدب، وفنون، ومسرح، وفلسفة، ونظام اجتماعي، وتعليم، واقتصاد، ونسق معماري، وتخطيط للمدن، وسياسة خارجية، وقدرة على بناء الدولة من جميع الأوجه.
ونلاحظ امتداد هذه الحضارة، رغم قدمها، حيث لا زالت أكثر العلوم، كالرياضيات، والفلك، والطب، والجغرافيا، والفلسفة، والفنون، والمسرح، والرياضة البدنية، ممثلة في الأولمبياد، ترتبط بشكل مباشر، مع ما يحدث في العالم المتقدم حالياً.
بينما نجد المثال النموذجي الحالي للنهضة، متمثلاً فيما يحدث في (سنغافورة)، حيث إنها وخلال وقت قصير، تمكنت من الانفصال كلياً عن الماضي بجميع تبعاته، والبدء في نهج جديد، ورؤية مستقبلية، وعنفوان يتحدى، أي عقبات، اجتماعية، أو أيدلوجية، أو تاريخية.
نهضة تمّت على ورقة بيضاء كلياً، فقامت باستيراد العلوم والمعارف والعمران، والفكر السياحي، من آخر ما توصلت إليه، والتي تتوافق مع تطلّعاتها المستقبلية، وقامت بتطبيقها بحذافيرها، بداية بالبنية التحتية، ومنتهية باللمسات الرقيقة النهائية، ومحطمة كل المعوقات، التي كان من الممكن أن تقف في طريقها.
هل هذه نهضة صحيحة، أو غير صحيحة؟. هذا ما يجب أن يجيب عنه الشعب السنغافوري، وهم أحرار في رؤيتهم لبلدهم، في المنظور الحالي، والمستقبلي.
ونأتي إلى سؤال، هل يمكن أن تتحوّل النهضة الحالية، إلى حضارة، وبالطبع فللإجابة عن هذا السؤال فإننا سنحتاج إلى الانتظار لقرون عديدة، وذلك حتى نكتشف ماذا أنتجت هذه النهضة للبلد، الذي نشأت فيه، وكيف كان مردودها على الفكر، وهل كان التخطيط سليماً واعياً يعطي منتجات جديدة مفيدة، لا يمكن أن تستغني عنها الإنسانية، أم أن النهضة لمحيّة، وقتية، وبأسباب ربحية، واقتصادية، لا تلبث أن تعود لنقطة الصفر، عند اهتزاز المعنويات، واختلال الأفكار، وتزعزع الرؤية.
وسؤال أخير عن مدى حاجة النهضة، لخلفية حضارية، وهذا بالطبع جزء أساسي في كثير من حركات النهضة في العالم، إذا كان الهدف منها الاستمرارية، والوصول إلى مصاف الحضارات، ومن لا حضارة له، فليشتر حضارة يسبر أغوارها، ويبحث عن المفيد فيها، وينميه، ويبني قواعده على أساسه.
كل حضارات العالم لم تكن نبتاً شيطانياً نشأ من لا شيء، فالحضارات كأغصان الشجرة المعمّرة، التي تتفرّع، ثم تميل، وتعود مجدداً للالتصاق بالأرض، ومد الجذور الجديدة لها، وبالتالي تتمكّن من الوقوف منفردة كشجرة جديدة مستقلة.
لا توجد حضارة شيطانية، تنبت بلا بذور، وبلا جذور، وبلا تشارك وتمازج مع الحضارات القريبة منها.
وفي نفس الوقت لا يمكن أن نستنسخ حضارة قديمة بالكامل، ونقوم بإحيائها، كما هي، لا بد من الفرز، والانتقاء، والتعديل، والتجديد، والتطوير، برؤية، وإخلاص، وحرية. والحضارة الأمريكية الحالية، أتت متفرّعة من جذور بريطانية، ويونانية، وبرتغالية، وفرنسية، ودنمركية، وهولندية.
ولا ننسى الشق الإفريقي منها، حيث ساعد العبيد، في صنع الحضارة الأمريكية، ولو كان ذلك بالجزء العملي، الجسدي المرهق.
كما أنّ الحضارة الأمريكية، لم تقف مكتوفة الأيدي أمام أي حضارات حالية متجدّدة، فهي ما تزال تنهل من حضارة اليابان، والصين، وروسيا، ولا تسمح لعينها بأن تطرف ولو لثانية، حتى تمكنت من صنع حضارتها الحلم.
المصدر: http://www.al-jazirah.com/culture/2011/17112011/aoraq40.htm