البورصة بين الحلال والحرام
الحرام ما حرّم في القرآن والسنة الصحيحة بنصّ صريح. وهنالك من الحرام ما أدخله الفقه من خلال الاجتهاد، ولكن هذا قابل للخلاف من خلال الاجتهاد كذلك، ومن ثم سيظل هنالك من يعتبره حراماً فيحرّمه على من لا يعتبره حراماً ويدخله في المكروه أو في ترجيح تجنّبه.
كل ما عدا تحريم الربا والاحتكار والغش والغبن في عالم الاقتصاد لا يُعتبَر حراماً ويؤخذ بحلّه، ومن هنا جاء الاجتهاد في الآونة الأخيرة بعدم حرمة معاملات البورصة أو التعامل بها، وقد اعتُبِرت حلالاً باعتبار شراء الأسهم وبيعها يدخل في إطار حلال التجارة والاتجار سواء بسواء. الذين قالوا بعدم الحرمة انطلقوا من مبدئين: عدم تحريم ما لم يرد نصّ بتحريمه، كما لم يرد تحريمه باجتهاد سابق من قبل مجتهدي المذاهب. أما المبدأ الثاني فقد اعتمد على الصورة التي قدّمها الخبراء للعلماء بالنسبة إلى البورصة وتعاملاتها، وقد قدّموها باعتبارها تجارة بالأسهم بيعاً وشراء.
لنضع قضية تحريم أو التحليل جانباً من حيث المبدأ، وذلك بهدف البدء بتقديم قراءة دقيقة لمعاملات البورصة بما يتعدّى اعتبارها مجرد تجارة في الأسهم تماماً كالتجارة في السلع أو كشراء العقار والشركات وبيعها في المعاملات الاقتصادية العادية.
هذه الصورة تبسيطية وتضليلية لمعاملات البورصات، وإلاّ كيف نتجت كوارث مهولة في البورصات العالمية وقد طارت مدخرات ملايين وعشرات الملايين من صغار المتعاملين ومتوسطيهم في البورصات، كما يعرف الجميع.
وبهذا، بين ليلة وضحاها، تُنهب أموال الملايين وعشرات الملايين من البشر أو مدخراتهم في شركات التأمين والاستثمار، لتزيد ثروات كبار المضاربين في هذه اللعبة القذرة.
لقد أصبح شراء الأسهم وبيعها في عالم البورصات لعبة قائمة بذاتها بعيداً عن أصولها على أرض الواقع، أو تزويراً لموازنات تلك الأصول بهدف رفع أسعارها في البورصة ثم التلاعب بها، ولعل المثل الأبرز ما فعلته شركة أندرسون العالمية للمحاسبة في التلاعب بموازنات الشركات.
كيف يمكن أن يُقبل أن يأتي كبار المضاربين في البورصات ليشتروا الأسهم، وإيجاد مناخ نفسي بأنّ الأسهم المعنية سترتفع أسعارها فينجذب عشرات الآلاف من أصحاب المدخرات المتوسطة ليتبعوا خطواتهم في شراء تلك الأسهم، مما يؤدي إلى ارتفاعها بسبب قانون العرض والطلب في عالم البورصة، ثم تأتي لحظة بيعها من قبل أولئك الكبار وهي في أوج مُعيّن، وإذا بها بعد ذلك تهوي إلى حضيض لتذهب بملايين المساهمين إلى عالم الإفلاس، هنا تخرب البيوت بأشدّ مما يحصل في الحروب أو الكوارث الطبيعية.
كيف يُقبل هذا من ناحية العدالة والاستقامة ومصالح الناس في التعاملات الاقتصادية، حيث لا يجوز الغش والغبن والاحتكار والخداع، أو الابتعاد عن الاقتصاد الحقيقي للأصول التي تمثّلها الأسهم في البورصات.
انظروا على أرض الواقع ما حدث خلال العقدين الماضيين في عالم البورصات التي أطلقت العولمة لها الحرية في معاملاتها بلا قيد ولا رقيب، وأطلقت تزييف موازنات الشركات الكبرى بهدف رفع أسهمها في البورصة، بلا تناسب مع واقعها الفعلي. وذلك بقصد حصد ثروات المدخرين الصغار والمتوسطين أو المستثمرين العرب الأغنياء الذين فقدوا عشرات أو مئات البلايين في البورصات.
الأرقام تقول أنّ في الولايات المتحدة وحدها فقط، على الأقل، نصف الأميركيين خسروا مدخراتهم مع انهيار البورصات في ظل عولمة صاعدة إلى قمة مجدها في تسعينيات القرن الماضي، ليتكرر في أوائل العشرية الأولى وأواخرها من القرن الحالي.
الموقف هنا لا يحتاج إلى أن يطرح على مبدأيْ التحريم والتحليل، وإنّما يجب أن يطرح على المستوى الاقتصادي الصرف، فتحدّد الأضرار والسلبيات والمضار العامة في معاملة البورصة ويُرى ما تحمله أو ما يمارس من الغش والغبن والاحتكار والمقامرة من قبل كبار المتلاعبين في عالم البورصات، وحيث تنهب مدخرات الملايين وعشرات الملايين وتنتفخ، بما يشبه عملية النصب والاحتيال، جيوب حيتان المال الأجانب والمحليين.
أما البورصات في وضعها الحالي ولا سيما ما وصلت إليه في عصر العولمة والاقتصاد الليبرالي سواء أكان في المستوى العالمي أم في البلدان التابعة اقتصادياً، فضررها أكبر من نفعها، وكوارثها دونها كوارث الحروب أو الطبيعة، فلا يجوز أن تلخّص بعدم حرمتها استناداً إلى عدم وجود نص أو تشبيهها بالتجارة التقليدية في السوق.
المصدر: نقلاً عن (السبيل) الأردنية.