العدالة الإسلامية

إن حياة ضمير العظماء واستقامة سلوكهم تجعل منهم خير بناة لعظمة الأمم، وإن المسلمين يرون في عمر بن الخطاب المثال النموذجي الكامل، عز وندر وجود مثله في التاريخ، وقد كانت قضاياه وأعماله، ولا زالت غرة في تاريخ التشريع والتنفيذ معا، فهو من جهة يرى على القاضي أو الوالي أن يتفهم القضايا المعروضة عليه، ثم بعد وضوحها لديه يبادر بتنفيذها حتى لا تضيع هيبة القضاء بكثرة المماطلة والتسويف، فالمحاكم الإسلامية كلها مدنية وجنائية وشخصية في نظره كأنها المحاكم العسكرية في نظر العصر الحاضر، في سرعة تعجيل القضاء وتنفيذه، فهو يقول في رسالته المشهورة في القضاء: «فأفهم إذا أدلي إليك، وأنقذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له».
وكان رضي الله صريحا في الحق صراحة تامة كما هو مشهور عنه من أنه لا يخشى في الله لومة لائم، وبصراحته في الحق، وقوة شخصيته في تنفيذه بكل دقة انتشرت في الحق، وقوة شخصيته في تنفيذه بكل دقة انتشرت له هيبة في النفوس لم تكن لأحد غيره.. فهذا زياد الشجاع الداهية البليغ لما أرسله سعد بن أبي وقاص بطل القادسية بحساب المغنم والفيئ على عمر وكلم عمر، ووصف له الانتصارات الإسلامية، قال له عمر هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل الذي كلمتني به؟
فقال والله ما على وجه الأرض شخص أهيب في صدري منك، فكيف لا أقوى على هذا من غيرك، فقام زياد في الناس بما أصابوا وبما صنعوا، وبماذا يستأذنون فيه من الانسياح في بلاد، فقال عمر: هذا الخطيب المصقع، فقابل هذه بالجملة المأثورة (أن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا).
وكذلك ما ثبت عن ابن عباس من هيبة عمر حيث قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي (ص) اللتين قال الله تعالى فيهما: «أن تثوبا إلى الله فقد صفت قلوبكما» فمكثت سنة ما استطيع أن أسأله هيبة له حتى حج.. إلى آخر الحديث..
فشخص عمر المتفاني في إقامة العدل كيف صاغ له أن يشاطر ولاة في أموالهم لم تثبت عليهم خيانة في ولايتهم؟
يظهر أن سند عمر في عمله هو ما صح عن النبي كما في رواية مسلم: ( من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا (أي إبرة) فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة) قال راوي الحديث (فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني انظر إليه فقال: يا رسول الله أقبل عني عملك، قال ومالك؟ قال سمعتك تقول كذا وكذا قال: وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه اخذ، وما نهي عنه انتهى).
وتطبيقا لهذا الحديث قال الرسول في قضية عامله إبن اللتبية الذي قال هذا لكم وهذا أهدي لي: حيث قام خطيبا وقال بعد أن حمد الله (ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا اهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟
وعمر قد اتخذ في سياسته مع العمال انه كان يمنعهم من التجارة منعا بابا ليلا يستغلوا جاه الولاية ونفوذها لمطامحهم الشخصية كما تمنع ذلك بعض الدول الأوربية الآن، بل وتمنع حتى شراء الأملاك.. وإن كان هذا التشريع أصبح اسميا عندها.. حيث أن كثير من الأشخاص أخذوا يسجلون ما يملكونه في أسماء آبائهم أو أزواجهم محافظة على حرفية القانون دون اعتبار لروحه، أما عمر بن الخطاب فقد طبق أوامره تطبيقا كاملا حيث وجد الحجة الصحيحة على ولاته باكتسابهم أموالا طائلة زيادة على ما نالهم من وظيفة علمهم، أو غنيمة جهادهم.
وقد وقفت في كتاب الإصابة للحافظ بن حجر على قصيدة أبي المختار يزيد بن قيس بن الصعق الذي شكا فيها عمال الأهواز وغيرهم إلى عمر بن الخطاب، وكان لبقا في تمكين التهمة فيهم مع حسن تخلصه من الاستدعاء للشهادة عليهم..
وفي نفس الوقت سمى طائفة كبيرة منهم بأسمائهم، واقترح مشاطرتهم ما اكتسبوه حيث قال لعمر بن الخطاب:
(فقاسمهم نفسي فداؤك أنهم
                     سيرضون ان قاسمتهم منك بالشطر
ولا تدعوني للشهادة أنني 
                     أغيب ولكني أرى عجب الدهر
نؤوب إذا آبوا ونغزو إذا غزوا
                     فإن لهم وفرا ولسنا ذوي وفر)
قال الحافظ بن حجر، فقاسم عمر هؤلاء القوم فأخذ شطر أموالهم حتى أخذ نعلا، وترك نعلا).
ففي قوله نؤوب إذا آبوا (أي نرجع إذا رجعوا)، ونغزوا إذا غزوا، ما يوضح اتحاد عملهم وعمل الولاة، فكان من المنطق أن يكون وفر المال عند الجميع أو عدمه عند الجميع، لا أن يكون الوفر في جانب دون الآخر، ولهذا واخذهم عمر، إلا أنه لم يقتصر في مقاسمه العمال والولاة ما اكتسبوه على عمال الأهواز الذين شكاهم أبو المختار إليه، بل شاطر غيرهم من كبار الصحابة كسعد بن أبي وقاص، الشهير المتقدم، وعمرو بن العاص فاتح مصر، وأبي هريرة عامله على البحرين كما في كتب السير، ولعل عمله مع هؤلاء اقتضاه تطبيق المساواة بين ولاته الذين وجد عندهم فضلا من المال بل أن عمر كان يتتبع من يتجر بمال هؤلاء الولاة من أقاربهم فيشاطرهم أيضا، فقد شاطر أبا بكرة فقال له: أني لم آل لك شيئا يعني، لم أتوك لك أية ولاية، فقال: (أي عمر) أخوك على بيت المال وعشور الابلة يعطيك المال تتجر به؟ فأخذ منه عشرة آلاف.. ويقال قاسمه فأخذ شطر ماله)هـ.
وقد يقال أن هذا العمل شدة من عمر، ولكن عمر هكذا كان في الحق فقد فعل نفس العمل مع إبنيه عبيد الله، وعبد الله، ففي كتاب القراض من الموطأ عن يزيد بن أسلم عن أبيه أنه قال خرج عبيد الله وعبد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة، فرحب بهما وسهل، ثم قال لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال بلي: ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المومنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المومنين، ويكون الربح لكما، فقالا، وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟.. قالا: لا، فقال عمر: أبنا أمير المومنين فأسلفكما؟ أديا المال وربحه،.. فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المومنين هذا، لو نقص هذا المال أو هلك ضمناه، فقال عمر: أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المومنين لو جعلته قراضا، فقال عمر، قد جعلته قراضا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله إبنا عمر نصف ربح المال هـ).
والغرض من الإلمام بهذا الموضوع هو توجيه الشباب إلى هذه الصفحات البيضاء من تاريخ العدالة الإسلامية.
وفي الوقت نفسه لفت نظر ولاة أمورنا، إلى لزوم تنظيم التفتيش النزيه في مختلف الجهازات والمرافق الحيوية في البلاد حتى يجعل حد للدعايات القائمة بشدة الحاجة إلى التطهير، لأن البحث النزيه يفتح باب العدالة لعقاب المسيء، ويكف النفوس عن التوجه إلى الفساد.. فتنتظم الأمور على أساس الحق والعدل، والعدل أساس الملك، وأساس العمران، والله ولي التوفيق.

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/1034

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك