المصارف والبنوك في نظر الإسلام
ماحكم الاسلام في المعاملات المصرفية؟ذلك هو السؤال الذي لا يزال المجتمع الاسلامي يعيشه بما فيه من حيرة وقلق نفسي، ولم يجد لحد الان جوابا من اهل العلم من ائمة المذاهب الاسلامية يكون فيه المخرج من هذا الارتباك الذي نحياه في معاملاتنا، صحيح ان هذه الحيرة لم توقف التيار، ولم تعرقل سير القافلة فاغلب الناس يتعاملون مع البنوك اخذا وايداعا، وكل المجتمعات الاسلامية تعيش هذا الواقع، وهو واقع املاه العصر بحيث اصبحت فيه البنوك امرا لا مفر منه الا بتغير النظم الاقتصادية واعتناق مذاهب بعيدة لا تتفق مع ديننا في بعض مبادئها وفي كثير من اساليبها، او اقامة دولة اسلامية لها من الاكتفاء الذاتي ما يغنيها عن الاستيراد والتصدير لمن تحتاجه من الامم او يحتاجها وذلك مالا يمكن. . . وليس معنى ذلك انني اصدر حكمي مسبقا بضرورة وجود المصارف والبنوك بشكلها الحالي ونظامها السائد. كلا، وانما اقصد من كلامي اننا نعيش مشكلة كان من اللازم ان تحل من زمان، وان يصدر فيها رأي قاطع بالتحليل او التحريم من هيأة مسؤولة كهيأة كبار علماء الأزهر، وكلما نجده في موضوع البنوك والمصارف مجرد آراء شخصية، تارة تحلل بشرط، وتارة تحرم مطلقا، وحار المتحرجون بين الاباحة والتحريم . . . وانا نفسي في هذه الكلمة لا اعزم انني ساقدم حلا شافيا مخرجا من المأزق، وانما سابدي برأيي الذي اومن به ثم ادعو رجال الحل والعقد من علمائنا الى ان يجمعوا على رأي يكون فيه الخلاص والاطمئنان. . .
لصل البنوك:نظام البنوك ماخوذ من نظام ابتدعه اليهود في المدن الساحلية التجارية من ايطاليا وفرنسل، كانوا يعرضون المسكوكات فوق المناضد ليقرضوهابفائدة، واول بنك عرفه التاريخ هو بنك انكلترا الذي اسس على هيأة شركة اهلية تألف من اجل ان تقرض للملك وليم الثالث سنة1694 مبلغا كبيرا من المال يفوق المليون جنيه لظروف قاهرة وفي مقابل امتيازات وفوائد، ولايزال الى الان كذلك. . فالمهمة الاساسية للبنوك هي اقراض المحتاجين بفائدة مئوية تزيد على تقبل الودائع، ولكن المشكلة تكمن في هذه الفوائد التي تؤخذ على القروض او تعطى للمودعين والمتعاملين احلال هي ام حرام؟ الواقع ان العلماء مختلفون في ذلك، فهناك الامام محمد عبده والأستاذ المراغي يجيزون صراحة ان يقترض المحتاج في العقد الاول بفائدة ولا يحرمون الا الزيادة المضاعفة الفاحشة او الربا المركب عند حلول الاجل وعجز المدين عن الدفع المستدين في ذلك على ما فهمه الصحابة وخصوصا ابن عباس من الربا المحرم الذي هو ربا الجاهلية المذكور في الأية الكريمة:لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة، وقد سبق لنا ان راينا في المقال السابق تفسير ابن جرير الطبري للاية ولذلك يصرح محمد عبده والمراغي ويقولان:ولا شيء منها اي من الزيادة المحرمة او المعبرة ربا_في العقد الاول كان يعطيه المائة وعشرة او اكثر او اقل، وبناء على رأيهما في تفسير الربا المحرم تكون المعاملات المصرفية من الربا الجائز لانها غير مضاعفة عند حلول اجل الدين، واما عند العقد الاول فلا شبهة مطلقا في التحليل. . .
وهناك الاستاذ رشيد رضا الذي اختار للعامة اشتعمال الحيل الشرعية التي اجازها الشافعي وابو حنيفة واستعملتها تركيا في عهدها الخليفي للتعامل مع البنك الزراعي الذي انشأته واسمت التعامل معه مبايعة شرعية، ومن العجب ان الاستاذ اقرها ووجد فيها المخلص وكان التحايل على الدين يغير من الواقع شيئا، ذلك ان التعامل مع البنوك وانا اعتقد الحرام واستغفر الله كلما انبني الوازع الديني واحاول الاقلاع افضل واشرف من ان ارتكب حراما محللا بالتلفيق والتحايل على الذي يعلم الظاهر ومااخفي. . . واما اهل العلم فالاستاذ رشيد رضا يذكرهم بقاعدة السير ودفع الحرج، ويقول من اضطر من اهل العلم والتحري وهم اعرف الناس بالضطرار اقدم من غير حرج في ربا النسيئة، ومنه على مايفهم من كلامه ربا البنوك ولكن هناك من علمائنا من كان صريحا جريئا كالاستاذ شلتوت، وخلاف، والابراهيمي، قالوا باباحة التعامل مع البنوك اباحة مطلقة، واعتبروا ذلك نوعا من التعامل التجاري لا استغلال فيه ولا تضعيف او ما يشبه التضعيف في الفوائد المأخوذة على القرض. . .
ونجد في مقابل هؤلاء موقفا معاكسا من الاستاذ سيد قطب احد اقطاب الاخوان المسلمين الذي يرى ككثير من علماء المسلمين انه لا توجد ضرورةللتعامل مع البنوك، ولا يجوز الاستقراض منها بفائدة سواء كان القرض للاستهلاك او الانتاج، وهو اذ يقرر هذا المبدأ لا ينسى المضطرين، بل يرى ان النظام الاسلامي في الدولة الاسلامية يقسم الناس فئتين:فئة محتاجة مضطرة ومن الواجب ان تقرض من غيرفائدة ان لم تعط ما تحتاجه صدقة من غير رد، واما غير المحتاج فلا داعي لان نفتح امامه ابواب الثراء الفاحش على حساب الطبقات المحرومة، ويبقى امامنا شيء واحد هو ان الغينا البنوك التي تعطي وتأخذ بفائدة فلا يمكن للاقتصاد ان يزدهر نتيجة لقلة استثمار رؤوس الاموال في مؤسسات مصرفية، وهو يرى ذلك حقا ولكن هناك طريقان لاصحاب رؤوس الاموال لكي يستثمروا مدخراتهم وفائضهم المالي:
الاول ان يعتمدوا على انفسهم في استثمار اموالهم، والثاني ان يستثمروه في شركات مساهمة تربح اسهمها او تخسر، وكلا الحلين يقرهما الاسلام ويرغب فيهما، اما استثمار الاموال في معاملات مصرفية فهو عمل ربوي آثم اساسه غير مشروع لانه اتراء من غير عمل وربح من غير خسارة.
البنوك في وضعها الحالي:والواقع ان البنوك في وضعها ونظامها الحالي لا يقرها الاسلام ولا يحلها الا اضطرارا لانها لاتخدم الا طبقة معينة، ولا يستفيد منها الا اصحاب الضمانات المادية ومن له ضمان ملكه يفوق ما يأخذه من البنك، فهو ليس بمحتاج او مضطر وانما يجد من البنوك سندا قويا ليزداد ثراء وغنى، ومن هنا كانت البنوك التجارية اداة فعالة لجعل المال دولة بين الاغنياء فقط اما المستضعفون فلا امل لهم ولا معين. . .
غير ان هناك البنوك التعاونية والرسمية كبنك الدولة او البنك الزراعي الذي تؤسسه الدولة وهذه مضطرة للتعامل مع الخارج بالربا لكي تؤدي مهمتها وتحقق المصلحة المتوخاة منها، ثم من الضروري ان يعاد النظر في نظام البنوك جميعا حتى تصبح عاملا مساعدا في جميع الطبقات اما ان تبقى مقصورة على الموسرين فذلك مايتنافى مع العدالة الاجتماعية وروح الاسلام. وذلك ان يعاد تحديد الصفة اللازمة للمنتفع منها وندخل فيها عناصر جديدة كحسن الخلق، ووجود الاستعداد فنيا، وتحقق الاحتياج، ولو فعلنا ذلك لساهمنا في رقي الشعب خلقيا وماديا وانقدنا كثيرا من ابناء شعبنا الذين لا ينقصهم في الحياة الا رأس المال الذي استأثر به ارباب الملايين واصحاب الضمانات.
وبعد فهناك طرفان في قضية البنوك:الدولة والشعب، اما الدولة فهي مضطرة للتعامل مع الدول المرابية واذلك لا مانع مطلقا من ان تستقرض وتقرض بفائدة للطبقات التي تستحق، وهناك الشعب هذا الشعب الذي حرم الله الربا من اجل حمايته والدفاع عن مصالحه والحيلولة دون استغلال ضعفه والعمل على انقاذه من سيطرة اصحاب الاموال يجوز له كلما دعته الحاجة والزمته الظروف ان يتعامل مع البنوك وان يستقرض منها بفائدة الى ان يتحقق الامل الذي يراود المصلحين وتؤمن به الرسالات وتدعو له الديانات وذلك بوجود بنوك ومصارف لا تستعمل من أجل الربح ولكن من اجل الشعب ولصالح الشعب وعندئد تقل الفروق بين الطبقات وينعدم الآثراء من غير عمل ويصبح المجتمع في امن من ان تستغل فاقته ويشعر الناس جميعا حاكمين ومحكومين اغنياء ومعوزين بالاخوة والمحبة وتعيش الامة في تعاون مثمر وسعادة شاملة ذلك مانرجو ان يتحقق وعسى ان يكون قريبا.