الخطاب الإسلامي المعاصر وافتقاده فقه الأولويّات

الشيخ راشد الغنّوشي

رغم أنّ إنتاج القمح ونضح الماء ومقاومة الآفات وترويض الطغاة حتى يذعنوا لإرادة شعوبهم ورد الأعداء على أعقابهم خاسئين، وأمثالها، لا يتم إلّا بأعمال مثابرة ومنظمة وتضحيات جسام كفيلة بتغيير مجرى التاريخ، يبقى للكلام الصّادق المسدّد في اتّجاه العمل الصالح دوره في حركة التاريخ، باعتبار الإنسان كائناً ناطقاً.

وباعتبار أنّ الخطاب الإسلاميّ هو اليوم أوسع الخطابات سماعاً، كان قميناً بأهله، وبمن داخله قبل غيرهم أن يفحصوا إشكاليّاته سبيلا لتطويره من قبيل "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا".

وعندما نتحدّث عن إشكاليّات الخطاب الإسلاميّ المعاصر لا بدّ أن نأخذ في الاعتبار النّقطتين التّاليتين:

أ‌- لا نكون معنيين هنا بالحديث إلّا عن جوانب الخلل والنّقص في هذا الخطاب، وليس عن جوانب التفوّق والنّجاح التي هيّأته ليكون الأقرب إلى قلوب النّاس وفهومهم، والحامل الأكبر لهموم القطاع الأوسع من الجماهير وطموحاتها في العدل والحرية والكرامة واستعادة العزّة المهيضة والوحدة والاستقلال وتحرير فلسطين والعراق وكل شبر محتل من دار الإسلام.

ب- لسنا معنيين كذلك بالحديث عن كلّ تلوينات هذا الخطاب، وإنّما نحن معنيّون فقط بالحديث عن صنف واحد من الخطاب الإسلاميّ، هو خطاب التيّار الوسطيّ في الحركة الإسلاميّة، وهو التيّار الرئيس فيها. فما هي أهمّ جوانب الخلل في خطاب هذا التيّار الوسطيّ في التيّار الإسلاميّ؟

1- هو خطاب تغلب عليه المنازع القطريّة، التي نجحت الدّولة القطريّة -التي زرعها الاحتلال في أمتنا- في التحوّل من كونها أمراً واقعاً فرض على الأمة بالحديد والنّار إلى كونها ثقافة مقبولة، اتّخذت لها مواقع تزداد عمقاً واتّساعاً في عقولنا وقلوبنا ومواقفنا وخططنا، لدرجة تهدّد بإمكان أن يتكرّر في الدائرة الإسلاميّة ما كان قد حدث في الدائرة القوميّة، عندما حكم حزب البعث في القطرين الجارين: العراق وسوريا، فلم يكن ذلك الطريق الأقرب لوحدة القطرين، وإنّما لاندلاع عداوة قاتلة وقطيعة تامّة لم يقع تجاوزها إلّا بعد سقوط بعث العراق على يد قوات الاحتلال، فأمكن لأوّل مرّة تبادل السفراء بين القطرين.

وإذن، فليس حتماً لازباً أن يتمّ مثلاً تجاوز النزاع حول الصّحراء الغربية بين المغرب والجزائر فيما لو حكم الإسلاميون في القطرين، ولا النزاع حول حلايب، ولا يبعد أن يكون موقف إسلاميي الهند إزاء النّزاع على كشمير مختلفاً عن موقف إسلاميي باكستان. وفي الأردن واضح في العموم تمايز مواقف الفلسطينيين عن مواقف الشرق أردنيين. وإنّ ما أحدثته مقابلة كروية بين الجزائر ومصر من شرخ عميق ليس هناك ما يؤكّد أنّ ذلك لم يمسّ من قريب أو بعيد الإسلاميين في القطرين، والأمثلة كثيرة، بما يوجب على رجال الفكر والتربية في الحركة الإسلامية أن يتنبّهوا إلى خطر تغلغل سرطان التّجزئة في الثقافة الإسلاميّة المعاصرة بما يمسّ مبدأ عظيماً من مبادئ الإسلام، مبدأ وحدة الأمّة التي هي الترجمة الاجتماعيّة والسياسيّة لعقيدة التوحيد "وأنّ هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون". (الأنبياء/92).

كما يمثّل تهديداً لمصلحة استراتيجيّة للإسلام وأمّته في زمن يتّجه إلى التّكتّلات الدّولية وتجاوز الأوضاع القطريّة الضيّقة التي غدت أعجز من أن تضمن تحقيق مقوّمات الأمن القوميّ لأيّ قطر من أقطارنا على انفراد؛ ولذلك أقدمت الدول التي صدّرت لنا بل فرضت علينا هذه الدويلات القزميّة العاجزة على تليين مقدّس سيادة الدولة لصالح الانخراط في تكتلات عظمى.

وبدل أن نطوّر نظام الجامعة العربيّة ومنظّمة المؤتمر الإسلاميّ في اتّجاه تكتلات مصالح اقتصاديّة ودفاعيّة، تراجعنا إلى الوراء، فلم يعد أحد يتحدّث عن مؤتمر لوزراء الدفاع أو الاقتصاد، العرب أو المسلمين أو المغاربيين، وأفرغت مؤسّسات الوحدة القائمة من كلّ محتوى وحدويّ، فما بقي منها غير ألقاب في غير موضعها، كالهرّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد، فلا تحضر لا في الحرب ولا في السّلم. حتّى عندما فاوضوا العدو الإسرائيليّ، فاوضوه فرادى، فكان الاستسلام الذليل ثمرة زقّوماً من ثمار الدولة القطريّة.

2- هو خطابٌ يتضخّم فيه الجانب العقديّ التربويّ معزولا أو يكاد عن محمولاته الاجتماعيّة السياسيّة. وبسبب أهمّية العقيدة والتربية في بناء الإسلام، فإنّ أثرهما ينبغي أن يمتدّ ليغطّي ليس السّلوك الفرديّ للمسلم وحسب، وإنّما يجب أن يتجاوزه ليلوّن كلّ مواقفه الاجتماعيّة والسياسيّة، وإلّا وقعنا في ضرب من العلمنة والنّفاق وازدواج الشخصيّة في اتّجاه تفريغ الإسلام من مقاصده الكبرى، في العدل والشورى والوحدة، التي جاء ليرسيها في الأرض.

وخلافاً لما أفضت إليه المجادلات الكلاميّة التي جاءت ردّاً على فتنة الخوارج في تكفير المسلم بالذنب واستباحته جملةً، من الفصل بين الإيمان وبين العمل، على نحو لا يضرّ إيمان من نطق بالشّهادتين، عمل، أيا كان، على خلاف ذلك جاء تعريف الإيمان، حيث ورد في القرآن مقترناً بالعمل بدءاً من سورة البقرة (1و2) وسورة الأنفال (1و2) والحج (الآية 32) والمؤمنون (من الآية 1 حتى 7) والحجرات (الآية 14) والمعارج (من الآية 21 حتى 34).

ولقد حمل القرآن من أوّله إلى آخره على النموذج الفرعونيّ للحكم، الجامع بين التألّه العقديّ والاستبداد السياسيّ والاستغلال الاقتصاديّ في تحالفه مع قارون، وعلى أكلة أموال النّاس بالباطل على يدّ الحكّام ورجال الدّين، وذلك انتصاراً لإيمانٍ مقترنٍ بالحريّة والعدالة، وظهر ذلك أجلى ما يكون في قصار السّور التي هي في متناول كلّ المسلمين.

اقرأ مثلاً سورة الهمزة، وسورة الماعون، حيث يأتي تعريف الدّين تعريفاً اجتماعيّاً، فالمكذّب بالدّين ليس هو من لا يؤمن بالله واليوم الآخر كما هو التعريف العقديّ الكلاميّ، وإنّما هو أيضاً من يحتقر اليتيم ولا يُبالي بالمسكين ويمتنع عن بذل العون للمحتاج، فلا تنفعه إذن صلاة يُرائي بها.

خلاصة ذلك أنّ الإيمان لا يرد في القرآن إلّا مقترنا بالعمل الصّالح، وكذلك الأمر في عموم السنّة، إلاّ أنّ ضروباً من الفتن أفضت إلى تفريغ الإيمان من محمولاته المجتمعيّة السياسيّة والاقتصاديّة خاصّة، وفي أحسن الحالات تمّ اختزال العمل الصّالح في الأعمال الروحيّة والفرديّة، في حين أنّ عموم الخطاب القرآنيّ موجّه إلى جماعة وأمّة ممثلة في دولة، لا يمكن للإسلام أن يعمل عمله في الأرض دون قيامهما، ولذلك ما فتئ صاحب الدّعوة يوصي حتّى أيّامه الأخيرة بالجماعة، ويحذّر من النّكوص إلى الجاهليّة "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة"...

ورغم الاتّساع المتواصل لهذه الثقافة الإسلاميّة المجتمعيّة الثّائرة، فإنّ ثقافة الانحطاط التجزيئيّة لا تزال منغرزة في الضمير الجمعيّ الذي لا يزال الصلاح عنده مرتبطاً بالتديّن الفرديّ، بل في كثير من الأحيان حتى بالدروشة، ومهما تحرّرت الحركة الإسلامية من هذا التراث الانحطاطيّ لا تنفكّ عن كونها منتوجاً لبيئتها، مهما ادّعت خلاف ذلك، لا سيّما وبضاعة التثقيف السياسيّ المجتمعيّ في السّاحة الإسلاميّة لا تزال ضحلة، بما يُفسح المجال أمام جماعات إسلاميّة لتنتهج سياسات في منتهى التناقض، ظهر ذلك سافراً في الجزائر صبيحة الانقلاب على الديمقراطيّة وعلى الإسلام من طرف طغمة عسكريّة مدعومة من جهات لا تخفي عداءها للإسلام، فكان من الجماعات الإسلاميّة من أعلن الجهاد، وجماعات أخرى حالفت الطغمة وأخرى اكتفت بالمعارضة السياسيّة، وأخطر من ذلك وأدهى ما حصل في العراق إزاء الإحتلال، حيث قدّمت جماعات إسلاميّة على ظهر دباباته، وحرصت أخرى على الحصول على نصيب من المغنم، وثالثة أعلنت الجهاد.

دلالة ذلك واضحة في ما دعاه بعض المفكّرين الإسلاميين (د. حاكم المطيري) بغياب العقيدة السياسيّة في ثقافة الإسلاميين، بما يجعل مسالكهم السياسيّة قابلة لكلّ صورة تقريباً، ثقافة تبريريّة ذرائعيّة يمكن أن تستخرج منها أشدّ المواقف تناقضاً، وهو أمر خطير ومعيب.

ومن قبيل تضخّم الجوانب العقديّة معزولة عن محمولاتها المجتمعيّة ومقاصدها العامّة، الاكتفاء من الدول من أجل تمتّعها بالصّفة الإسلاميّة أن تحلّي دساتيرها بالإسلام، وتحرص في المناسبات على حضور عمائم، لا يضرّ انتماءها بعد ذلك أيّ خيانة تقترفها في حقّ مقوّمات الأمن القومي للأمّة، إذ توالي أعداء الأمّة وتتورّط في الكيد لشعب مسلم وتفرض الحصار عليه، أو تقترف جريمة التّعذيب حتّى الموت، أو تمارس النّهب الواسع لثروات الشّعب وأقوات عامّة النّاس، أو تخرج بناتها يرقصن في استقبال جنرال محتلّ.

3- غلبة خطاب الزجر والعقاب: إنّ تفريغ الإسلام من محتوياته المجتمعية (العدل والشورى والوحدة) كاد أن لا يبقي للشّريعة من معنى غير كونها نظاماً عقابياً (إقامة الحدود) في غفلة عن أن هذه العقوبات إنّما هي جزء بسيط من الشّريعة لا يلتجأ إليه إلّا في حالات استثنائيّة، بعد أن تكون شريعة العدل ومناهج التربية والتثقيف قد وفّرت لكلّ مواطن ظروف العيش الكريم والتربية السليمة، فإذا أقدمت بعد ذلك نفوس مريضة بالطمع، على العدوان وجب ردعها، والرّدع هو الوظيفة الأساسية لهذه العقوبات "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" (البقرة/179)، بما يجعل هدف الشريعة ليس إيقاع هذه العقوبات، وإنّما درؤها بأيّ شبهة،"ادرؤوا الحدود بالشبهات"، وذلك من طريق ما توفّره شريعة العدل من مناخات وظروف عافية واستقامة وتقوى.

وعندما عملت آليّات الإسلام مجتمعة في العهد النّبوي والرّاشدي لم نر الأيدي والأرجل مكدّسة، ولا أسواط الجلاّدين، ولا المشانق منتصبة في كلّ حي بالمدينة، بل كادت وظيفة التقاضي تختفي لانعدام الحاجة إليها، حتى أنّ حوادث إقامة الحدود القليلة جدّا إنّما كانت بطلب ملحّ متكرر من الواقعين فيها ابتغاء التطهّر الذاتيّ، مثل ما حصل من الصّحابيين ماعز والغامدية، التي أثنى النّبي عليه السّلام عليها، فقال "قد تابت توبة لو وزّعت على أهل المدينة لوسعتهم"، وذلك تأكيداً لحقيقة أنّ طبيعة المشروع الإسلاميّ أنّه قبل كلّ شيء مشروع تربويّ مجتمعيّ، قبل أن يكون مشروعاً سلطوياً، مشروعاً تربوياً يتّجه إلى النّفوس وإلى العلاقات لإصلاحها من طريق الإقناع والحضور الإلهيّ والقدوة الحسنة، وتوفير حاجات الناس الأساسية وتوفير المناخات النّظيفة المعينة على الصلاح.

فالإنسان المؤمن والمجتمع القوي المتماسك لهما الأولوية على السلطة والحكم، خلافا لمشاريع التّحديث التي عوّلت في الإصلاح على الدّولة وأجهزتها، أي على القمع والتسلط. ولأن المشروع الإسلامي كان ولا يزال ضحية لتسلّط مشاريع الدولة العلمانية التي فرضت على شعوبنا بالحديد والنار، فلا عجب أن يتضخّم حضور الدولة في الثقافة الإسلامية المعاصرة، لا سيما وقد برزت خطابات حتى من داخل الإسلام بأثر الغزو الأجنبي تنكر موقع الدولة في الإسلام، وتؤكّد أن الإسلام مثل غيره من الديانات ليس سوى رسالة روحية، وأنّ رسوله لم يكن سوى مبلّغ عن ربّه، وليست الدولة من جوهر تلك الرّسالة، وإنّما هي أمر ملحق مستحدث.

فكان ذلك سبباً آخر بدافع رد الفعل لتضخم خطاب الدولة في فكر الإسلاميين المعاصرين، وبخاصّة فكر سيّد قطب والمودودي. ومن أثر هذا التّضخّم تمحور المشروع الإسلاميّ حول الشّريعة واختزال الشّريعة في فقه الحدود، بينما الشّريعة هي معنى آخر من معاني الإسلام، فهي عقائد وشعائر ونظم وأخلاقيّات، هي عقائد وأحكام وتزكية، هذا الاختزال هو الذي جعل إسلاميي السّودان الذين غلبت على مشروعهم الصبغة القانونيّة ممثلة في الشّريعة، أن يلفوا أنفسهم في النّهاية أمام خيار صعب، بين التمسّك بالشّريعة بهذا المعنى أو التمسّك بوحدة السودان، إذ رفض الجنوبيّون البقاء في دولة تحكمها "الشريعة"، وهكذا قاد الفهم المبتسر للشّريعة إلى تمزيق وطن استلمه الإسلاميّون موحّداً، سواءً في زمن احتلاله أو استقلاله، ليتمزّق بين أيديهم بأثر هذا الوضع المشوّه للشّريعة، على أنّها جملة من العقوبات والنقيض للوحدة، مع أنّ الوحدة من أعظم مقاصدها، وليست وحسب جزءاً منها وبُعداً من أبعادها.

4- خطاب يعطي الأوليّة للظواهر والجزئيّات: وهذا المعنى المبتسر للشّريعة باعتبارها عقوبات وزواجر جعله:

أ‌- يضيق بالحريّات الفرديّة والجماعيّة ويعمل على تضييقها إلى أبعد الحدود، لدرجة أنّ بعض الإسلاميين نفوا إسلاميّة هذا المفهوم من شريعة الإسلام، رافعين مثل حزب التحرير شعاراً بغيضاً "لا حرّيّة في الإسلام"، بل تقيّد بالشريعة، وهكذا وضعوا الإسلام مقابلاً ونقيضاً للحرّية، في زمن ثورات الشّعوب ضد قوى الاستبداد والهيمنة، وبينما الإسلام وأهله أكبر ضحايا الاستبداد وأكثر المستفيدين من الحرّية لدرجة أنّهم يفرّون من أوطان إسلامية باحثين عن ملجأ في كنف دول غير إسلامية أصلاً، تدين بالدّيمقراطية العلمانية.

وبسبب الارتباط التّاريخي في البيئات الغربية بين الديمقراطية والعلمانية، مع أنّه ارتباط ليس ضرورياً ولا محتماً، فقد كفروا بالديمقراطيّة، متغافلين عن طبيعة الإسلام أنّه ثورة ضد الفراعين والقوارين، وأنّ النّبي عليه السّلام إنّما هاجر أحبّ بلاد الله عليه أسيفاً، بسبب استبداد أهلها، ورفضهم دعوته، أو التخلية بينه وبين النّاس، وأنّ الإسلام يزدهر حيث تزدهر الحرّية، وتنكمش دعوته في ظلّ الاستبداد، بما يجعل الحرّية ليست مجرّد مطلب من مطالبه الضروريّة لدعوته، بل هي مقصد من مقاصد شريعته، كما أكّد علماء مقاصد الشريعة (ابن عاشور).

ب- التركيز على الظواهر والجزئيّات بدل الكليّات والمقاصد، وهو ما جعل المعارك حول قضايا الحجاب والنّقاب واللّحية والأثواب والخمور تحتلّ الصّدارة لدى قطاع واسع من أصحاب المشروع الإسلامي، فيبادرون بمجرّد استلامهم للسلطة في أيّ قطر إلى تجسيد مشروعهم هذا الشّكلاني، فيفرضون على النّساء الحجاب أو النّقاب، ويغلقون الخمّارات ونوادي الترفيه، وقد يبلغ تشدّدهم حدّ غلق دكاكين الحلاقة ودور السينما، بل قد يطردون النّساء من مواقع العمل.

ولقد رأينا في مجتمع يطبّق الشريعة بهذا المعنى الشّكلانيّ الزجريّ كيف يتفلت النساء بالجملة من هذه القيود بمجرد أن ترتفع بهنّ الطائرة في اتّجاه أوروبا، وكيف يحتدم صراع لا يفتر بين البوليس الأخلاقيّ أو جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين مجتمعات ضائقة ذرعاً بالقيود التي لا تأتي النّاس من الداخل، من باب حرّياتهم، وإنّما من الخارج بواسطة الزّجر والتّرهيب، في ذهول عن أنّ النّاس مفطورون على الحرّية، مبغضون لكلّ ما يفرض عليهم فرضاً مهما كان في مصلحتهم، وأنّ الإسلام لو كان رصيده في الحياة والاستمرار الدولة لانتهى وأقفرت سوقه، وقد انتهت السلطة إلى خصومه غالباً، فكيف يفسّر الإقبال المتزايد عليه وامتداده في العالم رغم ما يلفاه من مقاومة خصومه؟ إنّ جزئيّات الشريعة مثل قضايا الأزياء والمظاهر هي جزء من الشريعة، ولكن موقعه منها بمثابة موقع الديكور من البيت ليس الأساس فيه ولا الأركان ولا السقف.

مهمّ جداً أن يحتلّ فقه الأولويّات كما تحدّث عنه الشيخ العلامة القرضاوي مكانه في ثقافة المسلم المعاصر، حتّى لا تختلط عليه الأوزان المختلفة للشريعة، فيقدّم الخفيف على الثقيل، والأقلّ أهمّية على المهمّ، والباطن على الظاهر. بينما القرآن صريح في التوجيه إلى هذا التمييز. قال تعإلى "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله وأولئك هم الفائزون". (التوبة/18 و19).

5- خطاب وعظيّ تمجيديّ دفاعيّ: معظم المنتوج الثقافيّ الإسلاميّ المعاصر ذو منزعٍ دفاعيّ عن الإسلام رداً على منتقديه، وتمجيداً له ولتاريخه. وإذا كان ذلك مفهوماً في مرحلة اشتداد الغزو الثقافيّ الأجنبيّ والاختراق الواسع للأجيال الجديدة ولعالم النّخبة وانحسار الحركة الإسلاميّة حتّى الربع الأخير من القرن العشرين، فإنّ ذلك لم يعد مستساغاً مع تراجع مدّ الفكر الغربي وتصاعد مدّ الإسلام، لم يعد مستساغاً الاكتفاء باجترار أدبيّات تمدح الإسلام وتمجّد تاريخه، دونما إضافة تذكر لما أنتج الروّاد جيل الجامعة الإسلامية، والجيل الذي تلاهم.

فالفكر النّقدي غريب، والدّراسات الميدانية لأوضاع العالم الإسلامي ضئيلة جداً، اكتفاء بحديث غالبه مكرور عن عقائد الإسلام، وعن المرأة في الإسلام، والاقتصاد في الإسلام والحكم في الإسلام والتربية في الإسلام والبيئة في الإسلام. أمّا الدّراسات الميدانية لاقتصاد هذا البلد أو ذاك أو لأوضاعه التربوية أو لأوضاعه السياسية والقانونية والاجتماعية ولتاريخه ولعلاقاته الدولية ولشبابه ونسائه ولثقافته... إلخ، فهي قليلة جدّا، ربّما بسبب غلبة التخصّصات الفنّية والعلميّة التي تستقطب معظم النّخبة الإسلامية: أطباء ومهندسين وفنيين وموظفين ومدرّسين. وذلك على حساب التخصّصات في العلوم الإنسانيّة والآداب والفنون، وهو ما يهدّد الخطاب الإسلامي بالسطحيّة والشكلانيّة والتكرار، الأمر الذي ربّما أسهم في تزهيد الأجيال الإسلاميّة في المطالعة الجادّة مكتفية بما تضخّه وسائل الإعلام الحديثة حتى غدت المكتبات في البيوت مجرّد قطعة من الأثاث وصور تزيينية، وجعل الجدل يحتدم بين تيّارات الصّحوة بسبب غلبة التسطيح والتّمجيد، ونتج عن ذلك أيضاً صعوبة الحوار بين تيّارات الصّحوة بسبب غلبة منزع التبسيط والشكلانيّة.

6- خطاب عابس مباشر: رغم أنّ معجزة الإسلام القرآن هي قبل كلّ شيء، من طبيعة بيانيّة جماليّة، احتلّ فيه القصص مكاناً متميّزاً، ورغم اجتهاد كتب التفسير في إبراز معالم من هذه المعجزة البيانيّة، إلّا أن الفقه التشريعي مثّل القسم الأعظم من أقسام الثقافة الإسلاميّة، في حين أنّه من بين أكثر من ستّ آلاف آية لم تزد آيات التّشريع عن ستّ مائة.

صحيح أنّه قد نمت إلى جانب علوم الفقه علوم كونيّة وتاريخيّة وأدب رحلات ودواوين شعريّة -القليل منها هو ما كان يمتح صوره من القرآن الكريم وقيمه، وليس من صور وقيم وأغراض الشّعر الجاهليّ-، ومع ذلك ظلّ الخطاب الإسلاميّ أساساً خطاباً مباشراً ذا طبيعة وعظيّة، بينما ظلّ إنتاج الإسلاميين في كثير من الفنون الجميلة ضعيفاً أو ضئيلاً مثل الدراما والتصوير والموسيقى والشّعر، ربّما بسبب عوائق، حيث ظلّ الخلط قائماً بين عدد من الفنون وبين المناخات العلمانيّة أو الماجنة التي تلبّست بها، ما زهدّ الصّالحين فيها ونفّرهم منها فاجتهدوا في الصّرف عنها وتشديد النّكير على المشتغلين بها أو المستهلكين لها مفوّتين على الإسلام وصحوته أبواباً واسعة للخير والدّعوة.

وليس يجهل منصف ما كان لفيلم "الرّسالة" من أثر عظيم في الدّعوة إلى الإسلام، مع أنّ الفنّ الإسلاميّ في هذا المجال، أي ما يمكن تسميته بالسينما الإسلاميّة أو الدراما الإسلامية ما ينبغي أن يقتصرا على رواية التاريخ الإسلامي، فالفنّ الإسلامي كما بيّن الأستاذ محمد قطب في "منهج الفنّ الإسلامي" ليس هو بالضرورة الذي يتحدّث عن الإسلام ورموزه، وإنّما هو كلّ فنّ ينطلق من قيم الإسلام في الإيمان ونصرة الحق والعدل والخير ومحاربة الشّر والفساد والظلم.

ومع أنّ فتاوى لأعلام الفقه الإسلاميّ المعاصر مثل فتاوى الشيخ القرضاوي ميّزت بين أصل الحلال في الموسيقى والتصوير ومشاركة المرأة في مجال الفنون وهو الأصل، وبين ما يمكن أن يلابس ذلك من منكرات تخرجها عن الأصل، فلا يزال قدر غير قليل من التجهّم في الوسط الإسلامي إزاء الفنون الجميلة، بينما القناعة تزداد بضرورة تقديم البديل الإسلاميّ للاستخدام المعادي للفنون من قبل أعداء الإسلام.

إنّ نمو الإنشاد الإسلاميّ بما في ذلك الذي يستخدم الآلات، ودخول جريئين ميدان الدراما كما حصل في رمضان الماضي مع مسلسل "القعقاع" واعتزام آخرين تقديم مسلسل عن الخليفة الفاروق، وآخرين تقديم فيلم عالميّ عن حياة الرسول الأعظم عليه السّلام. خطوات مهمّة على طريق تطوير الخطاب الإسلاميّ المعاصر ليملأ فراغاً خطيراً في الثقافة الإسلامية المعاصرة، بما يحقّق شروط النّهوض الشّامل وموعودات الله ورسوله في اندياح عدل الإسلام ورحمته في العالمين "والله متمّ نوره ولو كره الكافرون".

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=6545

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك