تربية النشء

جاء في حديث صحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.
رأينا بمناسبة افتتاح السنة الدراسية أنه من الخير نشر حديث يتعلق بتربية النشء، ذلكم النشء الذي سيكون منه الآباء وأمهات الغد، ذلك النشء الذي تعلق عليه الأمة الآمال الطويلة العريضة في الأخذ بيدها وإصلاح دينها ودنياها وانتشالها من كبوتها والسير بها قدما نحو استرجاعها على أريكة المجد والسؤدد.
لقد قرر الرسول الكريم في هذا الحديث الشريف أن تربية الصغار هي من السهولة بمكان اذ طل مولود قد خلقه الله على الفطرة النقية التي لا يشوبها أي كدر يحتاج في تنقيته وتطهيره إلى بذل مجهود ما. ومعنى هذا أن المواليد خلقوا على استعداد تام لقبول كل خير وقد رشحتهم الإرادة الربانية للسير على الصراط السوي، ما لم يصدهم عنها دعاة الزيغ والانحراف وأبالسة الوساوس والإرجاف، فما على الأبوين سوى شدة التيقظ في الحراسة والمحافظة على تلك الفطرة الطاهرة الزكية والإبقاء عليها حتى لا يتسرب إليها من طفيليات المساوي وما يكدر رونقها أو يعكر صفاءها أو يحول زلالها رنقا، وإعطائهم فرصة تمكنهم من الإيمان بدينهم وبقوميتهم وبسالف أمجادهم
إن مغربنا اليوم لفي أحوج الظروف إلى إعداد جيل الغد وتحويله رصيدا جيدا لبناء صرح المجتمع المغربي العظيم السالم من عوامل الانحلال، وطيد الأركان شامل البنيان، لقد كان من السهل على الأبوين –وقد ألقيت عليهما المسؤولية الأولى من الله ومن الأمة – أن يأخذا- لو شاءا- بيد هذه الأمة وينعشاها من أمراض الانحلال وأدواء التفسخ، وذلك بصرف طوق بها أعناق جميع الآباء وهم سيسألون عنها غدا أمام الملك الديان.
في أمكان الآباء والأمهات – لو شاءوا- أن يكونوا النشء تكوينا صالحا وأن يربوهم تربية يستضيئون بنورها في سلوكهم الفردي والجماعي ويعيشون بفضلها سعداء في هذه الدنيا وفي دار البقاء، ويسدون بذلك إلى أمتهم ومجتمعهم اليد البقاء، ويسدون بذلك إلى أمتهم ومجتمعهم اليد البيضاء، وذلك – لعمري- أفضل تركة يورثها الآباء لأولادهم، وأحسن مدخر يأوي إليه الأبناء بعد آبائهم وتسعد به البنات في بيوت أزواجهن، ويبنون مجتمعا سعيدا رافلا في حلل العز والسؤدد.
أيها الآباء والأمهات الشفقاء، أن من طبيعتكم أن تستخفوا حمل كل المشاق وتستسهلوا كل التضحيات في سبيل أولادكم ماديا ليس في مدة من حياتكم فحسب بل تبذلون نفس التضحية في سبيل جمع المال ليستديم رغد العيش لأولادكم ولو بعد موتكم، فلا تسنح لكم فرصة إلا اغتنمتموها ولا تواتيكم ولو بعد موتكم، فلا تسنح لكم فرصة ألا اغتنمتموها ولا تواتيكم بادرة إلا اهتبلتموها، وربما استهان البعض حتى بدينه في سبيل حشد الحطام وادخاره ولو شاء أحد التأكد من هذه الرغبة فسال أحدكم قائلا: علام هذا التعب الزائد، ولماذا تبذلون هذا الجهد الجاهد، فأن ما تذبلون من جرائه زهرة حياتكم وما تنفقون في سبيله نفائس أعماركم من تكديس المال واقتناء العقار فلربما كان ما تبقى من عمركم غير متسع للاستماع بما اكتسبتم فلن تترددوا في الجواب قائلين في صراحة: أن رغبتنا في اسعاد أولادنا بالمال ولو بعد مماتنا، لا تقل – أن لم ترب- عن الرغبة في اسعاد مماتنا، لا تقل –أن لم ترب- عن الرغبة في أسعاد أنفسنا نحن بما أستفدناه من الثروة.
أيها الآباء والأمهات الشفقاء، أرأيتم لو فرضنا أن فريقا من الآباء خلفوا لأولادهم القناطير المقنطرة من الأموال والكراع، وورثوهم كل شيء يعتقدون أنه من مرافق العيش وعوامل الترف ومهدوا لهم جميع السبل التي تنهال منها عليهم كل إضراب الماديات ووضعوا في أيديهم مفاتيح مراتع الشهوات وكانوا مع ذلك لا يقيمون وزنا لصالح أو فساد فطرهم، ولا يهمهم أن نشأوا نشأة صالحة أو طالحة ولا يبالون بما إذا تربوا على حب الأنانية والإثارة والتخلق بأخلاق الكبرياء ورذيلة العجب والرياء والنظر إلى الغير نظرة احتقار وازدراء، وهم مع ذلك دائبون في تلبية رغباتهم الحيوانية وإرضاء شهواتهم الشيطانية بفضل ما اكتسبه لهم آباؤهم من مال ويسروا لهم من السبل، ثم فرضنا أن بجانب هذا الفريق من الآباء فريقا آخر رأى أن السعادة على هذا الشكل – إنما هي سعادة مزيفة فهي ظل زائل ومتاع قليل بل هي طريق الشقاوة الدائمة، والنكد المؤبد، فليس من شفقة الآباء أن يغروا بها أولادهم، ويسدرجوا عليها أكبادهم، فأقتضى سديد نظرهم أن ينتجعوا لأولادهم السعادة الحقيقة المثلي، سعادة لا تعقبها شقاوة ولا يكدر صفوها ندامة، فسلكوا في تربية أبنائهم مسلكا حكيما وربوهم تربية صالحة ووجهوهم توجيها مستقيما وأبقوا على فطرهم النقية، وحافظوا على مقوماتهم الإنسانية وقد أحكموا الحراسة من أن تتسرب إليهم جراثيم الإفساد، ومكروبات تدنيس الطباع، ووقوه من تأثير قرناء السوء ورشحوه للمحافظة على أداء واجباته الدينية وأنشاوه على حسن السلوك مع أقاربه وجيرانه والناس أجمعين وزرعوا في قلبه بذور حب الخير وفعله لدينه ووطنه والتضحية لإنقاذهما والذود عنهما وزينوا في نفسه النفع لإخوانه وبني جلدته واحترام حقوق الغير وكرهوا إليه رذيلة الحسد والأنانية والإثارة والكبرياء والعجب وغمط حقوق الناس وسائر المساوئ.
أنظروا بعين البصيرة أيها الآباء أي الفريقين أحسن لأولادهم نفعا وأقرب رحما، أيها الآباء والأمهات لكم أن تعتقدوا أنه بحسب أولادكم أن يستفتحوا أبواب العيش المادي إذا حملوا شهادات علمية وكرعوا من مناهل الثقافة والعرفان وقد فتح في وجوههم أبواب الوظائف، وصاروا من ذوي المقدرة على تنمية المال واكتسابه بالأساليب التجارية والصناعية أو الفلاحية وأمسكوا بناصية المادة، ولكم أيها الآباء أن تعتقدوا أنهم سيكونون في بحبوحة من العيش المادي وأضرب من الترفه ولمعلميهم وأساتذتهم في المدارس أن يشاطروكم في أعتقادكم ذلك، غير أنه ليس لهم وليس لكم أن تعتقدوا أنه كان ذلك أيضا سد بينهم وبين التعاسة وأضرب الشقاء والعيش النكد، وأنهم ولجوا بابي حظيرة الهناء والسعادة إلى الأبد.
ولا نخال معلمي أولائك الأولاد وأساتذتهم فيما لقنوهم من المعلومات الجافة التي لا صلة بينها وبين ترقية النفس وتهذيبها وفيما ساعدوهم على حمل الشهادات الرسمية ولا نخالهم إلا كمن ساعدوا اللصوص على أساليب الاحتيال ومكنوهم من الأسلحة للسطو والاستيلاء على أموال الناس، إلا إذا زودوهم برصيد من التربية المثلى، ودربوهم على مكارم الأخلاق وساعدوهم في تنمية كيانهم المعنوي وعلموهم بسلوكهم أولا بأقوالهم ثانيا كيف يحافظون على واجباتهم الدينية وحموا فطرهم الطاهرة من التدنيس والتنجس بالأفكار الإلحادية ومن التوجيهات الاستعمارية تلكم التوجيهات التي لا تلو جهدا في صرف أولادنا عن قوميتهم ولغتهم وعن دينهم الذي هو منبت عزمهم وأكاليل مجدهم وطريق سؤددهم، تلكم التوجيهات الاستعمارية التي لا يريد لنا من ورائها الاستعمار إلا المخ حتى لا نفتر عن التسبيح بحمده ولا نعترف بمجد غير مجده ويسره أن نقذع كل صلة بشرف ماضينا ونجعل من أنفسنا –أن رضي- أذنابا له أو نشكل قطعا من حيوانات الغاب التي لا صلة بينها تربطها ولا علاقة تجمعها حتى يسهل عليه اصطيادنا بسهولة واطمئنان متى شاء وكيف أراد لا نقوى على رد عواديه ولا درء كيده اللهم تدراك الأمة المحمدية بعنايتك ولطفك.

 

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/1014

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك