تأمُّلات في الخطاب الإسلاميّ المُعاصر
السيّد محمد حسين فضل الله
للخطاب الإسلاميّ في حركة الدّعوة إلى الإسلام، الدور الأساس في انفتاح الوجدان الإنسانيّ على الإسلام، من خلال انسجامه مع مستوى الذهنيّة العامّة في طريقتها في تكوين التصوّرات والانطباعات المتنوّعة، وإدراك القضايا العامة، وتحريك المشاعر والانفعالات، وتقديم المضمون الحيويّ الذي يلتقي مع الحاجات الإنسانيّة، والمنطق العام الذي يرتكز على العقل تارةً، وعلى العاطفة أخرى، وقد يدخل في تزاوج بينهما تبعاً للمفردات التي تختلف حركتها في النّفس، من خلال التأثيرات المضمونيّة في علاقتها بالحسّ والعقل والوجدان، وفي نوعيّة الأسلوب وصلته بالأجواء المهيمنة على الواقع والكلمات المتحرّكة في الخطاب... ثمّ حركة الرصد المستمرّ للمتغيّرات في الأحداث والأشخاص والعلاقات والمواقف والمواقع.
إنَّ ذلك هو الخطُّ العام الذي لا بدّ للخطاب الإسلاميّ من أنْ يتمثّل به، في حركة تجدّدٍ دائمٍ في الشّكل والمضمون والحركة والمنهج والصّوت والصّدى، لأنّ الإنسان الذي يتوجّه الخطاب إليه في عقله وقلبه ورغباته ومخاوفه، هو مخلوقٌ متحرّكٌ من موقع حركة الإرادة في ذاته، متغيّر تبعاً للمؤثّرات التي تترك آثارها المختلفة على كيانه، ما يجعله بعيداً عن الاستقرار الذاتيّ الذي يربطه باللون الواحد، والمضمون المحدّد، والشكل الخاصّ، والمنهج الثابت، وهذا هو الذي يفرض التوازن بين خصوصيّة الخطاب وخصوصيّة الإنسان.
الخطاب الإسلاميّ لا بدّ أنْ يكون في حركة تجدّدٍ دائمٍ في الشّكل والمضمون والحركة والمنهج والصوت والصدى. وربما كان هذا الخطُّ هو ما يقصده علماء البلاغة في تعريفهم للبلاغة في الكلام، أنّها "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، حيث يُريدون بذلك، أنّ الكلام البليغ الذي يصلُ بالمتكلّم إلى هدفه في اجتذاب الإنسان الآخر إلى مضمونه لتكوين قناعاته على ذلك الأساس، هو الكلام الذي يتوازن فيه المعنى والواقع، بحيث تتطابق الفكرة مع الحاجة، والأسلوب مع الذهنيّة، ولن يتحقّق ذلك له إلّا إذا كان يملك ثقافة اللّغة في خصوصيّاتها الإفراديّة والتركيبيّة، وأسرارها الدلاليّة والإيحائيّة والإيمائيّة، وأساليبها التعبيريّة، وكان يُحيط بالإضافة إلى ذلك بثقافة الواقع على مستوى الإنسان والظروف والأجواء والأوضاع وحركة التغيير لينطلق في خطابه، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، إلى عقل الإنسان وقلبه من أقرب طريق.
مشاكل الخطاب المُعاصر
وربّما نجد أنّ مشاكل الخطاب الإسلاميّ المُعاصر، تكمن في أنّ هناك اتّجاهين في تجربته الفعليّة يحكمان الطابع العام للحركة الإسلاميّة المُعاصرة:
الاتّجاه الأوّل: الخطّ التقليديّ الذي ينطلق من مفردات الاجتهادات التاريخيّة وأساليبها، من دون دراسة المتغيّرات الكبيرة التي تحكم الواقع في تطوّر قضاياه وحاجاته ووسائله وعلاقاته، سواء من ناحية طريقة الحكم وعنوانه وإدارته وتنظيمه، أو من ناحية الأوضاع السياسيّة التي تحيط به، أو من جانب التحديات الفكرية التي تترك تأثيراتها على المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أو من حيث واقع الاستكبار العالمي المتحالف أبداً مع الكفر العالميّ.
إننا نلاحظ أن اللغة التي يتحدّث بها هذا الاتجاه على صعيد المضمون والأسلوب، لا تتناسب مع مفردات اللغة المعاصرة، ونقصد باللغة - هنا - الذهنيّة التي تتحرّك بها وسائل التعبير ومفردات التفكير، لأنّ الذهنيّة المتنوّعة تُمثل حاجزاً عن التّفاهم تماماً كما هي اللّغة في طبيعتها، ولهذا انطلقت الرسالات في خطّ الأنبياء، لتدفعهم إلى أن يُخاطبوا النّاس بقدر عقولهم، كما جاء في الحديث المأثور عن النبيّ محمد(ص): «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم».
وقد نلاحظ في طريقة هذا الاتجاه، أنَّ بعض دعاته يخلطون بين فقه الدولة والفقه الفرديّ، فيُحاولون تغليب الفقه الخاصّ الذي يتحرّك من خلال جزئيّات القضايا، على الفقه العام الذي يضع الأمّة والمجتمع في حساباته، فيُخيّل إليك أنّ على الدولة أن تتجمَّد في دائرة الحالات الفرديّة، لأنّ هؤلاء لم يعيشوا _ في ثقافتهم _ تجربة الدولة، بل عاشوا تجربة الإنسان خارج نطاقها، فكانت اجتهاداتهم خاضعةً للظروف الجزئيّة، كما أنَّ ملاحظاتهم محكومة للتّجارب الخاصّة.
وهذا هو الذي أربك المسيرة الإسلاميّة التي اصطدمت في بعض نماذج قياداتها بهذا اللون من التفكير، ما جمّد حركتها، وأبعدها عن مواقع التحدّيات.
وربّما عاش بعض هؤلاء الاستغراق في الجانب الغيـبيّ المُطلق، بحيث تحوَّلت حركة الحياة لديهم إلى حالة غيبٍ، وذلك من خلال التأكيد أنّ "الإيمان بالغيب" يمثِّل قاعدةً مهمةً من قواعد الإيمان الإسلاميّ. ولذلك كانت الأجواء الغيبيّة هي الأجواء الغالبة لديهم في تفسير التاريخ والواقع، وفي تحريك الخطوات نحو المستقبل. ولكننا نُلاحظ، في هذا المجال، أنَّ الله _ سبحانه _ قد سنّ للحياة سنناً تحكم حركتها، وخطّط للإنسان، في حياته الفرديّة والمجتمعيّة، قوانين عامّة في طبيعة علاقته بالوجود من حوله، بحيث أراد للحياة والإنسان، أن يتحرّكا في دائرة السُنن الكونيّة المحدودة، من دون إغفال دور القدرة الإلهيّة في أنْ تتدخل في بعض الحالات، لتجمد قانوناً كونياً أو مجتمعياً لمصلحة قضيّة حيويّة تتّصل بالمسار الكونيّ والإنسانيّ، في دائرة الإعجاز أو نحوه.
الخطاب التقليديّ
وقد نُلاحظ _ في هذا الخطّ _ أنّ الذين ينطلقون فيه، قد يملكون عناوين سياسية كبيرة، تنفتح في شعاراتها على أجواء في مفرداته وحاجاته، وعلى اللغة المُعاصرة في طريقة التحرك، وقد يتحرَّكون في الخط الجهاديّ بالمستوى الذي يتقدّمون فيه كلَّ التيارات السياسيّة الموجودة في السّاحة، ما يُوحي بأنّهم قد يملكون الموقع القياديّ في المسألة السياسيّة.
ولكننا قد نجد _ إلى جانب ذلك _ ضياعاً في المسألة الفكريّة على مستوى تحديد الخطِّ والمنهج والمفردات بشكلٍ واضحٍ، على مستوى المشروع الإسلاميّ الثقافيّ، لفقدان الوحدة الفكريّة في هذا المجال، واستغراق الحركة في الجوّ السياسيّ والجهاديّ، ما يفرض على قادتها أن يواجهوا تحدّيات المستقبل، بالتخطيط الدقيق للخطاب الثقافيّ الذي يُمثّل قاعدة الخطاب السياسيّ، وينفتح بشموليّةٍ وامتدادٍ على المشروع الحضاريّ الإسلاميّ، الذي يكفل للمسلم المُعاصر الحصول على التصوّر الواضح للخطِّ الإسلاميّ الحركيّ في مواجهة الخطوط الأخرى.
مشكلة الخط التقليدي، أنّه يعاني حالةً من الضياع والتمزّق، لأنّه يُفكّر بطريقةٍ مغايرةٍ للطريقة التي يفكر فيها الإنسان المُعاصر. ولذلك فإنّ التجديد الذي أثاره بعض هؤلاء، كان تجديداً في الشّكل لا في الحركة الثقافيّة، ما جعل دخول الحركة الإسلاميّة التي تتبناه في الواقع المعاصر، مشكلةً تبحث عن حلّ، لأنّ خطابها لا يتناسب _ غالباً _ مع تكوين ذهنية الإنسان العامّة.
الاتجاه الثاني: الخطّ التوفيقي بين المضمون الإسلاميّ والمضمون العصريّ _ إذا صحَّ التعبير، وهو الذي ينتهجه المثقفون الإسلاميّون في انفتاحهم على الخطوط الثقافيّة المُعاصرة المتأثّرة بالتفكير الغربيّ، في اتّجاهاته المتنوّعة، في الدوائر السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، التي استطاعت التأثير في المجتمعات الإسلامية، بفعل السيطرة الاستعمارية على الواقع الإسلاميّ كلّه، ما جعل الكثيرين من المسلمين خاضعين لتأثيرات مفاهيمه وطريقته في الحياة ونظرته إلى الأمور، بحيث وجد الإسلاميون المُعاصرون، أنّ الطريقة الفضلى لاجتذاب هؤلاء المسلمين من جهةٍ، ولإقناع العالم الغربيّ بواقعيّة الإسلام، وانفتاحه على تطوّرات العصر، وقدرته على مواجهة المتغيّرات في حركة الحياة؛ من جهةٍ أخرى، هي في الانسجام مع العناوين الكبرى المطروحة في السّاحة المُعاصرة الغربيّة، كالديمقراطيّة، أو الاشتراكيّة، أو الاقتصاد الحرّ، أو قضايا الحريّات، وما إلى ذلك من العناوين التي تخضع لقواعد فكريّة تختلف مع القاعدة الفكريّة الإسلاميّة، لأنّهم لاحظوا إمكانيّة إخضاع بعض التّشريعات الإسلاميّة لها، أو التوفيق بينها وبين الإسلام...
مشاكل المنهج التوفيقيّ
وقد تكون المشكلة في خطاب هؤلاء، أنَّهم وقعوا تحت ضغط الواقع الصّعب الذي يمثِّله المنهج المُعاصر في تأثيره على الذهنيّة العامّة، ولا سيّما في المجتمع المسلم الخاضع للسيطرة الغربيّة بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، ما جعل استعارة العناوين التي تملك "الشعبية" الواسعة، حركةً في المناورة، وأسلوباً في المرونة، ووسيلةً من وسائل قبول الناس للحركة الإسلاميّة، أو للواقع الإسلاميّ الذي يمثلونه أو يتحرّكون فيه.... وربما ينطلق البعض من الغرب لاستقطاب الجهات العلمانية المثقفة، من خلال الطروحات العامّة التي تتجاوز الصفة الإسلاميّة في المسألة السياسيّة، أو تعارض طرح هذه الصفة من قبيل الحركة الإسلاميّة.
وربّما كان من الضروريّ التأكيد، أنّ الشخصيات الإسلامية التي قد تأخذ بالأساليب التوفيقيّة، تختلف في درجة انسجامها مع هذا الخط، سواء من حيث تأثر بعضها بالمضمون الغربيّ من خلال الاستغراق فيه، أو انفتاح البعض على الأسلوب من باب المرونة، أو تحرّك بعضهم من باب التقيّة السياسيّة، أو نحو ذلك ممّا يتّصل بالانفعال بالتيّار الفكريّ أو السياسيّ الضاغط في هذا الموقع أو ذاك.
إنَّ القضية التي نريد أنْ نُعالجها في هذه المداخلة السّريعة، هي أنّه من الضروري للحركات الإسلامية، أن تستند إلى مشروعٍ إسلاميٍّ شاملٍ ينطلق منه الخطاب الراهن، بحيث يملك القائمون عليه وضوح رؤية الواقع والأشياء، فلا تكون الحركة في حالةٍ طارئةٍ تحت تأثير ضغطٍ معيّنٍ لمواجهة عنوانٍ سياسيٍّ ضاغطٍ، ما قد يهيئ للتحرك ظروفاً ملائمة للحركة تقودها إلى الانتصار الذي يُحقّق لها النجاح الكبير قبل أن تستكمل مشروعها، أو تخطط للبرنامج الفكريّ والعمليّ الذي تتحرّك من خلاله، لأنّ مشكلة النجاح قبل تثبيت المشروع، وتأكيد المنهج، تجعل الخطاب ارتجاليّاً سريعاً، وانفعاليّاً ضعيفاً، وتؤدّي إلى حركةٍ ساذجةٍ تملك انتفاخ الشّكل وفقر المضمون.
واقع الخطاب الإسلاميّ وأفقه
والآن، ما هي سلبيَّات الخطاب الإسلاميّ؟ وما هي تطلّعاته؟
1.إنَّ الكثير من مفردات هذا الخطاب يُثير إشكالات الماضي في قضاياه ومشكلاته، ويعمل على تحريك نزاعاته وخلافاته، لإشغال الساحة بالأوضاع السلبية التي لا علاقة لها بالواقع من قريبٍ أو بعيدٍ، بل قد نجد أنّهم يخلقون لنا أكثر من مشكلةٍ أو فتنةٍ قد تعطِّل على الحركة الإسلاميّة خططها وبرامجها وتحالفاتها مع أكثر من حركةٍ إسلاميّةٍ أو أيّ مجتمعٍ إسلاميٍّ آخر.
2.إنَّ بعض الإسلاميين يُثيرون في خطابهم بين وقتٍ وآخر، قضايا هامشيّة أمام تحدّيات الكفر والاستكبار المتَّصلة بالقضايا المصيريّة الكبرى، ما يضعف من اندفاع التحدّي في ساحة الصراع، ليتضاءل ويضعف تحت تأثير القضايا الصغيرة، وبذلك تدخل الحركة في متاهات الجزئيّات التي تأكل الكليّات.
3.إنَّ العنف المسلَّح الذي تأخذ به بعض الحركات الإسلاميّة كوسيلةٍ وحيدةٍ للوصول إلى النتائج السياسيّة الحاسمة، قد يدفع بالحركة إلى التطوّرات السلبيّة لوسائل العنف، بحيث قد يدفعها الآخرون، من الأنظمة التي تقف ضد الإسلاميين من الداخل، أو من القوى الكبرى المستبدة في الخارج، إلى القيام بأعمال لا تتناسب مع الصورة الأخلاقيّة العامّة للمنهج الأخلاقيّ الإسلاميّ؛ ونُلاحظ ذلك في خطف الأبرياء أو قتل الأجانب، أو الاعتداء على المثقفين، ونحو ذلك من الأساليب التي قد تكون لها مبرراتها أمام الضغوط القاسية التي تطبق على الحركة الإسلاميّة، بحيث لا يكون لها مناص إلّا القيام بها للدفاع عن مواقعها وأشخاصها، ولكنَّ النتائج السلبية التي قد تترتَّب على ذلك، لا سيّما في دائرة الإعلام السلبيّ، ربّما تشوّه صورة الحركة الإسلاميّة، حتّى لدى النّاس الذي يتعاطفون معها.
إنَّنا نؤمن بأنَّ العنف الذي يقوم به الإسلاميون في أكثر من موقع، كان ردّ فعل على عنف الأنظمة المحليّة في البلاد الإسلاميّة التي خنقت الحريّات، ولم تسمح لمواطنيها بالتحرّك السياسيّ والإعلاميّ، أو ردّ فعلٍ على خطط القوى المستكبرة التي تحرّك أجهزتها الاستخباراتيّة لإرباك الواقع الإسلاميّ، ولكن هذه الجهات تعمل على إيقاع الإسلاميين في بعض الأخطاء الكبيرة في ممارساتهم السلبية، بحيث تعزلهم عن الرأي العام في الداخل، وتشوّه صورتهم في الخارج. لذلك، لا بد من دراسة حركة الفعل وردِّ الفعل في خطِّ المواجهة بين الحركة وأعدائها، بحيث تبتعد عن الوقوع في الأخطاء التي تفرض عليها، لتنطلق في خطّتها المرسومة من دون أخطاء ولا مشاكل.
4.إنّ "البعض" من الإسلاميين لا يزال يأخذ بأساليب الانفعال التي تتحرّك في عناوين غير مدروسة، في الوقت الذي تجاوزت المرحلة هذا اللون من الخطاب الانفعاليّ، لأنّ لكلّ مرحلة أسلوبها تبعاً لنوعية التحدّيات التي تمرّ بها، وهذا ممّا قد يُسيء إلى القضايا المصيرية المطروحة في وجدان الرأي العام، الذي يحتاج إلى أسلوبٍ جديدٍ يتميّز بالموضوعيّة والتعقّل والحسابات الدقيقة...
5.إنّ هناك قضايا جديدة لا بدّ للخطاب الإسلاميّ من أنْ يتحدّث عنها بقوّةٍ وإثارةٍ وتركيزٍ، كقضيّة الحريّات الإنسانيّة، وحقوق الإنسان والتنمية والنمو السكّانيّ والإرهاب والتّخلّف، وما يُسمّى بالنظام العالميّ الجديد، حتّى لا يضيع المسلمون في متاهات الطروحات والإثارة الإعلاميّة، والاهتزازات الواقعيّة المتحرّكة في هذه المفردات، ولنكون في موقع الفعل الذي يؤكّد مفاهيمه في القضايا، بدلاً من موقع ردّ الفعل الذي يمثِّل خط الدفاع أمام اتهامات الآخرين، فنكون صدىً لهم وللطريقة التي يُعالجون بها الأمور، فإنّ ذلك هو الذي يؤكِّد أصالتنا الفكريّة والواقعيّة.
6.إنَّ التحدّيات التي تواجه الإسلاميين _ والمسلمين جميعاً _ في قضايا الصهيونية والاستكبار العالميّ، والظلم الداخليّ، تتحرّك _ بأجمعها _ في الخط العسكريّ والأمنيّ والسياسيّ، الأمر الذي جعل هذا الجانب من الواقع الإسلاميّ في ساحة الصّراع، هو الشغل الشاغل للحركات الإسلامية، بحيث ابتعدت كثيراً عن الجانب الثقافيّ الذي يمثل التكوين الداخليّ الذاتيّ للحركة الإسلاميّة، كما يقدم صورة الإسلام المشرقة للعالم، ويحرّك الأفكار الإسلامية في مواجهة الأفكار الأخرى الّتي تعمل على إطلاق التحديات في وجه الإسلام.
إننا نعتقد أنَّ التوازن في الخطاب الإسلاميّ، بين ما هو عسكريّ وسياسيّ، وما هو فكريّ وثقافيّ، هو الذي يضع هذا الخطاب في إطاره الصحيح، ويُحقّق له الكثير من النتائج الإيجابيّة على صعيد الحاضر والمستقبل في ساحة الصّراع الفكريّ والسياسيّ والأمنيّ، لأنَّ التحرك الخارجيّ لا ينطلق بقوّةٍ إذا لم يكن البناء الداخليّ في الحركة الإسلاميّة والواقع الإسلاميّ قويّاً في مضمونه، منفتحاً في آفاقه، متوازناً في مواقعه وتطلّعاته وحاجاته وأهدافه، فلا يطغى جانب على جانب، ولا يقوى موقع على حساب إضعاف آخر، إلّا في حالات الضرورة.
الإسلام وتحدّيات العصر
إننا نواجه تحدّياتٍ كبرى في حجم العالم، لأننا نتعرّض _ كمسلمين وكإسلاميين _ لحربٍ عالميّةٍ ثقافيّةٍ وسياسيّةٍ وأمنيّةٍ واقتصاديّةٍ، فلا بدّ من أنْ ندرس مواقع التحدّي وأساليبه وأولويّاته وخلفيّاته ونتاجه، لنكون على بصيرةٍ من أمرنا، ووضوحٍ من أفكارنا، وثباتٍ في مواقعنا ومواقفنا، وانفتاحٍ متحرّكٍ على الآخرين، في حركة الحوار مع الشّعوب، واحترام أمنها، والعمل على التفريق بينها وبين حكومتها، فإننا إذا لم نستطع أن نتفادى عدوان الحكومات، وتبديل ذلك بعلاقات الصداقة القائمة على احترام حقوقنا في مقابل احترام حقوق الآخرين، فإنّ علينا أن نعمل على الوصول إلى علاقات صداقةٍ مع الشعوب، وربّما استطعنا من خلال ذلك أن نحقِّق اختراقاً إسلاميّاً في داخل تلك الدول، الأمر الذي قد يُحقق لنا الكثير من النتائج الجيّدة لمصلحة قضايانا. وفي ضوء ذلك، قد يكون من الحكمة ومن المصلحة، أن نمتنع عن الخطاب الإسلاميّ الذي يتضمّن التهديد العدوانيّ للشّعوب لمجرّد أنّ حكوماتها تضطهدنا، وعن القيام بعملٍ سلبيٍّ ضد بعض مواطنيها الأبرياء، لأنّ ذلك قد يُسيء _ بطريقةٍ وبأخرى _ إلى النّظرة إلى الإسلام الذي ننتمي إليه، ونتكلّم باسمه فضلاً عن مشكلةٍ شرعيّة في ما نقوم به.
إننا نعرف أنّ البعض من مجموعات هذه الشّعوب يُشارك حكوماته في العدوان علينا، وفي التخطيط المضادّ لمصالحنا، ولكنّنا نخشى أنّ بعض الممارسات السلبية في الخطاب والمُمارسة، قد يُساعد أجهزة الاستخبارات الدوليّة التابعة لهذه الدول ضد مصالحنا، سواء في الإعلام أو في الخطط العدوانيّة الموجّهة ضدنا. وليس معنى ذلك أن نقف مكتوفي الأيدي أمام الحرب المعلنة على الإسلاميين في العالم من خلال الاستكبار العالميّ والصهيونيّة العالميّة وحلفائهما، فقد تفرض علينا الضرورة الأمنية القيام ببعض الأعمال السلبية من أجل حماية مواقعنا وأهلنا ومجاهدينا، ليكون ذلك رادعاً للعدوان في حركة التوازن الواقعيّ، ولكن لا بدّ من أن تكون المسألة مدروسة بشكلٍ دقيقٍ جدّاً، يراقب الجزئيات حتّى على مستوى الفواصل والأرقام، لأنّ القضية ليست عرضاً لعضلات القوّة، ولكنّها قضيّة سلامة الإسلام والمسلمين العامّة، على مستوى الصّورة والحركة والواقع والإنسان.
وأخيراً، إنّ شخصيّة المسلم الأخلاقيّة، وروحيّته وانفتاحه على الله، ومحبّته للناس، هي القاعدة الأساس في عمق الخطاب الإسلاميّ الذي هو خلاصة الشخصيّة الإسلاميّة في وجود الإنسان المسلم، لأنّ المضمون الفكريّ أو الروحيّ أو السياسيّ، ينبغي أن ينطلق من إنسانٍ مثقَّفٍ بالإسلام، وروحانيٍّ في الوجدان، وسياسيٍّ في خطّ التوازن، حتى يكون الخطاب الإسلاميّ إنساناً ينفتح، ويكون الإنسان خطاباً يتجسّد.
إنّ شخصية المسلم الأخلاقية، وروحيته وانفتاحه على الله، ومحبته للناس، هي القاعدة الأساس في عمق الخطاب الإسلاميّ، وهذا هو الذي يحقِّق للحركة الاندماج بالإنسان والاتّحاد به، ويدفع بالإنسان إلى أن يكون تجسيداً حيّاً للإسلام، حتّى يرى الناس في الإنسان الإسلام الحركيّ، ويبصر في الإسلام كلّ مفاهيم الإنسان وتطلّعاته وتصوراته وحركته في الحياة.
وفي هذا الجو المتحرّك في أكثر من موقع، والمنفتح على أكثر من بعدٍ وأوسع من أفق، ينطلق الخطاب الإسلامي لينقد ذاته وإنسانه وحركته، ويقوم في عملية تجدّدٍ دائمٍ، في قلق المعرفة لكلّ أسلوبٍ جديدٍ، ومستقبلٍ كبيرٍ.