تاريخ الأندلس والدراسات الإستشراقية الإسبانية

محمد السروتي
يشكل تاريخ المغرب والأندلس حلقة متميزة من حلقات التاريخ العربي الإسلامي، وقد حضيت بعض محطاته بعناية كثير من المؤرخين شرقا وغربا، فمن المشارقة أذكر منهم على سبيل المثال:- عبد الله عنان، إحسان عباس،محمود علي مكي، حسين مؤنس... ومن المغاربة الذين اهتمّوا بالمجال: المقري، عبد الله كنون، محمد حجي، إبراهيم حركات، محمد بنشريفة... ومن الغربيين أذكر: كوندي، دوزي، سكوت، لاين بول...

كل هؤلاء كتبوا عن تاريخ المغرب و الأندلس، وهي بالطبع كتابات تختلف من كاتب لآخر منهجاً وتحليلاً، لكنّها تتّحد في الحديث عن أنّها حضارة، وعقيدة، وعن فكرة إنسانيّة وعن تجربة عمرت زمناً، واختلفت اختلافاً جذرياً عمّا كان سائداً.

والسؤال المطروح في بداية هذا المقال: ما الغاية التي نتغياها من وراء دراسة تاريخ الأندلس؟ وما الفائدة التي نرجوها من ذلك؟ وما هي نظرة المستشرقين الإسبان لتاريخ الأندلس؟.

الحقيقة أنّ مثل هذه التساؤلات هي التي رسمت ووجهت المسار العلميّ للمؤرّخ حسين مؤنس، وكانت لها أكبر الأثر في اختياره التخصص في تاريخ الأندلس.

فهل دراستنا لهذا التاريخ مثلاً هو من أجل البكاء على ضياع الأندلس؟ أو كما قال المؤرّخ الإسباني (بول برودل): "أنا أعرف أنّكم - والكلام موجه هنا للعرب عامة، و لحسين مؤنس خاصة- تحبون القراءة عن الأندلس لأنكم تحبون البكاء عليه، وأنا معكم في أنكم أسديتم إلى إسبانيا خدمات كبرى وقلوبكم كلها حزن عليه، ولكن الحزن لا مكان له في العلم، فإذا كنت سترضى بالتخصص في الأندلس فأرجوك ألا يكون ذلك تخصصا في البكاء".

لذا وجبت دراسة تاريخ الأندلس بروح المؤرّخ المتجرّدة عن العواطف الإيجابية أو السلبية، لضمان دراسة موضوعية وعلمية نزيهة؛ فالمؤرخ يجب أن يكون كالطبيب الجرّاح في عمله، لأنّ الطبيب الناجح لا بدّ أن يجد لذّة في الجراحات، ولا بدّ أن يستمتع بالقطع والدخول في الجراح، ولكنّه كإنسان لا يمكن أن يحبّ هذا العمل.

وتبقى الغاية الأساسية من دراسة هذا التاريخ بالإضافة إلى توخي الموضوعية والعلمية المذكور آنفاً، أنّها عبرة مهمّة للاتعاظ، فهي تقدم لنا قصة طويلة مشجية من تقلب المصاير والحظوظ، تتناوبها صور متباينة من القوة والعظمة، والضعف والانحلال، والاتّحاد والتفرق، والنعماء والضراء، ولكن يميّزها دائماً ذلك الطابع الحضاريّ المؤثر، الذي جعل من الأندلس المسلمة، أمة نموذجية عبقرية، تتفوق على سائر أمم العصر بعلومها وفنونها، والتي استطاعت بها تحويل القفار الإسبانية الموحشة إلى حدائق مزهرة وحقول غناء، بهرت بها الجيران في شبه الجزيرة من الممالك النصرانية، كما بهرت أمم الفرنج الأوربية، التي كانت تتخبط في موجات من الجهالة والتأخر...

المدرسة الاستشراقية الإسبانية

إنّ غياب الأندلس عن ذاكرة الإنسان العربيّ، بعد سقوطها في أيدي الإسبان صاحَبَهُ حضور قويّ للأندلس والأندلسيين في واقعة الأمة الإسبانية، التي تشكّلت في شبه الجزيرة الأيبيرية عقب سقوط غرناطة.

وهكذا نشط الاستشراق الإسباني، منذ مطالع القرن التاسع عشر، وظهر التراث الأندلسي لأوائل المستشرقين الإسبان "كنزاً" ثميناً فأقبلوا عليه جيلاً بعد جيل، يدرسونه ويقومونه، مقدّرين ما ينطوي عليه من الإبداع والمعارف والعلوم. فعدُّوا المخطوطات الأندلسية تراثًا لهم، لذاأخذوا في ترجمة بعضها إلى الإسبانية ودراستها، والاستفادة من مادّتها الغزيرة، الأدبية والعلمية، مثل تآليف ابن الفرضي وابن بشكوال والضبّي وابن الأبّار.

وقد نشأ الاستشراق الإسباني في أحضان حركة عدائية لكل ما هو عربي ومسلم، وكان هدفها التحقير والانتقام والتشويه، وقد وصف المستعرب الإسباني خوان غويتسولو في كتابه (في الاستشراق الإسباني) نماذج من هذا النوع حين يكتبون عن الإسلام والمسلمين بقوله: إنّهم "إنّما يكتبون ويتصرّفون وينطقون باسم المسيحية في مواجهة حضارة متدنّية، وفي أفضل الأحوال، فإنّ استحضار الماضي المجيد الذي عرفه العالم الإسلامي يدفعهم إلى التفجّع على نحو متحذلق على الانحطاط الحالي (انحطاطاً كان في رأيهم محتماً ولا مناص منه) وعلى عجزه الطبيعي عن هضم التقدّم الأوروبيّ".

ووصف غويتسولو دراسات المستشرقين الأسبان للغات الإسلامية بأنهم يدرسونها كما لو كانت "لغات حضارات منقرضة، ومقطوعة عن اللغات الحالية التي هي وريثها الشرعي، حاكمين عليها بذلك بأن تشكل عدماً أو ما هو أقل من العدم".

واختلط الدافع الديني الحاقد بدافع استعماري سياسي حينما بدأت حركات الاحتلال الأوروبي للعالم الإسلامي وطمعت إسبانيا في المناطق المجاورة لها فجندت مستشرقيها لإعداد الدراسات لمعرفة مواصفات السكان وطبائعهم وتجارتهم وزراعتهم، وكذلك معرفة اللغات واللهجات المحلية، وقد أنشأت الحكومة الأسبانية العديد من المراكز لتعليم العربية والعامية المغربية، وقد تجاوزت الخمسين مدرسة . وما تزال إسبانيا تحتفظ بالكثير من المخطوطات العربية في مكتباتها الكبرى كمكتبة الاسكوريال ومكتبة مدريد الوطنية، ومكتبة جمعية الأبحاث الوطنية.

أيا كانت ميولات المستشرقين الإسبان وفئاتهم، فإنها تنطلق من موقف ديني نصراني موحد هو عدم الاعتراف الكامل بمساهمة الحضارة الإسلامية الأندلسية في النهضة الأوربية، والمستشرقون الإسبان اعتزّوا بالتراث الأندلسي الباقي في بلادهم، وجعلوه (إسبانيّا دمًا)، مُغفلين، أو متجاهلين أنه (إسلاميُّ الروح).

منطلقات الدراسات الاستشراقية الإسبانية

1- التحليل العرقي:

إذ انطلقت الأيديولوجيات التي كانت سائدة في أوروبا لتناول مجموعة من المواضيع، من بينها: العمارة، المدينة... وكان دائماً المعتمد أو السند هو البحث عن الأصل الإغريقيّ الرومانيّ، فنجد على سبيل المثال "كلوديو سانشيز" يحلل المجتمع الأندلسي بتحليل عرقيّ منطلقاً من دعوى مفادها أنَّ التركيبة السكانية في الفتوحات الإسلامية الأولى كانت قليلة من حيث العدد؛ وهذه القلة العددية لم تستطع أن تؤثّر الأثر الكبير في السلالة الأسبانية التي كانت كبيرة وواسعة الانتشار. وقد قاد هذا التعصب إلى حد اعتبار عمالقة الفكر الأندلسي كابن حزم إسبانياً، لأنَّ الإسلام – في نظرهم- دين شبقيّ عاجز عن إنتاج مثل أولئك العمالقة. وحتى ابن الحاج القرطبيّ واضع أكبر ناعورة في فاس أرجعوا ذكاءه وألمعيّته إلى تكوينه في وسط أسرة مسيحيّة، رغم أنّه كان من الفقهاء الذي خلفوا ثروة نوازليّة هامّة.

2-الدراسات الاستشراقية الاسبانية تتحدث بالأساس حول استبداد الشرق وعدم استقلاله، وهذا النمط من التحليل ساد في معظم الدراسات.

3- قضية إلغاء الفرد أو الفردية، وهي ظاهرة موجودة في جلّ الدراسات الاستشراقية، ومفاد هذه النظرة التركيز على بعض القبائل التي كانت لها القدرة على التسيير الذاتي، و هو أمر استعمل في تحليل جلّ المجتمعات ومثال ذلك التركيز على المجتمع المغربي من خلال إبراز الفسيفساء الاجتماعية التي كانت عائقا أمام الوحدة السياسية، في بعض الفترات التاريخية.

وجدير بالذكر أن هذه المنطلقات التي تحكمت في الدراسات الاستشراقية الاسبانية، هدفت بالأساس ترسيخ مجموعة من المفاهيم في ذهن المتلقي، من بينها:

*- إن الوجود الإسلامي في الأندلس كان بمثابة وجود كارثي، لكن سرعان ما انمحى مع حروب الاسترداد بالأندلس،..

*- إن قيم الجدة والنبوغ في العطاءات الأندلسية لا يمكن فهمها إلا بالدم الإسباني، فابن القوطية مثلاً في نظرهم كان مرتبطاً بالفكر الهيليني. وابن حزم في طوق الحمامة كان من المتأثرين بالروح المسيحيّة أكثر من تأثره بالروح الإسلامية، لأنّها في نظرهم روح عاجزة عن إبداع مثل تلك الأحاسيس الجيّاشة.

*- تميّز المسلمين باللاعقلانيّة، وبعقيدة جبريّة، وبشبقيّة حيوانيّة....

خصوصيّات المدرسة الاستشراقية الاسبانية

يرى المستشرق الإسباني "ميكال بارسو" أنّه لا يمكن إدراج الدراسات الإسبانيّة ضمن الكمّ الهائل من الدراسات الاستشراقيّة، فقد تمّ تقدير حوالى 62 ألف عنوان أنجز ما بين 1800-1950، كان فقط حول الإسلام والمسلمين. لكن لا يمكن الوقوف على خصوصيّات الدراسات الاستشراقيّة الإسبانية إلا من خلال معرفة المحيط السياسي المؤثر فيها، ومنه تقسيم هذا الخطاب إلى ما يلي:

1- هناك خطاب رجعيّ عدميّ تعود جذور إلى مرحلة طرد المورسكيون، ويهدف هذا الخطاب إلى محاولة محو الوجود الثقافي للعرب والمسلمين في الأندلس..

2- وفي المقابل هناك خطاب لبيراليّ متعاطف مع المورسكيين، وهي طبقة تقليدية محافظة، ومن أمثالها كوندي، سافيدرا...

3-وهناك أيضا خطاب مدافع ومنافح عن الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس، ومن هؤلاء أذكر على سبيل المثال: أمريكو كاسترو، الذي أكد في غير ما مرة على الخصوصية الثقافية الإسلامية ومساهمتها في تاريخ الأندلس، ودافع عن الحضور الإيجابي للمسلمين في تاريخ الأندلس.

ومن الباحثين من قسَّم روّاد المدرسة الاستشراقية الإسبانية إلى ثلاثة أقسام:

1. مغرضون: ونموذج هذه الفئة المستشرق كلاوديو سانشيث البرنوث، وله كتابان: إسبانيا الإسلامية، إسبانيا الإسلامية والغرب.

2. معتدلون... ولكن؟؟: ونموذج هذه الفئة المستشرق إميليو جاريا غومث،..

3. منصفون: وتتكوّن من مجموعة من الشبان الذين تخلصوا من كابوس محاكم التفتيش، ومن عقدة نقاوة الدم. ففي المجال الأدبي نذكر: "خوان غويتسولو" ، "أنطونيو غالا"، "أنطونيو مونيوز مولينا"، "رامون مايراتا" في روايته: "علي باي العباسي" ...

لكن برغم اتصاف هؤلاء بالإنصاف (ونموذج ذلك غالا) نجد الصورة التي رسمت بها الشخصية الإسلاميّة في روايته المخطوط القرمزي، كانت صورة سلبية جداً فهي تمثل أخلاقيّات ومعايير مجد زائل. وذلك في مقابل الشخصيات المسيحية تمثل إرهاصات ملك في طريقه إلى الوقوف على قدميه، وإن كان ذلك يستند إلى دعائم واهية. و"الوله التركي" لا يقلّ سلبية في وصفه للمرأة المسلمة.

خاتمة

إنّ جلّ الدراسات التي درست الظاهرة الاستشراقية، كانت ذات رؤية قاصرة لم تتجاوز عتبة الوصف والتجميع المعجميّ ذي الطابع المدرسيّ، ولم ترقَ إلى مجال التحليل والنقد العلميين. فبقيت سجينة رؤية تقريضية تسجل للمستشرقين ما لهم وما عليهم.

وإما أنها انخرطت في بلورة استنساخ ردود فعل انفعالية ومتشنجة، اكتفت برد مجموع الجهد الاستشراقيّ إلى أهواء ورغبات المستشرقين وميولهم المتربصة بالإسلام والعرب، انطلاقاً من مواقف وميول واضحة.

وعليه، فإنّ معالجة إشكاليّة الاستشراق في مختلف دراساته، يجب أن تتم بعيداً عن تناول أغراض ونوايا وميول المستشرقين. والابتعاد في نفس الوقت عن الانزواء داخل منهجية الانتماء الملّي العقدي... لأنّ الهدف الأساس هو النفاذ إلى إشكالية الاستشراق والحفر في مكوّناته، وآليّاته التي تسمح بوجوده. وبهذا يستطيع الباحث الوصول إلى الخيط الناظم ويقف على المنطلقات الأساسية لهذه الدراسات، وجدير بالذكر أنّ هذه العملية دشّنها سالم يفوت في كتابه: "حفريات الاستشراق: في نقد العقل الاستشراقي".

المصدر: الفسطاط.

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك