العلم والتفكير العلمي في عصر النهضة العربيّة

عبد الرزّاق عيد

إنّ بداية التفكير بأهمّية العلم والتّفكير العلميّ في العصر الحديث، لم يكن نتاجاً أو استمراراً لتقاليد الفكر العلميّ العربيّ، بل كان ثمرة التّحديّ الذي طرحه التوسّع الاستعماريّ الغربيّ من خلال حملة "نابليون"، حيث تتكرّر دائماً صيغة "فتح المصريّون عيونهم على التفوّق التقنيّ العسكريّ الذي هالهم"، وذلك في كلّ النّصوص التي تتناول تلك المرحلة. لقد وُضع العرب أمام مرآة عصرهم، فاكتشفوا درجة الفوات، درجة الخلل بين انتمائهم للمكان (حاضر العصر) وانتمائهم للزمان (الماضي)، فكان لا بدّ من الطموح والتطلّع إلى المطابقة بين عنصري وجودهم في (المكان والزّمان)، حيث تمثلت لهم هذه المطابقة في صورة (الغرب)، الذي هالهم بتفوّقه وتأخّرهم، فكان لا بدّ من امتلاك سرّ تقدّم وتفوّق أوروبا، الذي هزم تأخّرهم.

إنّ السّفير الأوّل لتدارك هذا الفوات هو "رفاعة الطهطاوي"، بوصفه "واعظاً في العساكر الجهاديّة"، حسب تقديمه لنفسه، حيث الرّحلة العلميّة الأولى إلى "عرائس الأقطار" باريس هي رحلة العلوم العسكريّة؛ ولمّا كانت باريس غير معروفة لبني قومه "خصوصاً وأنّه من أوّل الزّمان إلى الآن لم يظهر باللغة العربيّة، على حسب ظنّي، شيءٌ في تاريخ مدينة باريس، كرسي مملكة الفرنسيس، ولا في تعريف أحوالها وأحوال أهلها… "، فقد آلى على نفسه أنْ يُدوّن ما يُصادفه من الأمور الغربية، والأشياء العجيبة بمشورة بعض الأقارب والمحبّين، لا سيّما شيخه المتنوّر حسن العطّار.

والحافز الذي ينطق سفره "بحث ديار الإسلام عن العلوم البرّانيّة، والفنون والصنائع، فإنّ كمال ذلك ببلاد الإفرنج أمرٌ ثابتٌ شائعٌ، والحقّ أحقّ أنْ يُتّبع … لأنّه كان خلال مدّة إقامته بهذه البلاد في حسرةٍ على تمتّعها بذلك، وخلوّ ممالك الإسلام منه، لكنّه يشهد الله أنّه لن يحيد عن طريقٍ، ولا استحسن إلّا ما لم يُخالف الشريعة المحمّديّة"، ويختم خطبة كتابه بأنْ يكون الكتاب مقبولاً لدى صاحب السيادة، ولي النّعم، عظيم الشّيم "الحاج محمّد علي باشا"، وأنْ يوقظ به من الغفلة سائر أمم الإسلام، من عربٍ وعجمٍ. فما هي هذه العلوم البرّانيّة، والفنون والصنائع التي بلغت الكمال في بلاد الإفرنج، والتي هي واهيةٌ في مصر أو مفقودة كليّةً؟

هي قسمان: قسمٌ عامٌّ للتلامذة، وهو الحساب، والهندسة، والجغرافيا، والتاريخ والرّسم، وقسمٌ خاصٌّ متوزّعٌ عليهم، وهو عدّة علوم العلم الأوّل: علم تدبير الأمور الملكيّة، ويتشعّب منه عدّة فروع: الحقوق الثلاثة التي يعتبرها الإفرنج: الحقوق الطبيعيّة والحقوق البشريّة، والحقوق.

ويمضي في الباب الثاني من الكتاب الثاني من " تخليص الإبريز في تلخيص باريس "معدّداً هذه العلوم: علم تدبير العسكريّة، علم القبطانيّة والأمور البحريّة، من المياه، وهو صناعة القناطر والجسور والأرصفة، الميكانيكا، وهو آلات الهندسة وجرّ الأثقال، وهندسة العساكر، وفنّ الرّمي بالمدافع. فنّ سبك المعادن لصناعة الأسلحة والمدافع، علم الكيمياء وصناعة الورق، فنّ الطبّ وفروعه، فنّ التّشريح، والجراحة، وتدبير الصّحة. علم الفلاحة، علم تاريخ الطبيعيّات وفروعه: مرتبة النباتات، ومرتبة المعادن، صناعة النقاشة وفروعها: فنّ الطباعة، وفنّ الكتب العلميّة، فإنّه يحتاج إلى معرفة اصطلاحات أصول العلوم المراد ترجمتها؛ ليخلص إلى أنّ هذه العلوم المعروفة معرفة تامّة لهؤلاء الإفرنج ناقصة أو مجهولة بالكليّة عندنا، ومن جهل شيئاً فهو دون مَن أتقن ذلك الشّيء، وكلّما تكبّر الإنسان عن تعلّمه شيئاً مات بحسرته، ولهذا فهو يُثني على وليّ النّعمة "محمّد علي"، لإنقاذنا من ظلمات جهل هذه الأشياء الموجودة عند غيرنا.

 1.ليس هناك ما يُشير إلى أيّة صلةٍ بين ما يتطلّع له الطهطاوي في أوّل نصٍّ عربيٍّ يطمح إلى امتلاك العلم، وبين علوم العرب الأوائل؛ فديار الإسلام بحاجةٍ إلى "العلوم البرّانيّة"، التي بلغت كمالها في بلاد الإفرنج. فالرّجل لا يُعاظل ولا يُخاتل، لأنّ الحقّ أحقّ أنْ يُتّبع، وحقيقة أنّ هذه العلوم بلغت كمالها في الغرب أمرٌ ثابتٌ شائعٌ، ليس بحاجةٍ إلّا لبداهة الحسّ السليم، فنحن "نجهل الأشياء الموجودة عند غيرنا"، ويُعقّب على ذلك "وأظنّ أنّ من له ذوقٌ سليمٌ وطبعٌ مستقيمٌ يقول، كما أقول". أولها أنّ خطاب الرّجل لايزال مكبّلاً بموروث الأسلوبيّة العربيّة الإسلاميّة التقليديّة، التي ستتفكّك لاحقاً وتتحرّر من قيود سجعها، ومترادفاتها، وإحالاتها اللفظيّة وتجمّلها البلاغيّ والبيانيّ، مع نظام الخطاب الحديث الذي سيُدشّنه الإمام محمّد عبده.

وثانيهما أنّ نصّ الطهطاويّ كان يتحقّق في سياق مرجعيّةٍ تاريخيّةٍ سياسيّةٍ، استثنائيّةٍ في تاريخ توحّد العرب سياسيّاً، حيث صدرت الطبعة الأولى للكتاب عام 1834م، أي أنّه كتب في زمن كانت الدولة المصرية تشكّل مع الحجاز والسودان والشام دولةً واحدةً، وذلك ما يُعلنه نصّ الخطبة صراحةً، حيث يتوسّل "إلى الحضرة العلميّة، بالحضرة المحمّديّة، في نشر ألوية العزّ والعدل وكمال الجنّة والفضل، على سائر الأقطار المصريّة وجميع الأقاليم الحجازيّة والسودانيّة والشاميّة".

 2.الوعي بأهمّية العلم، في النّصّ، هو ثمرة الصّدمة بتفوّق الآخر، والصّدمة بالمعنى النّفسيّ تُشكّل المهماز للتّحدي في سبيل التقدّم، ولهذا فالنّصّ… لا يتلجلج بالاعتراف بالقصور وتفوّق الآخر، لأنّ الذّات القاصرة، بتحفيز الصّدمة، تريد تجاوز ذاتها، قصورها وعجزها، ولذا فهي تُنتج وعياً منفتحاً، طليقاً، مستبشراً، متفائلاً، باكتشافه سرّ تفوّق الآخر، الذي سُرعان ما يُمكن اللحاق به وتجاوزه، عبر امتلاكه، قبل أنْ تتحوّل الصّدمة هنا إلى رضّةٍ مرضيّةٍ، مع توالي الهزائم، لتُنتج خطاباً عُصابيّاً هذيانيّاً، يعتصم بالماضي من هول الحاضر، فيُشكّك في العقل، والتقدّم، والعلم باسم قيمٍ أخلاقيّةٍ قروسطيّةٍ، صوفيّةٍ مكوّرةٍ على ذاتها، وجهاديّةٍ خارجيّةٍ، تُعلن حرب الحضارات، وتتشبّث بالتأخّر والانحطاط بوصفه خصوصيّة ذاتيّتها الحضاريّة والثقافيّة، وتُشيد بالعطالة التاريخيّة للأمّة، لكي لا تُصبح هويّتها القروسطيّة في مهبّ الرّياح كما يدعو اليوم دعاة حداثة التأثّر، وشرعنة الفوات الحضاريّ.

في سياق النّهوض الذي يحفّزه التحديّ الحضاريّ، وليس حرب الحضارات، والدّعوة الى العزلة الصوفيّة، أنتج الإمام محمّد عبده فهماً خلّاقاً ومبدعاً للتصوّف، الذي غرق فيه في مطلع شبابه. لقد اكتشف المثقّف الفاعل، الماجد (بلغة الكواكبيّ)، والعضويّ (بلغة غرامشي)، أنّ الفناء بذات الله، لا يعني اعتزال العالم، بل الفناء بذات الله، هو الفناء في خلقه.

وهكذا ستتحوّل الصّوفيّة لدى الإمام وجيله النهضويّ، وتلاميذه، معبّراً عنها بلغة العقّاد، وهو يتحدّث عن عبده والأفغانيّ، فيعكس من خلالها مثله الأعلى الصوفيّ ذاته، يكتب: "وألزم خلائق الصوفيّ المطبوع يستخفّ بعظمة الدنيا، وأنْ تهون عليه رهبتها فلا يهابها، ولا يتهالك عليها، وأزهد من الصوفيّ، الذي لا يملك الدنيا، ذلك الصوفيّ الذي لا تملكه الدنيا، ولا يُداخله الوجل ممّن يملكونها"؛ أليست هذه القيم الصوفيّة، هي قيم العلماء بحقّ؟. وعلى هذا، فإنّ وظيفة النّصّ تنهض بوعي أنّ العرب بحاجةٍ إلى تأسيس علمٍ جديدٍ، حيث يكتشف النّص أنّ أوروبا هي صاحبة قانون الاكتشاف، وأنّه لا معنى للحديث عن العلم العربيّ إلّا للتنويه بأمجاد الذات القاصرة، التي لا تُريد تجاوز قصورها، أي بهدف "التمجّد" وليس "المجد"، وشتّان بينهما حسب تمييز الكواكبيّ، للماجد والمتمجّد.

 - ربّما قيل في هذا السياق، إنّ نصّ الطّهطاويّ، مكتوبٌ بروحٍ مصريّةٍ تستشعر كيانيّتها كأمّةٍ معزولةٍ عن المحيط العربيّ، وبالتالي عن التراث العلميّ العربيّ، لكنّ هذا القول تُبطله حقائق عدّة:

 - إنّ وقفةً تحليليّةً متأمّلةً لعناصر الخطبة (المقدّمة) وعناصر "الباب الثاني" المتعلّق بالعلوم والفنون المطلوبة، تُتيح لقارئ النّص أنْ يخلص إلى عدّة نتائج.

 3.المثقّف العالم، يحضر في عناصر النّص السّابقة، بوصفه "داعيةً يرشد إلى" وليس "قائداً لـ"، إنّه "واعظ الجهاديّة"، ولاحقاً "مفتي الأمّة" في صورة محمّد عبده. إنّه يومئ إلى المستقبل، دون أنْ يتمكّن من قيادة الحاضر لهذا المستقبل، حسب التوصيف الرهيف لـ "جاك بيرك" لدور المثقّف العربيّ، منذ عصر النّهضة إلى اليوم.

ولأنّه داعيةٌ "واعظٌ أو مفتٍ"، ولاحقاً "إيديولوجيّ أو تكنوقراطيّ"، فإنّه ظلّ أبداً ينوء بمسؤوليّة المصالحة مع السّلطة، سلطة السياسة وسلطة الرأي العامّ، ليمشي على صراطٍ أحدّ من السّيف، في إنتاج منظومةٍ تلفيقيّةٍ تتصالح مع سلطتي الدولة والرأي العامّ، وتصالح بين الدّين والعلم، والماضي والحاضر. ومهما بلغ زهده الصوفيّ في الدنيا، ومهما ارتقى في سلّم تطهر عالمه الداخليّ في الأزورار عن امتلاك الدنيا، وعدم مداخلته الوجل لمن يملكونها، فإنّه يجد نفسه ضحيّة وعيه السبّاق، فيطبق عليه الإرهاب، إرهاب السّلطة أو إرهاب العوام.

 4.الدّعوة إلى العلم والفكر العلميّ، والدّعوة الى طلبها في أوروبا، كانت تحثّ مشروع محمّد علي لتحديث "الجهاديّة" وتحديث الآلة العسكريّة؛ لكنّ هذا التّحديث الذي بدأ منذ قرنين لم يستند إلى الشّرعية العقلانيّة ومرجعيّتها التاريخيّة وجهازها المعرفيّ والمفاهيميّ، الذي كان قد أنجبها الغرب بوصفها تجليّاً لنسله المفاهيميّ، فرعاً في شجرته العقليّة والمعرفيّة، التي ينتظم في سلكها (بيكون – غاليليو – كبلر – كانط – هيغل – سبينوزا – ديدرو – هلفسيوس – فولتير — روسو – ماركس …. الخ).

ولعلّ هذا العامل، لا يُفسّر إخفاق الحلم النهضويّ في امتلاك ناصية العلم والتقنية والفكر العلميّ فحسب، بل يُفسّر الإخفاق التاريخيّ، الذي لا تزال الأمّة تترنّح في مهابطه حتّى اليوم، حيث تُواجه ثلاثيّة "العقلانيّة = العلم = الصناعة" بثلاثيّة "السلطة = السلاح = السلعة". هذه الاستنتاجات حول دعوة الطهطاويّ للعلم والفكر العلميّ، إن كان نموذجه "برّانيّاً" أوروبيّاً، أو كان الداعية له "فقيهاً، أو المحفّز له نزعة العسكرة، وتحديث آلتها، كثمرةٍ للصدمة الحضاريّة في زمن التوسّع الاستعماريّ؛ كلّ ذلك لا يُغيّر من واقع أنّ نصّ الطّهطاويّ يتفرّد بطموحٍ برنامجيٍّ، يحمل إمكانيّة التحقّق والإنجاز، بوصفه نصّاً يُحايث الطّموح الاستراتيجيّ لمحمّد علي في عصرنة الكيان المصريّ، الذي كان يتّسم بطابعٍ رأسماليٍّ ولو ضمنيٍّ، رغم ما اعتوره من ضعفٍ في الحنين البورجوازيّ والفهم التقليديّ للإيديولوجيا، قبل أن يُجهز عليها بضربةٍ من الخارج، من خلال العدوان العسكريّ الأوروبيّ، في العام 1840م؛ ولهذا سيعقب هذه المرحلة من التطلّع لبناء اقتصادٍ وطنيٍّ مستقلٍّ، مرحلةً "كومبرادوريّة" عمّقت انخراط مصر في النظام الرأسماليّ العالميّ، حيث ستتشكّل متوالية من الإخفاقات تعقب كلّ محاولةٍ بورجوازيّةٍ وطنيّةٍ كاملة التنمية، ضربة عسكريّة من الخارج، تتلوها مرحلةٌ "كومبرادوريّة"، يُسيطر فيها رأس المال الأجنبيّ على البُنيان الاقتصاديّ. ولنا عودة إلى ذلك في سياق التساؤل عن مآل التفكير العلميّ في الفكر العربيّ الحديث.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5092

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك