المواطنة والأقليات
إيمان شمس الدين
طالما تردد مصطلح الأقليات في الآونة الأخيرة، وأعتقده مصطلحا طارئا على ثقافتنا، بل يحمل في دواخله بذور الأزمة والفتن دوما، فالثقافة الاسلامية التي تتماهى مع فطرة الإنسان لا تعرف أقليات وأكثريات، بل تعرف مواطنا له حقوق وعليه واجبات، ولا يختلف واحد عن مثيله إلا بالكفاءة أو ما وصفه القرآن بالتقوى.
والتقوى هنا ليست مصطلحا خاصا بالمؤمنين، بل هو ينساق على الجميع، فمن يلتزم القوانين ويبتعد عن المخالفات يعتبر من المتقين في حق وطنه، وهكذا أي أن للتقوى مصاديق كثيرة.
لذلك يعتبر مصطلح الأقليات طارئا وليس أصيلا، بل هو تمييز واضح بين الناس على أساس عرقي أو مذهبي أو ما شابه.
أما الأصل الذي يفترض أن نتبناه كواقع وحقيقة فهو المواطنة، التي يعيش في ظلها جميع الناس وفق أسس ومعايير الحق والواجب، حتى لو لم يكونوا من حملة جنسية البلد الذي يقطنون فيه، لأن المعيار هو الحق والواجب والالتزام بآداب وقوانين الدولة التي يحيا في ظلها الجميع.
فالشيعة ليسوا أقلية في بلد أكثريته سنية، بل هم مواطنون تحكمهم هذه المعايير، والسنة ليسوا أقلية في بلد أكثريته شيعية، والمسيحيون كذلك وهكذا، فالأصل ليس للمذهب ولا للعرق ولا لأي شيء يكون سببا في التفرقة بين الناس، إنما الأصل في التمييز هو الكفاءة والالتزام بالحق والواجب، وعند الله بالتقوى، وهي لا يعلمها إلا هو، وأما التقوى التي تخص المواطنة، فهي ما يحدده مدى التزام المواطن بواجباته، وأدائه لها بكفاءة، ومدى حرصه على قيام دولة القانون والمؤسسات.
إن الترويج لثقافة الأقليات هو بمنزلة من يحب أن تشيع الفاحشة بيننا، لأنها ثقافة لا تحمل إلا الفتنة، والفتنة أشد من القتل. وما يفترض أن نتبناه وفق ثقافتنا الاسلامية هو مبدأ المواطنة الصالحة في نظام الدولة، ومبدأ التقوى في نظام الله، وهو ما سينعكس تلقائيا على سلوك الأفراد ويرسخ التعايش السلمي في المجتمع، مهما تمايزت عروقه ومشاربه الفكرية ومذاهبه.
فترسيخ ثقافة المواطنة هو الذي يحفظ سلامة المجتمع وتعايشه، وهو دور السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ولكن هل فعلا تؤدي السلطات هذه المهمة، أم أنها تلعب على التمايزات بكل أشكالها؟
الأكثرية والتحول السياسي للأقليات
في الديموقراطيات الغربية تطرح فكرة الأقليات على بساط البحث في الممارسات السياسية، وكيفية توصيفها من حيثية الحقوق والواجبات، وحقها في التمثيل البرلماني، وهو ما يدمجها في النسيج الاجتماعي لتكون جزءاً من وطن، وفاعلة في بناء الدولة.
لكن للأقليات منشأ بيئياً وحيثيات ثقافية وما نريد تناوله هو كيفية استغلال موضوع الأقليات سياسياً في التغيير الديموغرافي، من أجل توجيه الديموقراطيات باتجاه تكريس سلطة الاستبداد، وهو ما يجرمه القانون الدولي.
فهناك أقليات كانت تاريخياً أكثرية، إلا أنها تخالف في إجماعها سياسياً السلطة القائمة، وهو ما دفع بهذه السلطات إلى اللجوء إلى أساليب عدة، أعنفها كان الإبادة الجماعية، لتحويل هذه الأكثرية العددية إلى أقلية وكبح جماحها السياسي، وهناك أساليب أخرى. وفي وقتنا الحالي، وفي ظل قيام الدول الحديثة وترسيم حدودها الجغرافية وتخصيص هوية وطنية لكل دولة يحملها أبناؤها المنتمون إليها، أصبحت وسيلة التجنيس السياسي للتغيير الديموغرافي لتحويل الأكثريات المخالفة سياسياً لسلطة الدولة إلى أقليات، هي السمة الغالبة لتوجيه الديموقراطية القائمة باتجاه تكريس سلطة هذه الأنظمة وهي، واقعاً، ما يجرمه القانون الدولي.
ورغم أن الغرب وأميركا يمنحان الجنسية وفق معايير محددة تقوم جلها على الكفاءة وحسن السير والسلوك، فإن التجنيس في بعض هذه الدول يقوم على أساس مذهبي أو عرقي أو غيره، ولا يأخذ في الحسبان مسألة الكفاءة وحسن السير والسلوك، وهو ما يدلل على أن همّ هذه الأنظمة شراء الأكثرية العددية التي تكرس سلطتها، وليس همها التنمية وبناء دولة قانون ومؤسسات ونهوض ديموقراطية فعلية، بل هي تمارس ديموقراطية تصنع نتائجها مسبقا من خلال تشكيل شعب يتناسب والمقاس الذي يبقيها في السلطة.
لكن انعكاس هذا التجنيس السياسي القائم وفق هذه المعايير سيكون سيئا على تركيبة المجتمع الثقافية والمعرفية، وهو ما سيسبب خللا واضحا في مخرجات هذه الدولة، بل قد يشكل في بعض الدول تهديدا للاستقرار الأمني والمجتمعي، ويتفاعل بطريقة معاكسة تقوض بنيان هذا النظام على المدى البعيد.
هكذا ولد فكرياً
لكل مفهوم أو مصطلح ظروف ولادة ينشأ فيها ويترعرع، ويكون له مبناه وانعكاسه في عالم السياسة والمجتمع وعوالم أخرى.
والأقليات كذلك، إذ انه كمفهوم سياسي له بيئة ومحيط ومجموعة أحداث تمخض عنها وتم بناؤه في ظلها ليحل أزمة سياسية في تلك الحقبة.
وأهمية معرفة منشأ المفهوم من الناحية الفكرية تكمن في أنها تعطينا الأبعاد والأهداف التي وضع المفهوم لأجلها، والحاضنة الفلسفية التي ترعرع في حضنها كي نستوعب مقاصده وانعكاساته، ومدى ملاءمته لبيئتنا السياسية. فإعلان الأمم المتحدة حول حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية (أو عرقية) ودينية ولغوية، أكد على أهمية الحفاظ على حقوق الأقليات ومساواتهم في الحقوق مع الأغلبية. وهناك تعريف للأقليات يقول: الأقلية هي جماعة من مواطني الدولة تشكل أقلية عددية لا تحظى بصفة السيطرة أو الغلبة في الدولة، ويتميزون عن بقية أعضاء المجتمع عرقياً أو لغوياً أو دينياً، وهم يميلون إلى التضامن معاً، ويحرصون، وقد يكون هذا الحرص كامناً، على البقاء، ويهدفون إلى تحقيق المساواة مع الأغلبية واقعاً وقانوناً.
وللأقليات ظروف جدلية نشأ المصطلح فيها، حيث تذكر لنا دراسة لجاد الكريم الجداعي أن جذور هذه المسألة قديمة في تاريخنا، ترجع إلى ما قبل الفتوحات الإسلامية. فالإسلام الذي تقوم رؤيته على ثلاثة أركان مهمة هي: التوحيد أو الوحدة والتعدد والكونية، أبقى على الديانات والمذاهب التوحيدية، وجعل أتباعها في ذمة المسلمين. وأنتج الانشقاق الإسلامي.. مذاهب إسلامية تعمقت الفروق فيما بينها حتى طالت بعض مسائل العقيدة ذاتها. ودخلت في الإسلام أقوام شتى تعرّب بعضها واحتفظ بعضها الآخر بهويته الإثنية أو اللغوية الثقافية. وضمت الدولة الإسلامية مللاً ونحلاً وديانات ومذاهب وقوميات شتى دخلت جميعها، كلياً أو جزئياً، في النسيج الاجتماعي السياسي والثقافي العربي الإسلامي. وتؤكد آليات تشظي الدولة الإسلامية على أساس أقوامي حيناً ومذهبي حيناً آخر، أو عليهما معاً في معظم الأحيان، على عمق هذه المسألة في بنيتها. ومع سيطرة العثمانيين على مقاليد «الخلافة الإسلامية» أقاموا نظاماً مللياً قوامه المركزية العسكرية واللامركزية الإدارية انطلقت منه عملية تسييس مسألة الأقليات التي أخذت تتعمق طرداً مع تعمق الاختراق الرأسمالي ونشوء نظام «الامتيازات» ونظام «حماية الأقليات»، وصولاً إلى الاستعمار الكولونيالي وسياسته القائمة على مبدأ:«فرّق تسد». ولكن البنى القابلة للتفريق هي وحدها التي يمكن تفريقها.
ولكن كيف تم استغلال «الأقليات» وفي أي بيئة أُقرت حقوقها؟
تسييس «حقوق الأقليات»
في دراسة لباحث الجباعي حول مسألة الأقليات، يذكر أن أغلب الباحثين الغربيين والعرب يرجعون ازدياد الاهتمام بظاهرة الأقليات إلى مطلع القرن التاسع عشر، حينما تضمنت اتفاقيات فيينا (1814 ــــ 1815) نصوصا تدعو إلى الحرية الدينية والمساواة السياسية. ثم تطور ذلك الاهتمام الى تكثيف نشاط الحركة اليهودية، في الربع الأول من القرن العشرين، لحماية الأقليات عامة واليهودية منها خاصة، ومنحها المساواة في الحقوق المدنية والسياسية في الدول التي كانت تنكر عليها هذه الحقوق. وتزايد هذا الاهتمام بمناداة الحركة الاشتراكية العالمية بحق تقرير المصير عام 1918.
وبعد ذلك أشارت اتفاقيات مؤتمر السلام في فرساي (1919 ــــ 1920)، في إطار عصبة الأمم، إلى الحقوق الثقافية والقومية للأقليات. ثم وضعت الأمم المتحدة إعلان حقوق الإنسان (1948/12/10) الذي منع التمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون أو الاتجاه السياسي، وصولا إلى إعلان الأمم المتحدة الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية الصادر في 1999/12/10.
والعودة إلى هذه المعاهدات والمواثيق، تؤكد أن مسألة الأقليات كانت مندرجة دوما في النزاعات المحلية والإقليمية والدولية. سواء في محاولات إذكاء هذه النزاعات أو في محاولات إخمادها. وفي معاهدة سايكس بيكو تم تقسيم المنطقة العربية ورسم حدود جغرافية قلقة لها، تستطيع من خلالها دول الاستعمار استغلال مسألة الأقليات والتركيز على جانب الاختلاف لا التماثل، من أجل إذكاء الصراعات، سواء الداخلية أو الخارجية، مما يسمح لها بالتدخل تحت عنوان حماية حقوق الأقليات لتتمكن من تحقيق أهدافها ومصالحها.
وفي ظل هذه البيئة المأزومة رسمت معالم حقوق الأقليات ضمن ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما يرسخ فكرة تكريس الفرقة، وليس تأصيل الوحدة في المجتمع الواحد، من خلال إبراز معالم الاختلاف بين أطيافه المختلفة رغم ما يستبطنه الاختلاف من تماثل في الذات الإنسانية، وما يلازمه من مبدأ المساواة بين الجميع باختلاف أطيافهم في الحقوق والواجبات. فلا يمكننا أن ننكر أن الأسرة الواحدة يتمايز أفرادها بعضهم عن بعض، لأن اختلاف البشر طبيعة تكوينية لا يمكن نكرانها، إلا أن هذا الاختلاف يوازيه تماثل مبني على أساس وحدة النوع الإنساني. ولكن مسألة الأقليات كي يتم تسييسها واستغلالها في تكريس النظام الرأسمالي من خلال بسط النفوذ والهيمنة الفكرية قبل العسكرية، لابد فيها من إبراز معالم الاختلاف وتثويرها وإذكاء نارها كي تحول محيطها إلى هشيم، لتقدم بذلك كل الذرائع لتدخل الخارج لحماية أقليات الداخل بحجة الحفاظ على حقوقها.
ولكن هل يعني ذلك إنكار هذه الحقوق وعدم الاعتراف بها، أم كيف يمكننا التعاطي مع هذه المسألة بتوازن؟
المواطنة الحل الأمثل
الأقليات من الموضوعات النسبية التي يعتمد تحديدها على جغرافية كل أقلية، بمعنى أنه قد تعتبر جماعة أقلية في حدود جغرافية معينة، إلا أن هذه الجماعة نفسها هي أكثرية في دولة أخرى. وهو ما يشير إلى حتمية الاختلاف بين بني البشر التي تستبطن حتمية التماثل، فلا اختلاف مطلق، ولا تماثل مطلق، وهو ما يترتب عليه بناء منظومة حقوقية تحفظ حقوق الجميع نتيجة التمايزات بينهم، وأهم مبدأ يقوم بذلك هو المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات في دولة القانون والمؤسسات، هذه المساواة تقوم على أساس التماثل بين البشر في الذات الإنسانية، وضرورة حفظ الكرامة الإنسانية، وما يترتب على هذا الحفظ من مجموعة حقوق تشكل سوراً لهذه الكرامة يحميها من الانتهاكات، وإن اختلفوا دينياً أو مذهبياً أو فكرياً أو غير ذلك.
والملاحظ في ظل النظام الرأسمالي العالمي أن التركيز دوماً على الاختلاف وإبرازه كحالة خلافية دافعة للتنازع، حيث يتم إذكاء الفتنة وفقاً لديموغرافية كل دولة على حدة، ففي مصر على سبيل المثال، التمايز قائم على أساس طائفي غالباً بين المسلمين والمسيحيين، وفي الخليج بين السنة والشيعة، وفي المنطقة بين العرب والفرس، وهكذا يتم اختيار الاختلاف الذي يبذر بذور الخلاف ويذكي نار الفتنة تحت شعار فرّق تسد.
وما يذكره لنا التاريخ من تعايش سلمي بين هؤلاء واجتماعهم غالباً على أساس المشتركات لهو دليل على أصالة التعايش بينهم، وأن الخلاف عادة ما تستدعيه عوامل خارجية، سواء كانت تنطلق من داخل الجسد كالمتعصبين والمتشددين، أو التي تنطلق من خارجه كالمتآمرين. وهو ما يتطلب معالجة موضوعية لمسألة الأقليات تحفظ حقوقهم من جهة، وتمنع أي استغلال خارجي لأي خلاف داخلي من خلال منظمات محلية حقوقية كمؤسسات مجتمع مدني لها ارتباط بمؤسسات دولية رقابية لها فاعليتها القانونية وتأثيرها على مستوى القرار وحياديتها، من دون أن يتم استغلال هذه الانتهاكات ضد الدولة المعنية، بحيث يتم الرصد في تقرير من مراقبين محليين محايدين ورفعه إلى تلك المؤسسات الدولية، ومن ثم تقديم الحلول للدولة المعنية عبر الراصدين المحليين أنفسهم، من دون أي تدخل خارجي.
وبذلك تصبح مسألة الأقليات مسألة حقوقية إنسانية حقيقية وليست جسراً لعبور المتنفعين الرأسماليين للاستغلال والهيمنة.
ولكن هل القضية بهذه السهولة والمثالية؟
وهو سؤال أتركه للقارئ الكريم عل ذلك يستخرج دفائن العقل، أو يحاول استثارة الباحثين للإجابة.