التطرّف العلمانيّ مقابل التيّارت الفكريّة

مصطفى الجابري

 

 

حريّة العقل نعمة من نعم الله عزّ وجل على البشر في هذه الحياة، تُمكّنه من محاكمة الأفكار والرؤى والثقافات المختلفة وفق موازين، ومعايير إنسانيّة عامّة تتّفق عليها كلّ العقول البشريّـة من مختلف المنطلقات كالحقّ والعـدل والحريّة والمساواة ... إلخ. وبموجب هذه الحرية التي ليس لأحدٍ أو لجهةٍ أو تيّارٍ أو لونٍ فكريٍّ معيّنٍ الفضل في منحها للبشر، بل هي هبة الله الرؤوف الرّحيم لهم في أصل الخلق والتكوين. وبموجبها أيضـاً تكمل الحجة على الإنسان في اختياره وتوجّهـه الفكريّ والسّلوكيّ في هذه الحيـاة التي تحدّد مصيره الأبديّ من السّعادة أو الشّقاء الأخرويّ. إلّا أنّ الطبيعة البشريّة في بعض خواصّها النفسيّة تحاول إلغاء أو تقييد أو الحدّ من هذه الحريّة في بعض المجالات، ومن ثمّ تتفضّل بمنحها في مجالاتٍ أخرى، وعلى أسسٍ انتقائيّة تنطلق من نظرةٍ مصلحيّةٍ ضيّقةٍ.

 

والعلمانية هي إحدى أبرز الألوان الفكريّة المعاصرة التي تبتني على هذه الاستراتيجيّة التي تُخالف أصل الفطرة الإنسانيّة التي فطر الله البشر عليها. فهي تُصادر حريّة العقل البشريّ في فرض قناعاتها وحدودها الفكرية والسلوكية على البشر من باب عدم اقتناعها بالألوان الفكرية الأخرى، فتقمع حريّة العقل البشريّ في اختيار الرؤى والأفكار في أغلب مجالات الحياة الإنسانيّة، بينما نراها تتشدّق بامتنانٍ على البشر في إمكانيّة الاختيار في مجالاتٍ محدودةٍ وضيّقة. فالعلمانيّة تفرض فكرها السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، بل وحتى التربوي والسلوكي، بحجّة عدم امتلاك الألوان الفكريّة الأخرى لنظم ورؤى في هذه المجالات أو بالحدّ الأقصى عدم صلاحية ما تملكه في تلك المجالات لحلّ المشكلات الحياتيّة العامّة. وتتفاخر بأنّها قد أعطت البشر حريّة اختيار الدّين والعقيدة وممارسة الطقوس والشّعائر بعد أنْ اتّهمت غيرها بالتطرّف في هذه المجالات وقمع الحريّة للعقل البشريّ في اختياره. وهي تدعم رؤيتها هذه بتجربةٍ عمليّةٍ خاصّة تحاول إظهار نجاحها بأقصى درجاته، لإثبات صحّة ما تطلقه من دعوات ومزاعم متطرّفة، وصلاحية استنساخ هذه التجربة المزعومة النّجاح في باقي المجتمعات وبالخصوص في المجتمعات العربية والإسلاميّة. وقوام هذه التّجربة في العالم الغربيّ على أمرين تُحاول العلمانيّة إيرادهما كدليل على أحقّيتها ونجاحها من جهةٍ ولابدّيّة الأخذ بالعلمانيّة كنظامٍ وأيدلوجيّة لمجتمعاتنا من جهةٍ ثانيةٍ. الأمر الأول هو (فصل الدين عن الدولة) منطلقة من التمثيل لهذا الأمر بما تعرض له المجتمع الغربيّ من الظلم والإضطهاد على يد الكنيسة وما يتعرض له المجتمع العربي والإسلامي من ظلم واضطهاد من قبل الأنظمة الديكتاتورية المستبدة والمتسلطة على هذه المجتمعات. وبها ان العلمانية هي التي تؤمن للمجتمع التخلّص من هذا الظلم والإضطهاد، وقد فعلت ذلك في المجتمع الغربي؛ إذن فلا بدّ للمجتعات العربيّة والإسلاميّة من اعتماد هذا المبدأ للتخلص من الديكتاتوريّة والاستبداد؛ وهي بهذا المبدأ تحاول القول إنّ الدين هو منشأ الديكتاتورية والظلم في المجتمعات البشريّة، فيما العلمانيّة هي منشأ الحرية والعدالة في المجتمعات البشرية. ولكننا إذا نظرنا من خلال هذا القول إلى الواقع نجده معكوساً تماماً، فالظلم والاستبداد الذي مارسته الكنيسة في المجتمعات الغربيّة هو ظلمٌ بشريٌّ وليس ديناً، لأنّه قائمٌ على أسسٍ وقوانين وضعيّة من وجهة نظرنا الإسلاميّة، بعد أنْ ثبت عدم وجود نظام تشريعيٍّ في الدين المسيحيّ للجوانب السياسيّة والاقتصاديّة التي كان يُعاني منها المجتمع الغربيّ، وكان محلّ امتعاض واستهجان العلمانيّة في تسلط رجال الكنيسة والكهنوت، بينما ما تتعرّض له المجتمعات العربيّة والإسلاميّة من الظلم والاضطهاد ـ جلّه إنْ لم نقل كلّه ـ ناشيء من أنظمة دكتاتوريّة واستبداديّة تتّخذ من العلمانيّة كنظامٍ وإيديولوجيا لها.

وأما الأمر الثاني: والذي تبرزه العلمانيّة في تجربتها الغربية كشاهدٍ عمليٍّ على نجاحها هو التقدّم التكنولوجيّ الذي تحظى به هذه المجتمعات والتطور العمرانيّ والمدنيّ الذي وصلت إليه. وهو قد يُلاحظ على أنّه نتيجة وثمرةً للأمر الأوّل ومترتب عليه، حيث إنّ مبدأ فصل الدّين عن الدولة يُحدّد للدين ميدان عمله وتأثيره في الجوانب المعنويّة والأخلاقيّة، ويحظر عليه التدخل في الجوانب الأخرى التي يطلق العنان للتيّارات الماديّة والوضعيّة للعمل فيها. وكأن النتيجة التي تريد العلمانيّة الوصول إليها من إبراز هذا الشاهد أن الفكر الديني عند تسلطه على هذه الميادين يحدّ ويعرقل التقدّم والتطوّر فيها؛ ولهذا نرى أنّ المجتمعات الغربية نمت وتطوّرت في هذه المجالات بعد اعتماد العلمانية، بينما أبقى الدين المجتمعات العربية والإسلامية في المراتب المتدنية من التطوّر التكنولوجيّ وحياة البداوة والتخلّف المدنيّ. وهذه النتيجة يمكن استشفاف خطأها من جواب الأمر الأوّل حيث إنّ التخلف والتأخر التكنولوجي والمدني الذي تعيشه المجتمعات العربية والإسلاميّة نشأ خلال رزوحها تحت تسلط واستبداد الأنظمة العلمانية. إلّا أنّ إثبات عكسها يتمّ بإبراز شواهد التاريخ الإسلاميّ والعربيّ الذي يحكي لنا مدى التطوّر والتقدّم الذي حقّقه المجتمع العربي والإسلاميّ في ظلّ الدول الإسلاميّة في مجالات النّظم الإدارية والتطور العمرانيّ والمدني بل والتقدم التكنولوجي بما يناسب معارف ذلك العصر في المجالات كافة والشواهد كثيرة. ناهيك عن الشواهد المعاصرة في وقتنا الحاضر على ما يمكن أن تحققه مجتمعاتنا من التطور والتقدم في هذه المجالات في ظل الفكر الإسلامي، بعد التخلّص من الهيمنة والاستبداد الغربي، الذي يُحاول عرقلت جهودها لتحقيق ذلك؛ إمّا عن طريق إيجاد توازنات في المصالح المشتركة بينها وبين الغرب، كما في المملكة العربيّة السعوديّة، أو من خلال التمرّد على هذه الحقيقة الغربيّة ومواجهتها بثباتٍ وحزمٍ...

إذن، فإنّ إبراز مثل هذه الشواهد كدليل على نجاح العلمانية في العالم الغربيّ وإمكان نجاحها في العالم العربي والإسلاميّ هو محض توّهم ومحاولة ظاهرة للإلتفاف على ذهنيّة المواطن العربيّ والمسلم، لاقناعه بما يُخالف الواقع والتاريخ. وذلك يُعطينا نتائج مغايره لما يُعلنه أصحاب هذا اللون الفكريّ من الغربيين والعرب والمسلمين من أنّ الغاية من تطبيق العلمانيّة في مجتمعاتنا هي تحقيق التقدّم والرّفاه للمجتمع ورفع الظلم والاضطهاد عنه. وإنّ غاية ما يُمكن أن يعتبر دافعاً ومسوغاً لهذه الدعوات هو نطريّة إيديولوجيّة متطرّفة تُحاول أنْ ترسم صورة للواقع على ما يضمن لها التفوّق والانتصار على الألوان الفكريّة الأخرى، بعد أنْ تركت الموضوعيّة والوقائع التاريخيّة والشّواهد المعاصرة في تكوين تصوّراتها ورؤيتها للعالم والكون.

المصدر: مركز آل البيت العالمي للمعلومات.

الأكثر مشاركة في الفيس بوك