التاريخ الهجري عند العرب والمسلمين

د. أليس كوراني(خاص الموقع):

لم يكن للعرب في الجاهليّة تقويماً محدّداً يستندون إليه في تأريخ الأحداث، صحيح أنّهم عرفوا التقويم القمري، فالسّنة القمريّة 354 يوماً و8 ساعات و48 دقيقة و36 ثانية، والشّهر القمريّ، هو المدّة التي يتّم فيها القمر دورة كاملة حول الأرض؛ وتقاس عادة من مولده إلى مولده التّالي. وكلّ 33 سنة قمرية تعادل 32 سنة شمسية على وجه التّقريب لا التّحديد، وعليه لا يتّفق أوّل السّنة القمريّة وأوّل السّنة الشّمسيّة إلاّ كلّ 33 سنة مرّة واحدة، على وجه التّقريب أيضًا. يذكر أنّ ذلك حدث نهار الأحد في بداية المحرّم عام 858 للهجرة حيث وافق أوّل يوم من شهر كانون الثّاني/ يناير عام 1454 للميلاد.

وإذا نظرنا في كتب التراث، وجدنا أنّ العرب في جاهليتهم أرخّوا ما جرى حولهم من أمور عظام بحسب الأحداث الكبيرة، فعلى سبيل المثال، أرّخوا بعام الفيل، وهو أشهر تأريخهم، إشارة إلى هجوم أبرهة الأشرم -بجيشه من الفيلة- على مكّة المكرّمة لهدم الكعبة عام 571 للميلاد، وباء هجومه بالفشل الذريع، ويصادف ذلك العام ولادة رسول الله صلّى الله عليه وآله. فكانوا يؤرّخون بقولهم، على سبيل المثال: حدث الأمر الفلاني بعد عام الفيل بثلاث سنوات، أو ولد فلان في عام الفيل، أو بعده بكذا أو قبله بكذا إلخ... كما أرّخوا بحرب الفجار، ولم تكن حرباً بالمعنى الحقيقي، إنما على طريقة  الجاهليين في أيّامهم المعروفة من مهاترات كلامية، وكرّ وفرّ ومناوشات بسيطة. فالفِجار يوم من أيّام العرب، وهي أربعة أفجرة كانت بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عَيْلان، وإنّما سمّت قريش هذه الحرب فِجاراً لأنّها كانت في الأشهر الحرم، وكان الفجار الأكبر، فجار البراض، وهو لتمام عشرين سنة من مولد رسول الله صلّى الله عليه وآله.

كما أرّخوا بأيّامهم المعروفة مثل حرب البسوس، وداحس والغبراء، وحرب الأوس والخزرج، إلخ..

وكان السيل قد خرّب الكعبة، فأعادت قريش بناءها عام 605 للميلاد، وأضحى يؤرّخ للحدث بلحاظ بناء الكعبة، وكان بين البناء وآخر حروب الفجار 15 سنة حيث انتهت إلى الصلح بين الفريقين.

وكانوا من قبل يؤرّخون ببعض الأحداث الكبيرة، من ذلك تأريخ بناء الكعبة زمن إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام نحو عام 1855 ق.م، وأرّخوا برئاسة عمرو بن لُحَيّ نحو عام 260م، وهو جدّ خزاعة الذي قاتل جرهماً، فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة. ونفاهم من بلاد مكّة، وتولّى حجابة البيت بعدهم. وربّما أرّخوا بوفاة أحد المشهورين أو العظماء منهم مثل كعب بن لؤي نحو سنة 60م، وهو جدّ جاهليّ، من سلسلة النّسب النّبويّ، وكان عظيم القدر عند العرب، فأرّخوا بموته إلى عام الفيل.

ومع ظهور الإسلام ثمّ بناء الدولة الإسلامية في المدينة المنوّرة، بقيت بداية السّنة القمريّة في المحرّم ونهايتها في ذي الحجّة إلاّ أنّ المسلمين لم يعتمدوا تاريخاً موحّداً لتأريخ الأحداث، بل ظلّوا يؤرّخونها بحسب أهمّتها ، فأطلقوا على بعض السّنوات مسمّيات لها علاقة بما جرى فيها، فعلى سبيل المثال، قال المطهّر بن طاهر المقدسيّ (ت بعد355هـ/ بعد 966م) في كتابه " البدء والتاريخ":«كانت سنو الهجرة عشر سنين، السّنة الأولى سنة الهجرة، والثّانية سنة الأمر بالقتال، والثّالثة سنة التّمحيص والرّابعة سنة التّرفيه، والخامسة سنة الزّلازل، والسّادسة سنة الاستئناس، والسّابعة سنة الاستغلاب، والثّامنة سنة الاستواء، والتّاسعة سنة البراءة، والعاشرة سنة حجّة الوداع، ثمّ دخلت سنة إحدى عشرة من الهجرة مضى منها شهران واثنا عشر يوماً ولحق بربّه صلّى الله عليه وآله».

- فسنة الأمر إشارة إلى الأمر بقتال المشركين.

- وسنة التّمحيص، أي تكفير الذّنوب بعد غزوة أُحد لقوله تعالى:﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ سورة آل عمران : 141.

- وسنة التَّرْفِئَة، فمعناها الاتّفاق وجمع الشَّمل من رفأ بين القوم:إذا أصلح بينهم.

- وسنة الزّلزال، إشارة إلى ابتلاء المؤمنين وزلزالهم في غزوة الخندق، وفي ذلك ورد في القرآن الكريم:﴿إِذْ جَاؤُوكُم مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾ سورة الأحزاب:10، 11.

- وسنة الاستئناس إشارة إلى نزول الآية الكريمة:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ سورة النور:27.

- وسنة الاسْتِغلاب، هي السّنة التي فتح فيها المسلمون خيبر وتغلّبوا على اليهود.

- وسنة الاستواء، هي سنة الفتح أيضاً، وفيها كان فتح مكّة.

- وسنة البراءة إشارة إلى نزول الآية:﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ سورة التوبة:3. أو البراءة من المتخلّفين عن الجهاد يوم تبوك، وهي أيضاً سنة الوفود لقدوم أفواج العرب وفودًا معلنين إسلامهم، وكلّ ذلك كان في السّنة التّاسعة.

- وسنة الوداع، أي سنة حجّة الوداع، وهي آخر حجّة حجها رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وبقي الأمر كذلك زمن خلافة أبي بكر، وسنوات من خلافة عمر بن الخطّاب، فنسمع عن عام الطاعون، أي طاعون عمواس الذي أصاب النّاس عام 17 أو 18 للهجرة، فهلك فيه الآلاف من الناس، وعام الرّمادة في آخر عام 17 وأوائل عام 18 للهجرة، وهو العام الذي حلّت فيه المجاعة بالمدينة المنوّرة وما حولها بسبب القحط، وأضحى التّراب أشبه بالرّماد.

ومع تطوّر مفهوم الدولة زمن الخلافة الراشدة، كان لا بدّ من اعتماد تاريخ موحّد لتأريخ الأحداث، أو لتوقيع الكتابات الصادرة عن الخليفة لعماله في المناطق أو البلدان النائية، فاتّفقوا على اعتماد شهر محرم ليكون بداية للسنة الهجرية، علماً أنّ الهجرة النبويّة جرت في شهر ربيع الأوّل، لكن القوم لم يجدوا بأساً في اعتماد المحرّم على عادتهم في الجاهليّة.

ومع أنتظام أمور الدّولة الإداريّة وتتطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كان لا بدّ من اعتماد تقويم واحد في أرجاء الأمصار الإسلاميّة، ووجد الخليفة الرّاشديّ عمر بن الخطاب نفسه أمام معضلة عندما كان يرسل كتباً إلى عمّاله، أو عندما تصله منهم، من ذلك أنّه ردّ برسالة على عامله في البصرة أبي موسى الأشعريّ، وجاءه الرّدّ كالتّالي، بحسب ما ورد في تاريخ الطّبريّ:

«إنّه تأتينا منك كتب ليس لها تأريخ». وورد فيه أيضاً:«رفع إلى عمر صك محلّه في شعبان فقال عمر:أي شعبان؟ الذي هو آت أو الذي نحن فيه؟(...) ثمّ قال لأصحاب رسول الله (ص) ضعوا للنّاس شيئاً يعرفونه». وفي رواية أخرى للطّبريّ في تاريخه:«جمع عمر بن الخطّاب النّاس فسألهم فقال:من أي يوم نكتب؟ فقال عليّ عليه السّلام:من يوم هاجر رسول الله (ص) وترك أرض الشّرك ففعله عمر(رض)». وكان ذلك في العام السّابع عشر للهجرة. ولم تكن هجرة النّبيّ(ص) في المحرّم، بل قدم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل، وتوافق بداية التّقويم الهجريّ يوم الجمعة 16 من شهر تموز/ يوليو عام 622 للميلاد، لكنّ القوم أجمعوا على اتّخاذ المحرّم بداية العام الهجريّ لأنّه كان بدايةً للسّنة في التّقويم العربيّ قبل الإسلام. 

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=8444

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك